رافق اسمي النهرين الخالدين دجلة والفرات، اسم العراق، حتى بات يُعرف من قبل العرب والأعاجم منذ قديم الزمان، باسمه المحبب على كل من عاش ويعيش فيه، بلاد الرافدين. ورغم المحن التي مر بها هذا البلد على طوال تاريخه، بقيَّ هذان النهران يفيضان بالخير عليه، وكانا سبباً رئيسيًا لقوت أهله ولحد وقت قريب، قبل اكتشاف النفط، فالعراق بلداً زراعياً بالمقام الأول.
في الأيام الأخيرة تعالت الأصوات محذرةً من إن أحدِ هذين النهرين، ربما سيصبح في خبر كان، بسبب السدود التي أُنشأت على مجرى نهر دجلة الرئيسي في تركيا، أو على روافده العديدة والقادمة من إيران. لكن الذي فاقم تلك المخاوف وجعل الناس يتوجسون خيفة مما ستسفر عنه الأمور، هو ما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي من صور مأساوية يظهر فيها نهر دجلة وقد جفت مياهه، وتظهر على ضفتيه مناظر الأطلال والخراب التي خلفتها الحروب الداخلية التي لا تكاد تنتهي. وكأن جفاف النهر جاء تعبيراً عن حالة الحزن والاسى التي يعيشها العراق، بالوقت الذي يعيش كثير من أهله في مخيمات النزوح، بعد أن دمرت مدنهم وقراهم، لا لشيء سوى لمصالح سياسية لا تغني ولا تسمن من جوع، منظر يؤلم كل ذي قلب حي وتأذي كل من ذاق طيبة هذه الأرض المعطاء وشرب من مياهها العذبة.
وكعادة سياسيو بلدي الذين يستغلون كل حادثة لتوظيفها سياسيًا، جاءت حادثة انخفاض مناسيب نهر دجلة لتفتح قريحة من يريد أن يصفي خصوماته السياسية، لا سيما ونحن نمر بأحلك ظرف سياسي يمر به البلد منذ الاحتلال عام 2003 حتى الآن.
يعود سبب انخفاض المياه في نهر دجلة هذه الأيام، هو بدء تشغيل السد التركي العملاق “إليسو” والذي يحتاج لملئ خزانه المائي إلى موسمين أو ربما ثلاثة
فترى السياسيون يستغلون هذه الحادثة للطعن بالدولة الجارة تركيا وتحميلها الجفاف المتوقع الذي سيصيب الأراضي الزراعية العراقية للموسم الصيفي القادم، والتهجم على الحكومة الحالية على اعتبارها لم تتأخذ الإجراءات الكافية للحيلولة دون قطع مياه نهر دجلة من قبل الجارة تركيا، وهم بالتالي ينشدون من حملتهم الإعلامية تلك، التصدي للسياسيين المحسوبين على تركيا على حسب زعمهم. بنفس الوقت قام السياسيون المستهدفون بتلك الحملة الإعلامية، بالدفاع عن مواقفهم، والتذكير بأن السياسيين المحسوبين على إيران قد سكتوا عن تجاوزاتها الخطيرة على روافد دجلة الرئيسية، من تحويل لمجرى العديد من الجداول والانهار الصغيرة التي كانت تصُب في النهاية بنهر دجلة، وغلق البعض الاخر.
ما هي أسباب المشكلة؟
يعود سبب انخفاض المياه في نهر دجلة هذه الأيام، هو بدء تشغيل السد التركي العملاق “إليسو” والذي يحتاج لملأ خزانه المائي إلى موسمين أو ربما لثلاثة، ليبلغ حد استيعابه الأقصى، وبالرغم من ان الجانب التركي قد قدم معلومات كاملة عن طبيعة هذا السد وما يتطلبه من مياه لملئه، إلا ان الجانب العراقي لم يأخذ التدابير الواجبة للتقليل من الاثار السلبية لتشغيل هذا السد، سوى انه طلب من الجانب التركي تأجيل البدء في ملئ الخزان المائي، من شهر أذار الى نهاية الشهر الجاري.
الفترة التي طلبها الجانب العراقي لم يستثمرها بشكل صحيح في ملئ خزانات العراق العظمى بالمياه المتدفقة من نهر دجلة، ذلك لان الحكومة العراقية والسياسيون العراقيون كانوا مشغولين بحروبهم السياسية الداخلية، ومشغولين في التحضير للانتخابات النيابية
لكن الفترة التي طلبها الجانب العراقي لم يستثمرها بشكل صحيح في ملئ خزانات العراق العظمى بالمياه المتدفقة من نهر دجلة، ذلك لان الحكومة العراقية والسياسيون العراقيون كانوا مشغولين بحروبهم السياسية الداخلية، ومشغولين في التحضير للانتخابات النيابية، بل ان كثير من المراقبين يعزون سبب التأجيل الرئيس هو لكي لا يؤثر على الانتخابات التي أجريت بنفس فترة المهلة التي طلبها العراق. وبالتالي نرى أن كل الطبقة السياسية الموجودة في بغداد تعطي الأولوية لمستقبلها السياسي على حساب مستقبل البلد وأبنائه.
وماذا عن إيران؟ هذا الجار الذي لم يترك شيئَا في العراق إلا وتدخل به، حتى وصل إلى مرحلة نهب مياهه، ناهيك عن آباره النفطية الحدودية والاستحواذ والهيمنة على أسواقه المحلية من خلال إغراقه بالبضائع الايرانية، واستغلال ظروفه الصعبة ليصدر له الكهرباء والغاز والمشتقات النفطية بسعر أعلى من الأسعار العالمية ولبلد يعتبر ثاني بلد في العالم باحتياطاته النفطية. لم تسع إيران لعقد أي اتفاقية مائية مع الجانب العراقي، كما هو الحال مع تركيا، ليستطيع من خلالها العراق محاسبة الجانب الإيراني على تجاوزاته على المياه العراقية، وتحويل مسار العديد من الروافد والجداول المائية إلى داخل أراضي إيران وحرمان العراق منها. بل إن النظام الإيراني جعل هذا الامر حقاً من حقوقه، ولا يحتاج لمراجعة الجانب العراقي لإجراء أية مشاورات.
تبقى مشكلة عظيمة لدى العراق تتمثل في أن كل المياه التي تأتي إليه والتي تقدر بمليارات الأمتار المكعبة، يكون مصيرها في مياه الخليج المالحة عبر نهر شط العرب
ومن هذا نرى أن الحالة المأساوية التي يعيشها العراق، في كثير من جوانبها يعود السبب فيها، إلى أن القيادة السياسية العراقية لم تكن بمستوى التحدي الذي تواجهه، وكان أمام هذه القيادة السياسية خيارات عديدة للحيلولة دون دخول العراق إلى هذا الوضع المأساوي أو على الأقل الحد من أثاره الجانبية على المواطن العراقي والمجتمع العراقي بشكل عام.
هل من حلول؟
لكن، ما هي الحلول التي كان بإمكان العراق اتخاذها مبكرًا إزاء المشكلة المائية؟ وما هي الحلول التي يجب أن يتخذها العراق عاجلًا للخروج من المأزق الحالي؟ إن من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الحكومات العراقية بعد 2003 هو إهمالها المتعمد أو غير المتعمد لسياسة مائية رشيدة تستطيع فيها إدارة تلك الموارد بشكل صحيح، وعلى عكس ما كان يتوجب على تلك الحكومات، فهي انشغلت في إدارة الحروب الداخلية والنزاعات الإقليمية، والاسراف بموارد الدولة المالية لشراء الولاءات والذمم، حتى تبددت موارد الدولة من بيع النفط الخام وتحول إلى بلد مدين. وكان بالإمكان بدلًا من هذا، تسخير تلك الموارد لبناء البنية التحتية اللازمة للمحافظة على كل قطرة ماء يجود الله بها على العراق.
ما مثل بناء سدود جديدة وصيانة السدود الحالية، بدلاً من أن تذهب مياه الامطار ومياه الأنهار هدرًا إلى مياه الخليج المالحة، وكان بالإمكان أن يرجع العراق كبلدٍ زراعي مصدرًا لمنتجاتهِ الزراعية، أو على الأقل محققًا لاكتفائه الزراعي كما كان الأمر سابقًا.
إذا ما استمر الحال على ما هو عليه الان، لربما يأتي زمان على العراق سيعتمد في تحصيل ماء شربه على دول الجوار، ويتحول العراق من بلاد الرافدين إلى بلادٍ بلا رافدين.
أما عن الحلول العاجلة فإن بالإمكان الإستفادة من المياه الميتة التي تكون في الخزانات الكبرى في البحيرات العراقية العظيمة مثل الثرثار والرزازة والحبانية وغيرها، والتي تكون تحت مستوى تصريف المياه الاعتيادي، وذلك من خلال نصب مضخات مياه عملاقة تسحب بها تلك المياه وتصبها في نهر دجلة أو في نهر الفرات.
المشكلة المائية الكبرى
تبقى مشكلة عظيمة لدى العراق تتمثل في كل المياه التي تأتي للعراق والتي تقدر بمليارات الأمتار المكعبة، يكون مصيرها في مياه الخليج المالحة عبر نهر شط العرب، هدرًا دون أية فائدة. من الواجب حل تلك المشكلة، من خلال حلول هندسية ذكية تمنع وصول مياه شط العرب العذبة إلى مياه الخليج المالحة، وهذه العملية ليست مستحيلة على المهندسين والمختصين في إدارة المشاريع المائية. أما ما يتعلق في وصول السفن من خلال نهر شط العرب إلى موانئها داخل الأراضي العراقية، فمن الممكن حل هذا الموضوع بإنشاء قناة بحرية داخل الأراضي العراقية تكون مياهها من مياه الخليج بدلاً من أن تكون من مياه شط العرب العذبة.
هذه الحلول وغيرها من الحلول التي يمكن أن يقدمها لنا مهندسينا أهل الخبرة، سوف تمنع دون دخول العراق مرحلة الجفاف. لكن إذا ما استمر الحال على ما هو عليه الان، لربما يأتي زمان على العراق سيعتمد في تحصيل ماء شربه على دول الجوار، ويتحول العراق من بلاد الرافدين إلى بلادٍ بلا رافدين.