“القدس عاصمة فلسطين الأبدية”.. جملة لم تفارق أفواه الساسة الأتراك خلال خطاباتهم السياسية أمام الجماهير المحتشدة من أجل تأكيد الدعم التركي لحق فلسطين الشرعي في القدس عاصمة أبدية، ورفض محاولة الولايات المتحدة شرعنة القرار الأمريكي بشأن تسمية القدس “عاصمة إسرائيل” من خلال نقل سفارتها إليها.
لا داعي للإمعان في الحديث عن عدم شرعية القرار الأمريكي فيما يخص نقلها للسفارة، فجميع القرارات الأممية المُتخذة بخصوص القضية الفلسطينية والمبادئ والأخلاقيات تشدد على أن “إسرائيل” دولة محتلة للقدس عاصمة فلسطين.
وعلى الرغم من توجيه تركيا دعمها لأصحاب القدس الشرعيين، فإن ذلك لم يرق لـ”إسرائيل” التي ذهبت بالتلويح لطرح “مذابح الأرمن” التي تدعي أرمينيا بأن الدولة العثمانية ارتكبتها بحق الأرمن ما بين 1915 و1923، “للكنيست” للاعتراف بها، ومساندة أرمينيا في مطالبة تركيا بتعويضات.
وفيما كان الكنيست يتحضر لطرح الأمر كمشروع برلماني، تحركت الحكومة الإسرائيلية لرفض هذه التحضيرات، في سبيل الحفاظ على علاقاتها ـ المتدهورة أصلاً ـ مع تركيا، حيث صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي، بأن “الكنيست” يستخدم قضية تاريخية قانونية لم يُبت فيها بعد، في خدمة مواقف سياسية، مشيرًا إلى أن الأمر يضر بها في المقام الأول.
الطرفان، رغم حجم الخطابات الدبلوماسية الحادة، يتفاوضان للتوصل إلى اتفاق ينظر في آلية تصدير الغاز الطبيعي لـ”إسرائيل” نحو دول الاتحاد الأوروبي، عبر الأراضي التركية
لقد كشف أقصوي في تصريحاته السبب الأول لتراجع “الكنيست” عن اتخاذ القرار، ففتحه هذه الصفحة يفتح الباب أمام تركيا وغيرها من الدول المساندة للقضية الفلسطينية، بتحويل المجازر التي ارتكبتها بحق الفلسطينيين إلى قضايا سياسية يُلوح بها ضدها، وتُطرح للبرلمان للتصويت عليها ضدها، بمعنى يمكن أن تتبع تركيا سياسة “الرد بالمثل”، وذلك لا يصب في صالح “إسرائيل”.
أما العامل الثاني فيكمُن في المصالح العليا لها مع تركيا، فالطرفان، رغم حجم الخطابات الدبلوماسية الحادة، يتفاوضان للتوصل إلى اتفاق ينظر في آلية تصدير الغاز الطبيعي لـ”إسرائيل” نحو دول الاتحاد الأوروبي، عبر الأراضي التركية، كما ينشدان التوصل إلى ارتباط اقتصادي وثيق يتم من خلال اتفاق يرعى مصالح الطرفين فيما يتعلق بعمليات تنقيب واستخراج الغاز الطبيعي بالقرب من جزيرة قبرص.
وفيما يخص العامل الثالث، نجد أن “إسرائيل” تغطي 40% من حاجتها للنفط عبر الاستيراد من أذربيجان التي تتهم أرمينيا بارتكاب جرائم فظيعة بحق المواطنين الأذريين العُزل في منطقة خوجالي عام 1992، كما أن أذربيجان تحاذي إيران، ولا تربطهما علاقات وثيقة؛ ما يجعل “إسرائيل” تنظر إلى أذربيجان على أنها دولة يمكن التوافق والتحالف معها دبلوماسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وبتلك الاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية مع تركيا وأذربيجان، تتخوف “إسرائيل” من النتائج العكسية لتلك الخطوة.
والعامل الرابع يتعلق بالملف السوري الذي ترغب “إسرائيل” في تسويته وفقًا للحد الأكبر من مصالحها القومية، وفي ضوء ذلك، تحاول الاستفادة قدر الإمكان من توجه الإدارة الأمريكية الحاليّة ضد النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة بشكلٍ عام.
وتعي أن المصلحة التركية أيضًا تقوم على تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا قدر الإمكان، كما تُدرك أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تركيا، لتثبيت وجودها في الشمال السوري لمرحلة ما بعد التسوية، نظرًا لموقع تركيا الجغرافي الإستراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة التي قد تستفيد منه والمجتمع الدولي في عملية إعادة الإعمار، وفي عمليات التحرك اللوجستي في حال ثبتت قواعدها في سوريا، وبذلك يبدو أن “إسرائيل” تضع هذه النقاط في عين الاعتبار، للحفاظ على تحرك تركيا في سوريا لصالحها وحلفائها قدر الإمكان.
يعتقد بعض الساسة اليهود بأن الاعتراف بمأساة الآخر ووصفها “بالإبادة الجماعية” يقلل من أهمية مأساتك، ويفقدها القيمة حول العالم، إذ ستصبح مظلوميتك ليس الوحيدة، وبالتالي لن يصبح لك الحق في فعل كل ما تريد بالاستناد إلى هذه المظلومية
العامل الخامس ربما يقوم على عقلانية ومؤسساتية أنظمة الحكم في كلا البلدين، فبينما يحرص البرلمانيون الذين يمثلون الجانب السياسي المُنتخب، على اتباع سياسة تخاطب ود الشعب، يحاول البيروقراطيون “موظفو مؤسسات الدولة” لعب دورًا فاعلاً في الحفاظ على نطاق المصالح المشتركة بين البلدين، انطلاقًا من حرصهم على السياسات العليا للدولة التي يرون أنه لا بد من تجنيبها، نسبيًا، المسار السلوكي للسياسيين.
العامل السادس يكاد يقف على عدم رغبة عدد واسع من الساسة “الإسرائيليين”، لا سيما اليمين، في صنع بديل لما يُسمى “بالمحرقة اليهودية” التي يدّعي اليهود ارتكابها من هتلر ضد اليهود في ألمانيا، ومن خلالها تكتسب “إسرائيل” مظلوميتها، وتحاول تبرير كل ما تقوم به بالإشارة إلى تخوفها من تكرار سيناريو هذه المحرقة بحق اليهود.
فعلى ما يبدو يعتقد بعض الساسة اليهود بأن الاعتراف بمأساة الآخر ووصفها “بالإبادة الجماعية” يقلل من أهمية مأساتك، ويفقدها القيمة حول العالم، إذ ستصبح مظلوميتك ليس الوحيدة، وبالتالي لن يصبح لك الحق في فعل كل ما تريد بالاستناد إلى هذه المظلومية.
في الختام، لا غريب على الكيان الصهيوني أو “إسرائيل” توظيف ملف تاريخي قانوني في قضية سياسية، فهي دولة أمنية براغماتية تُقدم مصالحها على جميع الاعتبارات والمبادئ، لكن يبدو أن بعض العوامل التي تجمع بها مع تركيا وأذربيجان ـ الحليف الأكبر لتركيا ـ تحول دون ذلك.