تعيش المنطقة حالة غير مسبوقة من التوتر على خلفية الإبادة الإسرائيلية في غزة، واغتيال الاحتلال للقائد في “حزب الله”، فؤاد شكر، بغارة إسرائيلية على بيروت، وبعدها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في قلب العاصمة الإيرانية طهران، وقبلها شنَّ الطيران الإسرائيلي سلسلة غارات جوية عنيفة على مدينة الحديدة معقل الحوثيين في اليمن.
وفي الأحداث السابقة توعّدت كل الأطراف بالردّ والتصعيد وتكبيد “إسرائيل” أثمان باهظة، خصوصًا بعد أن تعهّد المرشد الأعلى لإيران بالانتقام لاغتيال هنية، ما أجبر القيادة الأمريكية على إرسال سفن حربية وأسراب من مقاتلات الجو إلى الشرق الأوسط لحماية “إسرائيل” من أي اعتداء، وهو ما يُنذر بتوسع رقعة الحرب الحالية أو تحولها إلى حرب شاملة.
على الناحية الأخرى، ورغم أنها لا تشارك في الصراع، تتابع مصر بترقب شديد تطورات الصراع الحالي وما قد تؤول إليه، فمصر التي تمتلك أكبر كتلة سكانية في المنطقة تخشى من تلقي ضربات، ليست بالضرورة عسكرية لكنها قد تُحدث تأثيرًا مماثلًا لما تحدثه الحروب، إذ لديها تاريخ حافل بالأحداث الخارجية التي كان لها تأثير سلبي على اقتصادها، كان آخر هذه الأحداث الحرب الروسية الأوكرانية التي كشفت عن هشاشة الاقتصاد المصري، وانعدام قدرته على الصمود أمام الصدمات والمتغيرات الطارئة.
لذلك، نسعى في هذا التقرير إلى استعراض التأثير المحتمل لاشتعال حرب إقليمية على الاقتصاد المصري، من خلال رصد العديد من الجوانب مختلفة.
أمن الطاقة المصري في مرمى النيران
كشفت العملية التي نفّذتها فصائل المقاومة الفلسطينية على “إسرائيل” في السابع من أكتوبر، مدى اعتماد مصر على إمدادات الغاز المسروق من الأراضي الفلسطينية، ففي بداية اندلاع العدوان على غزة أعلنت “إسرائيل” عن وقف إمدادات الغاز إلى مصر بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة، ما تسبّب في أزمة طاقة عنيفة ظهرت مع زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي على المواطنين، والاتجاه إلى خفض كميات الغاز الموردة لمصانع الأسمدة والأسمنت وتعطيل الإنتاج.
ورغم أن واردات الغاز استؤنفت في نوفمبر/ تشرين الثاني، لتعود تدريجيًا إلى النسب السابقة، لكن في نهاية شهر يونيو/ حزيران، بعد هجوم وغضب معظم المواطنين على الحكومة نتيجة ارتفاع عدد ساعات انقطاع الكهرباء خلال أيام الصيف الحارة، خرج رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمر صحفي ليكشف أسباب الازمة، ويقول إن أحد الحقول في دولة من دول الجوار خرج عن الخدمة بسبب عطل فني وتوقف لأكثر من 12 ساعة، لذلك اتخذنا القرار بزيادة فترة انقطاع الكهرباء، وكان من الخطورة الاستمرار في تشغيل المحطات.
في الوقت نفسه، تشير التقارير الصحفية إلى خفض تل أبيب لواردات الغاز الطبيعي بنسبة 26% منذ بداية يوليو/ تموز مع دخول فصل الصيف، بسبب ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الاستهلاك المحلي في “إسرائيل”.
أحدثت تصريحات رئيس الوزراء صدمة كبيرة لدى معظم المواطنين المصريين، وللمرة الأولى يتضح بشكل صريح ومباشر على لسان مسؤول مصري أن “إسرائيل” متحكمة في الكهرباء التي تصل منازلهم، وفي يدها راحتهم أو زيادة معاناتهم.
قبلها كانت الحكومة المصرية تدعي أنها تستورد الغاز الإسرائيلي لتقوم بتسييله وإعادة تصديره إلى الخارج لتوفر إيرادات دولارية، لكن يبدو أن المعادلة اختلفت منذ تراجع إنتاج حقل ظهر، واستنزاف الاحتياطات القابلة للاستخراج الاقتصادي في الحقل، ما جعل مصر تعتمد بشكل رئيسي على الغاز الإسرائيلي في الاستخدام المحلي.
في الوقت الحالي، ومع ارتفاع وتيرة التصعيد، من غير المستبعد اتجاه “إسرائيل” لوقف إمدادات الغاز من جديد لأسباب داخلية، أو سياسية تتعلق بزيادة الضغط على مصر، أو لقرار خارج عن إراداتها، كأن تقع حقولها في مرمى الأهداف العسكرية، وهو سيناريو مطروح، خصوصًا بعد نشر “حزب الله” لمقطع مدته 9 دقائق ونصف، عرض مشاهد من استطلاع جوّي لأهداف إسرائيلية حسّاسة، كان من ضمنها منصات الغاز الإسرائيلية في البحر المتوسط.
تستورد مصر حوالي 100 مليون برميل من النفط سنويًا، حيث تصل التكلفة السنوية لاستيراد النفط إلى 12 مليار دولار، ما يزيد من الأعباء المالية على الاقتصاد المصري حتى مع استقرار الأسعار العالمية
وبحسب تقرير لصحيفة “هاآرتس” يناقش السيناريوهات المحتملة في حالة قيام “حزب الله” بتدمير منصات الغاز الطبيعي الإسرائيلية، فأنه مع بداية حرب شاملة مع “حزب الله”، سيأمر وزير الدفاع، يوآف غالانت، الشركات المشغّلة للحقول بوقف عملياتها.
تحمي الحقول 4 سفن بحرية، ومنظومة صواريخ اعتراضية بتكلفة تصل إلى 1.7 مليار دولار، وبحسب “هاآرتس” فإنه في حالة تعرض منصات الغاز للقصف خلال عمليات إنتاج الغاز الطبيعي، فإن الأضرار قد تستغرق سنوات لإصلاحها، وهو ما يهدد أمن الطاقة في مصر والأردن اللذين يعتمدان على الغاز الإسرائيلي بشكل أساسي في قطاع الطاقة.
وبحسب تقرير سابق نشرته وكالة “بلومبيرغ”، فأنه في حال تصاعد الصراع العسكري الحالي إلى حرب مباشرة بين “إسرائيل” وإيران، أو حرب متعددة الأطراف بين الدول المجاورة، فإن ذلك قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية تصل إلى 150 دولارًا للبرميل، وقد تتفاقم الأزمة أكثر في حال قررت إيران إغلاق مضيق هرمز، الذي يمرّ عبره خُمس إمدادات النفط العالمية يوميًا.
ويأتي ذلك في الوقت الذي تستورد فيه مصر حوالي 100 مليون برميل من النفط سنويًا، حيث تصل التكلفة السنوية لاستيراد النفط إلى 12 مليار دولار، ما يزيد من الأعباء المالية على الاقتصاد المصري حتى مع استقرار الأسعار العالمية.
وفي ظل محدودية الإيرادات المالية من العملة الصعبة، تتجه الحكومة إلى تحميل هذه الأعباء للمواطنين عبر رفع الدعم عن الوقود، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار معظم السلع، وبالتالي إن أي زيادة في الأسعار العالمية للنفط ستفاقم الضغوط على الاقتصاد والمواطنين على حدّ سواء.
تراجُع إيرادات قناة السويس وتهديد التجارة
تأثرت إيرادات قناة السويس بشكل سلبي نتيجة تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وذلك عقب الهجمات التي شنّها الحوثيون على السفن المتجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي في البحر الأحمر، لتتجنّب العديد من السفن مسار البحر الأحمر، لتمرّ عبر رأس الرجاء الصالح بدلًا من قناة السويس.
ووفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن أحجام الشحن عبر قناة السويس المصرية انخفضت في أبريل/ نيسان الماضي بمقدار الثلثَين مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، كما أكدت وزيرة التخطيط المصرية، هالة السعيد، أن إيرادات قناة السويس انخفضت 50% بسبب توترات البحر الأحمر.
وتعدّ قناة السويس من أهم مصادر العملة الأجنبية في مصر التي تعاني نقصًا فيها، وقبل الاضطرابات سجّلت إيرادات القناة خلال العام المالي 2023/2022 حوالي 9.4 مليارات دولار، وفي العام المالي 2024/2023 سجّلت 7.2 مليارات دولار.
وتوعّد الحوثيون بتصعيد عملياتهم وتوجيه ضربة كبيرة لـ”إسرائيل” للردّ على استهداف مدينة الحديدة، وهو ردّ يتوقع الخبراء أن يكون منسقًا مع إيران وبقية أطراف محور المقاومة، وأن تستمر الهجمات نفسها في البحر الأحمر، ما بفاقم الأزمة أكثر وإطالة أمدها وتأثر التجارة في المنطقة وانخفاض عدد السفن العابرة للقناة، لينخفض معها أحد أهم موارد العملة الصعبة لاقتصاد المصري.
كذلك إن توسع النزاع وانتقال الحرب إلى البحر المتوسط، يمكن أن تؤدي إلى فرض قيود على حركة السفن في ظل تركُّز معظم الموانئ المصرية على سواحل المتوسط، ما قد يعطّل حركة التجارة وسلاسل التوريد، أو يتسبّب في زيادة تكاليف النقل والشحن، ويؤثر بدوره على الواردات والصادرات المصرية، ويؤدي إلى تعطيل الإنتاج وارتفاع أسعار السلع في الأسواق.
مخاوف من هروب الأموال الساخنة
منذ عام 2016 اعتمدت مصر على الأموال الساخنة لتمويل احتياجاتها، ولدى المستثمرين في أدوات الدين من هذا النوع حساسية اتجاه أي مخاوف أو مخاطر، كما تتّسم بسرعة الدخول والخروج من الأسواق، فمع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية هرب نحو 25 مليار دولار من هذه الأموال إلى الخارج.
لتبدأ معها أسوأ أزمة عرفها الاقتصاد المصري في العقود الأخيرة، وتدخل العملة المصرية في سلسلة من الانخفاضات المتتالية، ورغم أن الأمور استقرت نسبيًا بعد تدفق عشرات المليارات من الخليج وأوروبا لإنقاذ الاقتصاد، إلا أن مصر أمام احتمالية تكرار السيناريو الكارثي نفسه مع تصاعد الاضطرابات في المنطقة.
تتوقع وكالة “فيتش سوليوشنز” انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار خلال ما تبقى من عام 2024 إذا استمرت التوترات الجيوسياسية حتى نهاية العام
وفي الشهور الأخيرة عادت الحكومة المصرية للاعتماد على الأموال الساخنة من جديد، حيث تدفقت استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية وزادت بمقدار 19 مليار دولار في شهر واحد، لتصل إلى حوالي 31 مليار دولار في مارس/ آذار الماضي، مقارنة بـ 12.8 مليار دولار في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023، كما ارتفعت إلى أكثر من 35 مليار دولار بحلول نهاية أبريل/ نيسان الماضي بحسب بيانات البنك المركزي.
ومنذ اغتيال رئيس حركة حماس في طهران وتوعُّد إيران بالردّ، تسارعَ تخارج الأجانب من أذون الخزانة، وتشير البيانات إلى أنه خلال الفترة من 28 يوليو/ تموز حتى 8 أغسطس/ آب خرجت أكثر من 122 مليار جنيه، ويعمل المستثمرون الأجانب على شراء أذون الخزانة بالجنيه المصري من خلال تحويل أموالهم إلى الجنيه، ويضمن البنك المركزي لهم حرية إعادة تحويل أموالهم وأرباحهم إلى الدولار مرة أخرى، ما يُنذر بتفاقم أزمة العملة الأجنبية من جديد.
وخلال تصريحات رئيس الوزراء المصري يوم 8 أغسطس/ آب بعد أنباء تخارج الأجانب، أكد أن التوترات الجيوسياسية الإقليمية تشكّل ضغوطًا على مصر، وأعرب عن تخوفه من اتّساع الصراع، وقال: “محدش عارف بكرة هيحصل إيه في ظل التوترات وردود الفعل المحتملة وتداعيات ذلك على المنطقة”.
وتتوقع وكالة “فيتش سوليوشنز” انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار خلال ما تبقى من عام 2024، إذا استمرت التوترات الجيوسياسية حتى نهاية العام، فقد تسبّب الهجوم الإسرائيلي على بيروت وطهران في تصاعد خطر اندلاع حرب واسعة النطاق في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أعلى مستوى له منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ما أدّى إلى تراجع قيمة الجنيه، وترى أن تداعيات الصراع تؤدي إلى ارتفاع مخاوف بين مستثمري المحافظ في أدوات الدين الحكومية لمصر.