لم يأت من فراغ قرار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بإجراء تحقيق بشأن المزاعم بأن جماعة الإخوان المسلمين تنظم من بريطانيا أعمالاً إرهابية تنفذ في مصر، فما فتئت بريطانيا تتعرض لضغوط مستمرة من قبل ممالك الخليج العربي الذين خططوا ومولوا الانقلاب العسكري الذي استولى على السلطة في مصر، وذلك بهدف إغلاق لندن في وجه المعارضين العرب الذين يلجؤون إليها بحثاً عن الحرية.
معظم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين تمكنوا من الإفلات من الاعتقال في مصر لم يأتوا إلى لندن، وإنما لجؤوا إلى الدوحة أو إسطنبول. وإنما تكمن أهمية لندن في نظامها القضائي، ففيها تعد العدة لخوض معركة قانونية يتم خلالها تحدي قرار الحكومة بمد الحصانة ضد المقاضاة لأعضاء الحكومات الصغار أو العسكريين المتهمين بارتكاب جرائم الحرب. فليس من العبث أن يطرح الإخوان المسلمون اسما قضائيا لامعا في ردهم على الحكومة البريطانية.لقد قالوا إنهم كلفوا المدعي العام البريطاني السابق المحامي اللورد ماكدونلد.
إذا ما كسب أصحاب هذه الدعوى القضية فإن الحكم لن ينطبق فقط على الوزراء السابقين في الحكومة الإسرائيلية، أو الجنرالات الإسرائيليين السابقين الذين تحملوا مسؤوليات القيادة والتحكم أثناء عملية الرصاص المسكوب (ضد غزة)، وإنما ستنطبق على أعضاء الحكومة والقضاة والعسكريين المصريين الذين سيصبحون عرضة للتوقيف والمقاضاة بتهم تتعلق بجرائم الحرب تحت ما يعرف بالولاية الكونية أو الصلاحيات القضائية الدولية. يضاف إلى ذلك إجراء قانوني آخر، يستهدف الترافع أمام المحكمة الجنائية الدولية نيابة عن الرئيس محمد مرسي المعتقل حالياً بخصوص أربع مذابح ارتكبت في أغسطس من العام الماضي. كما أن لندن هي العاصمة المفضلة لعدد من القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الناطقة باللغة العربية.
في أيدي المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة عصي غليظة تلوحان بها في وجه أي حكومة بريطانية ترغب في الحفاظ على وضعها كمزود أساسي لمنطقة الخليج بالسلاح. في شباط/ فبراير الماضي وقعت الشركة البريطانية للصناعات الجوية والفضائية BAE صفقة مع المملكة العربية السعودية لتزويدها باثنتين وسبعين طائرة مقاتلة من نوع يروفايتر تايفون، قدرت قيمتها عام 2007 بما يعادل 4.4 مليار دولار رغم أن المفاوضات التي استمرت زمناً طويلاً بشأن هذه الصفقة كادت أن تفشل في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بسبب خلاف على سعر بعض تقنيات السلاح المتطورة الإضافية. نجحت هذه الصفقة وإن كانت فشلت صفقة سابقة لها.
في نفس الوقت من شهر شباط/ نوفمبر حينما كانت الشكوك تحوم حول فرص نجاح الصفقة مع المملكة العربية السعودية، سعت دولة الإمارات العربية المتحدة للضغط على الحكومة البريطانية لإغلاق قناة الحوار الفضائية الناطقة باللغة العربية والتي تتخذ من لندن مقراً لها، وذلك أن برامج القناة المتعاطفة مع الإسلاميين أغضبت الإماراتيين.
ولكن تم إخبارهم بأن السياسيين في بريطانيا ليس بوسعهم إغلاق القناة وأن صلاحية ذلك هو بيد الجهات المخولة بإصدار رخص البث والرقابة على أداء القنوات الفضائية. فما كان من الإماراتيين إلا أن هددوا -بشكل عام- بالتراجع عن صفقات تجارية كانوا ينوون إبرامها. وفعلاً، في ديسمبر فقدت الشركة البريطانية للصناعات الجوية والفضائية صفقة لتزويد الإمارات بمقاتلات من طراز تايفون قدرت قيمتها ما بين 6 إلى 10 مليار دولار.
أدت الضغوط السعودية والإماراتية إلى تفجر خلاف داخل أروقة الحكومة البريطانية وتفاقم الأمر إلى الحد الذي باتت فيه بعض دوائر الدولة ينازع بعضها بعضاً، فمن جهتها ذهبت وزارة المالية تلح على رئاسة الوزراء إيلاء العقود التجارية مع السعودية ما تستحقه من الأهمية، ومن جهة أخرى ذهب بعض المسؤولين في وزارة الخارجية باتجاه التحذير من مغبة تصنيف منظمة يرونها غير عنفية وتسعى للتغيير من خلال المسار الديمقراطي، كمنظمة إرهابية. ولهؤلاء أسبابهم البراغماتية.
فهذه الجماعة هي حركة كبيرة ليس في مصر فحسب وإنما في جميع أرجاء العالم العربي، وكان لوزارة الخارجية دور في عدد من المبادرات التي استهدفت تشكيل حكومات تشمل الجميع ولا تقصي أحداً بعد سقوط نظام حسني مبارك في مصر ونظام بن علي في تونس. ومن شأن إلجاء جماعة الإخوان المسلمين إلى العمل السري أن يدمر كل العلاقات التي بنتها وزارة الخارجية ويذهب أدراج الرياح بكل الجهود التي قامت بها.
رغم أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر حشرت في الزاوية بعد مقتل ما يزيد عن ألفين من أعضائها، وسجن 21 ألفاً منهم بما في ذلك القيادة العليا بأسرها، وصدور حكم بإعدام 529 من أنصارها في محاكمة لم تستمر لأكثر من يومين، إلا أن تنظيم الإخوان مايزال فعالاً، ولم تحل إجراءات القمع العسكرية غير المسبوقة ضد الإخوان دون اجتماع مجلس شورى الجماعة داخل مصر، وما يزال الهيكل التنظيمي للجماعة وتمويلها وتواصلها الداخلي بحالة جيدة. فالجماعة التي يتجاوز تعداد أعضائها المليون شخص ،إذا ما أضيف إليهم أفراد عائلاتهم، يمكن بسهولة أن تنافس في حجمها حجم وزارة الداخلية المصرية.
وإذ يتعاظم القمع يوماً بعد يوم، تتزايد الضغوط التي تمارس على الإخوان من خلال وسائل التواصل الاجتماعي للتخلي عن “السلمية” وشاعت التغريدات التي تقول “السلمية لا تجدي”.
في الأسبوع الماضي وجه المرشد العام للإخوان المسلمين، الدكتور محمد بديع، رسالة من داخل زنزانته، يؤكد فيها على أن نهج السلمية سيؤتي أكله، مذكراً بأنه وكما ان الجماعة قد سبق وأن تجاوزت تجربة مماثلة من القمع والتنكيل في عهد جمال عبد الناصر وظلت على قيد الحياة، فإنها ستتجاوز هذه الأزمة كذلك.
ما من شك في أن جماعة الإخوان المسلمين، ورغم ما تتعرض له من ملاحقة وتنكيل، تظل خط الدفاع الأخير في مصر القادر على تنظيم الاحتجاجات ضد طغيان العسكر من خلال حملة لا عنفية من العصيان المدني.
إذا تحقق للسعوديين والإماراتيين وجنرالات مصر ما أرادوا وحلت هذه الجماعة نهائيا فلا يعلم أحد إلى أين سيتجه أعضاؤها السابقون، ولعلنا لا نجافي الواقع إذا افترضنا أن نسبة من هؤلاء الأعضاء سيخلصون إلى قناعة بأن المنهج الديمقراطي لا يأتي بنتيجة وقد يختار بعضهم الانضمام إلى الجماعات الإسلامية المسلحة.
مجرد التفكير بالأعداد التي يحتمل تدفقها على حدود أوروبا في مثل تلك الأوضاع يثير الهلع، وبريطانيا بالذات قد تصبح عرضة لامتصاص نشطاء متطرفين ينحدرون من آباء وأمهات أصولهم مصرية ولكن بجوازات سفر بريطانية قد تفوق أعدادهم أضعافاً مضاعفة أعداد أولئك الذين تورطوا في سوريا. ولهذا، فإن اعتبارات المصلحة الأمنية البريطانية لوحدها تشكل أسبابا دامغة تقتضي إبقاء جماعة الإخوان المسلمين منظمة قانونية ومعترفاً بها.
يدرك تنظيم القاعدة في اليمن، والذي يعتبر واحدا من أنشط فروعها،الفرصة التجنيدية التي يتيحها له التضييق على الإخوان المسلمين المصريين، وقد نقل عن إبراهيم الربيش من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قوله إن تصنيف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية يبعث “برسالة إلى كافة المجموعات التي تلين في مواقفها وتتخلى عن بعض مبادئها” مفادها أنهم مهما فعلوا فلن يقبل بهم “رؤوس الكفر” – وهي الصفة التي يطلقها تنظيم القاعدة على الحكومات العربية العلمانية والموالية للغرب. إن من مصلحة الجميع، وخاصة بريطانيا، إثبات أن ما جاء في تصريح الربيش غير صحيح.