يخبرنا التاريخ أن الدول لا تكون عظيمة بالفعل إلا إذا استمدت قوتها من الداخل، وهذا ما تحاول الصين تحقيقة على مدى 40 سنة من الإصلاحات والإنجازات غير العادية في التنمية الاقتصادية، لتصبح محورًا رئيسيًا في سوق التجارة العالمية، خاصة بالنسبة إلى شركات التصدير في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان الذين زودوا مصانعها ومتاجرها بأحدث الأدوات والآلات التكنولوجية المطلوبة.
حيث حققت الشحنات اليابانية إلى الصين رقمًا قياسيًا بلغ 130 مليار دولار عام 2017، والأمر نفسه حققته المبيعات الكورية التي ارتفعت بنسبة 70% خلال 10 سنوات من التبادل التجاري، وذلك بانضمام تايوان إلى نفس الدائرة المربحة.
الصين ليست زبونًا وفيًا لأسواق التكنولوجيا الأجنبية
تزامن الارتفاع الكبير في المبيعات إلى الصين من آلات ومعدات ورقائق إلكترونية مع زيارة أكثر من 14 مليون صيني لدول شرق آسيا العام الماضي؛ ما جعل اليابان تصيغ كلمة جديدة اُبتكرت من أجل التعبير عن القوة الشرائية الصينية في أراضيها وهي“bakugai” بمعنى “الشراء المتفجر”.
والحقيقة تقول إن هذه الأحداث تتناقض مع الطموح الصيني الذي يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع التكنولوجيا خاصة من صناعاتها المحلية، دون الاعتماد على أطراف الاقتصادات الأجنبية، وبدعم من الصندوق الصيني الذي وصلت تمويلاته إلى 31.5 مليار دولار، حاملةً معها توقعات بتحولات جديدة في الاقتصاد الصيني.
المجالات التي ستنطلق فيها الصين هي “السيارات الكهربائية وذاتية القيادة والروبوتات والخلايا الشمسية وغيرها من أجهزة الاستشعار الإلكترونية والأدوات االمستخدمة في الأجهزة الطبية”
وبناءً على هذا، فإن الصين تسعى لتكون منافسًا ومُصِدرًا، لا أن تكون عميلًا ومستوردًا، وهذا التحدي ينطبق على الشركات الأوروبية والأمريكية، وليس فقط دول شرق آسيا، ويشير إلى ذلك الخبير الاقتصادي توم أورليك قائلًا: “سلاسل التوريد العالمية التي تمتلكها كوريا واليابان وتايوان وأمريكا وألمانيا، أجزاء قليلة من السلاسل التي تهدف الصين إلى امتلاكها، وما هي إلا مسألة وقت فقط قبل أن تبدأ الصين بتصنيع جميع المنتجات الإلكترونية محليًا لتصبح في نهاية المطاف مصدرة للسيارات والطائرات أيضًا”.
ويقول محللون آخرون إن المجالات التي ستنطلق فيها الصين هي “السيارات الكهربائية وذاتية القيادة والروبوتات والخلايا الشمسية وغيرها من أجهزة الاستشعار الإلكترونية والأدوات االمستخدمة في الأجهزة الطبية”.
ورغم هيمنة اليابان على صناعة أجهزة الاستشعار، فمن المتوقع أن تتفوق الصين ببطء عليها خلال السنوات الخمسة المقبلة، وذلك تبعًا لطابور التحديات التي تقف أمام أبواب الشركات الصينية، فعلى سبيل المثال، لا يزال عليهم بناء ثقة مع المستهلكين وإظهار معايير لحماية خصوصية المستهلك والملكية الفكرية، لجذب الشركات من اليابان وكوريا وتايوان إليها.
خصصت الحكومة الصينية ميزانية بقيمة 7.5 مليارات دولار، ووظفت نحو 96 ألف عامل في المصنع الذي من شأنه أن يطور المحركات النفاثة العسكرية والتجارية بمعايير عالمية، وبالتالي يمكنها زيادة قوتها العسكرية
وبحسب رويترز، فإن الصين بدأت بالفعل منذ عامين في بناء أول مصنع لمحركات الطائرات لخدمة السوق المحلية دون الحاجة إلى الاستيراد من الموردين الأجانب، إذ اعتادت الصين الاعتماد على روسيا وفرنسا وأمريكا في استيراد محركات الطائرات.
ولتحقيق غاية الصين في الاستغناء عن المنتجات الأجنبية، خصصت الحكومة الصينية ميزانية بقيمة 7.5 مليار دولار، ووظفت نحو 96 ألف عامل في المصنع الذي من شأنه أن يطور المحركات النفاثة العسكرية والتجارية بمعايير عالمية، وبالتالي يمكنها زيادة قوتها العسكرية.
ما مشكلة أوروبا وأمريكا مع الأهداف الصينية في قطاع التكنولوجيا؟
يقول أدميرال هاري هاريس المرشح أن يكون السفير القادم لواشنطن في كوريا الجنوبية، إن “حلم الهيمنة” الصيني في آسيا هو أكبر تهديد لأمريكا وتحدٍ لنفوذها في المنطقة”، فلقد أشارت التوقعات السنوية التي قدمتها شركة ستراتفور لعام 2018 أن الصين سوف تستفيد من الظروف الاقتصادية الحاليّة وستصارع في نفس الوقت لنزع القوة الاقتصادية من بين يدي الولايات المتحدة الأمريكية، وتمنح نفسها فرصة التوغل في سوق دول جنوب شرق آسيا الذي يضم أكثر من 620 مليون نسمة.
جدير بالذكر، أن نمو الاقتصاد الرقمي المتزايد في هذه المنطقة زاد من الأطماع التجارية فيها، فبحسب إحصاءات العام الماضي، شهد سوق دول جنوب شرق آسيا نموًا بنسبة 50% تقريبًا في قاعدة المستهلكين.
وعودة للحلم الصيني، فمن المرجح أن تقود هذا الانتصار الاقتصادي الصيني شركات عملاقة مثل بيدو وعلي بابا وتينسنت (شركات تجارية تركز على قطاع الهواتف المحمولة والقطع الإلكترونية) التي تبلغ قيمتها السوقية مجتمعة أكثر من تريليون دولار، وتعتبر واحدة من أهم عشر شركات تجارية في العالم؛ ما يجعلها في منافسة قريبة من شركات أمريكية مثل جوجل وفيسبوك وأمازون، وفيما يخص سوق الهواتف الذكية، تتصدر أبل الأمريكية وسامسونغ الجنوب كورية القائمة، لتتبعها الصين بثلاث شركات وهم هواوي وشياومي وأوبو.
في أثناء انهماك الصين في تطبيق خططها في أسواق التكنولوجيا المحلية والدولية، كشفت تقارير أن تقدم الصين تقنيًا قد يزيد من حدة التوترات التجارية بينها وبين أمريكا وأوروبا بسبب المخاوف الأمنية من استخدام هذه التكنولوجيا والذكاء والقوة السوقية في خدمة الجمهورية الصينية على حساب الأمن القومي الأمريكي والأوروبي.
وتبعًا لهذه المخاوف، صرحت لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية بضرورة تكثيف الكونغرس الأمريكي لعمليات تدقيق ومراجعة الاستثمارات الأجنبية التي تكون ملك شركات صينية، وخاصة المدعومة من الدولة الصينية نفسها، وأكدت وجوب حظر اقتناء أصول أمريكية من هذه الجهات للحد من أي مخاطر أمنية مستقبلية.
ولهذا تبدو الولايات المتحدة مستعدة تمامًا لزيادة إجراءات التدقيق على الاستثمارات والاستحواذات الصينية في وادي السيليكون بالتحديد، من أجل حماية الابتكارات والبراءات التكنولوجية الحساسة، فمثلًا أوصت وزارة الدفاع بأهمية تقييد الاستثمارات الصينية في بعض التكنولوجيات التي قد تستخدمها لتعزيز نفوذها وقدرتها العسكرية وتساعدها على التدخل في الأمن الأمريكي.
أمريكا تعمل على تغيير سياسة الهجرة لطلاب الدراسات العليا القادمين من الصين والسماح لهم بالبقاء في الولايات المتحدة، بدلاً من إعادتهم إلى بلادهم، وبذلك تكون حافظت على المهارات التي تعلمها هؤلاء الطلاب وتضمن عدم تعرضها لأي نوع من المنافسة فيما بعد
وليس هذا فقط، فأمريكا تعمل على تغيير سياسة الهجرة لطلاب الدراسات العليا القادمين من الصين والسماح لهم بالبقاء في الولايات المتحدة بعد الانتهاء من دراستهم، بدلاً من إعادتهم إلى بلادهم، وبذلك تكون أمريكا حافظت على المهارات التي تعلمها هؤلاء الطلاب وتضمن عدم تعرضها لأي نوع من المنافسة فيما بعد.
ووفقًا لهذه السياسات، من المحتمل أن يؤدي هذا التدقيق المتصاعد في صفقات الصين وتحركاتها إلى تهدئة طموحاتها قليلًا، وبطبيعة الحال، قد يبطئ من نموها الاقتصادي، لكن بعض الخبراء يقترحون سيناريوهات أخرى، تحذر من هذه القوانين والعراقيل الأمريكية التي قد تخلق رد فعل قوي لدى الصين ويتولد عنها تداعيات اقتصادية لا حاجة لها.
جدير بالذكر أن الصين جعلت الولايات المتحدة الوجهة الأولى لاستثماراتها الأجنبية عام 2016، بقيمة 45.6 مليار دولار أمريكي، وبلغ إجمالي استثماراتها العام الماضي من شهر يناير إلى مايو نحو 22 مليار دولار، وهذا يعني زيادة بنسبة 100% مقارنة مع 2016 من نفس الفترة.