في وقت الحروب والأزمات وغياب الدور الحقيقي للدولة، يصبح الطريق ممهدًا لظهور طبقة من السلطة تسعى إلى الثراء الفاحش، عن طريق تجارة وتهريب المخدرات والسلاح وغيرها.
دخلت المناطق السورية في مرحلة فلتان أمني منذ عام 2011، مع اشتداد القمع العسكري من قبل سلطة النظام الحاكم، ما أدّى إلى ظهور فئات محسوبة على النظام استطاعت التأسيس لـ”مملكة الكبتاغون”، بالتعاون مع “حزب الله” اللبناني الذي حول مناطقه في لبنان والمناطق التي سيطر عليها في القلمون بريف دمشق مكانًا لزراعة وإنتاج الحبوب المخدرة، قبل إدخالها إلى سوريا وترويج قسم منها في الداخل، وتهريب القسم الأكبر إلى دول مختلفة، إما انطلاقًا من ميناء اللاذقية وإما من خلال الطرق البرّية، خاصة مع الأردن عبر محافظتَي درعا والسويداء.
شكّلت هذه التجارة خطرًا حقيقيًا على المجتمع المحلي، خاصة في أراضي السويداء ذات الأغلبية الدرزية، فانتشرت المخدرات في المدارس ودفعت عددًا من الشباب إلى الانتحار، وتكونت عصابات مختصة لها ارتباطات مع بعض أفراد العشائر الأردنية ومدعومة من الأجهزة الأمنية، الأمر الذي دفع بعمّان إلى تفعيل قواعد الاشتباك على الحدود.
ومع ازدياد شحنات المخدرات إلى الأردن، بدأت الطائرات الأردنية بقصف عدة مواقع مُشتبه فيها داخل الأراضي السورية، ورغم مقتل بعض أفراد العصابات، إلا أن القصف أدّى إلى سقوط مدنيين نتيجة سوء تقدير في الإحداثيات.
خلال التقرير التالي من ملف “بني معروف”، نستعرض ملف المخدرات في مناطق الدروز وتطوره خلال السنوات العشر الماضية، إضافة إلى الاشتباكات الأردنية مع المهرّبين في المناطق الحدودية، وعمليات قصف الطيران الأردني على قرى وبلدات في ريف السويداء.
البدايات بتخطيط النظام
يعود ملف المخدرات في السويداء إلى عام 2015، حيث ارتبط بشخص من الطائفة الشيعية يُدعى أحمد جعفر الملقب بالحاج أبو ياسين، وينحدر من بصرى الشام في ريف درعا وتربطه علاقات قوية مع “حزب الله” اللبناني، ومنذ عام 2013 أقام في مزرعة بريف السويداء الجنوبي، واشترى آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية والعقارات.
وبعد مراقبته من قبل الفصائل المحلية، داهمت مزرعته عام 2015 وصادرت كميات كبيرة من المخدرات، كما ألقت القبض على أحد أبنائه وتمّ تسليمه للجهات الأمنية التابعة لنظام الأسد، التي قامت بإطلاق سراحه في اليوم نفسه.
وشهدت تجارة المخدرات في عام 2015 زيادة كبيرة، ومع انضمام أشخاص جدد إلى قائمة المشتغلين من أبناء السويداء توسّعت عمليات التجارة عام 2016، ففي أغسطس/ آب صودرت سيارة يقودها أشخاص من أبناء المحافظة محملة بالمخدرات في قرية قيصما في الريف الجنوبي الشرقي، حيث كانت قادمة من البادية الشرقية الواقعة تحت سيطرة تنظيم “داعش”.
ونشطت مجموعات الحاج أبو ياسين -الذي استمر في تهريب المخدرات رغم التحذيرات التي أطلقتها بعض القرى الجنوبية في السويداء بضرورة مغادرته للمنطقة- في ترويج وتوزيع المخدرات داخل السويداء، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2016 تم إلقاء القبض في بلدة القريّا على شخصَين من شيعة بصرى الشام المقربين من أبو ياسين، وهما نصر النابلسي وشاكر نجم وبحوزتهما كمية من حبوب الكبتاغون.
في عام 2017 بدأت المخدرات تدخل بكميات كبيرة عبر الحواجز الأمنية بين دمشق والسويداء، حيث كان يتم تهريب قسم منها إلى تنظيم “داعش” في البادية، بينما يتم توزيع القسم الآخر داخل المحافظة.
وفي عام 2018 تم اعتقال عدد من ضباط وصف ضباط من جيش النظام والأجهزة الأمنية في السويداء، وهم عقيد ورائد من الفرقة 15 العاملة في ريف المحافظة إضافة إلى 4 مساعدين، بسبب ارتباطهم بعصابات وتجارة المخدرات والاختلاس المالي وعمليات الخطف.
واعترف أحد المساعدين المقبوض عليهم، ويُدعى عماد إسماعيل، بإدارته لعصابة تمتهن تهريب المخدرات بين السويداء ودرعا والأردن، بالاشتراك مع فصائل محلية تتبع لفرع الأمن العسكري.
والمساعد إسماعيل هو أحد المقربين من العميد وفيق ناصر ويعمل بالتنسيق معه، وقد شغل منصب رئيس فرع الأمن العسكري في السويداء فترة 2011-2017، وشغل رئاسة اللجنة الأمنية والعسكرية في المنطقة الجنوبية فترة 2012-2017، وعُرف عنه جرائمه بحق أهالي السويداء، وهو المتهم الرئيسي في أعنف تفجيرات شهدتها المحافظة في سبتمبر/ أيلول 2015، وسقط خلالها حوالي 58 شخصًا من بينهم قائد حركة رجال الكرامة الشيخ وحيد البلعوس.
كما اعترف المساعد إسماعيل أن زاهر جعفر، ابن الحاج أبو ياسين، من الأسماء الرئيسية التي تقوم بإدخال المخدرات إلى السويداء قادمة من لبنان، لتقوم بعدها شبكة تهريب بإيصال المواد المخدرة إلى بادية السويداء ومحافظة درعا والداخل الأردني، بالتنسيق مع مهرّبين من العشائر الأردنية.
وفي مارس/ آذار 2018 اختطفت “قوات شيخ الكرامة” الحاج أبو ياسين وحرقت مزرعته، وانتزعت منه اعترافات تفيد بتورط “حزب الله” اللبناني والعميد وفيق ناصر بتفجيرات سبتمبر/ أيلول 2015 ومقتل البلعوس، كما اعترف بإدارته مع أبنائه شبكة كبيرة من المخدرات، قبل قتله وترك جثته في ساحة المشنقة وسط مدينة السويداء.
الترويج محليًا
مع زيادة أعداد العصابات والمتعاونين مع النظام، أصبحت مادة الحشيش المخدر في العام 2019 بمتناول الجميع، بسبب أسعارها التي كانت داخل السويداء أرخص من بقية المناطق، فانتشرت بشكل كبير بين طلاب الجامعات والمدارس ذكورًا وإناثًا.
وضُبط 700 ألف حبة من الكبتاغون و175 كيلوغرامًا من الحشيش كانت معدّة للتصدير إلى السويداء ودرعا، قادمة من مزارع ومعامل المخدرات التي تمّ إنشاؤها في مناطق القصير ويبرود الخاضعة لسيطرة “حزب الله”.
كما نشأت شبكات واسعة من مروّجي المخدرات، نتيجة مرابحها السريعة في ظل الوضع الاقتصادي السيّئ الذي تعيشه المحافظة منذ عدة سنوات، لتظهر “أكشاك” خاصة لبيع مادة الحشيش.
وإلى جانب ذلك، ازدادت قوة العصابات الأمنية وعملها في ترويج المخدرات، وبدأت عمليات تصفية اعتبرها البعض انتقامية ردًا على مقتل الحاج أبو ياسين، ففي مايو/ أيار 2019 تمّ اغتيال وسام العيد زعيم قوات شيخ الكرامة في مدينة صلخد من قبل مقربين له.
في النصف الثاني من العام 2020، بدأ التداول بمشروع ينوي حافظ منذر الأسد، من أقرباء رئيس النظام بشار الأسد، القيام به، فأرسل مندوبين إلى السويداء والتقوا مع أشخاص ينتمون إلى فصائل مسلحة وبعض وجهاء العائلات، وطرحوا عليهم مشروع إقامة شركة للنقل والشحن ونصب حواجز للترفيق (مرافقة عناصر الميليشيات للشاحنات التجارية لفرض إتاوات بحجّة حمايتها من المسلحين)، إلا أن المشروع كان غطاء لتحويل السويداء إلى معبر لتهريب المخدرات، ولم يلقَ تأييدًا في المحافظة.
في عام 2021 ازدادت أعداد المروجين والمتعاطين للمواد المخدرة داخل السويداء، خاصة بين المراهقين الذين استعملوا المباني قيد الإنشاء، لتدخين ما يُطلق عليه “حشيشة الكيف”، كما سُجّلت العديد من حالات الوفيات داخل المحافظة نتيجة تعاطي مادة الكريستال المخدرة. وعثرت حركة رجال الكرامة على مزرعة للحشيش في قرية مجادل غربي السويداء لشخص يدعى ثائر شلغين، وقامت بإتلاف المحصول.
وخلال يوليو/ تموز 2021، قامت بعض الفعاليات الأهلية والفصائل المحلية بحركة تطهير لمدينة شهبا من العصابات التي تمتهن الخطف وتجارة المخدرات، وعثروا في منزل أحد متزعمي العصابة على كميات كبيرة جدًّا من المخدرات، ليقوموا بحرقها أمام الأهالي في المدينة.
ورغم سعي الأهالي والفصائل المحلية على تطهير المحافظة من المخدرات، إلا أنه في عام 2022 سُجّل وجود أكثر من 20 شبكة تهريب في الريف الجنوبي للسويداء تنسّق عملها مع العصابات الأمنية، إضافة إلى تجهيز معمل لحبوب الكبتاغون في شمال مدينة السويداء، بعد اجتماع مجموعة من “حزب الله” اللبناني مع راجي فلحوط، المتزعّم لإحدى العصابات المدعومة من شعبة المخابرات العسكرية.
وأشرفت جماعة الحزب على إنشاء معمل صغير لإنتاج الحبوب المخدرة، وتمكنت من إحضار “مكبس” من ريف حمص ليبدأ المعمل بإنتاج المخدرات، إلا أن مجموعات محلية على رأسها حركة رجال الكرامة اقتحمت المقر الرئيسي لفلحوط ومنزله، وعثرت على كميات من الحبوب والبودرة المخدرة، إضافة إلى آلات ومعدّات المعمل.
التهريب عبر الحدود
لم يقتصر ترويج المخدرات ونشرها داخل محافظة السويداء فحسب، إنما بدأ بتهريبها خارج الحدود، خاصة تجاه الأردن الذي بدأ من سنوات بتطبيق قواعد الاشتباك للتصدي لمجموعات التهريب.
كان عام 2018 بداية تهريب المخدرات باتجاه الأردن عبر أراضي السويداء، حيث أعلن الجيش الأردني إحباط عدة عمليات تهريب، نتج عنها دخول وحدة من الجيش الأردني الحدود السورية واعتقال شخص من قرية خربة عواد الحدودية.
كما أعلن نظام الأسد في أغسطس/ آب من العام نفسه إحباط محاولة تهريب مخدرات بين قريتَي العانات وخربة عواد الحدوديتَين، ما أدّى إلى مقتل أحد المهربين (أردني الجنسية) واعتقال اثنين آخرين من عشائر بدو السويداء.
وفي عام 2020 نشطت عمليات إنتاج المخدرات وتهريبها بكمّيات ضخمة خارج الحدود، حيث أعلنت السلطات السعودية ضبط شحنة مخدرات محفوظة ضمن آلاف من علب المتّة سورية التعبئة من نوع “خارطة”، وبلغت الكمية أكثر من 19 مليون قرص مخدر.
ومع استمرار تهريب المخدرات إلى الأردن، واستنفار الجيش الأردني على حدوده الشمالية وتطبيق قواعد الاشتباك، ظهرت أساليب جديدة لتهريب المخدرات باتجاه الأردن في العام 2021، عبر استخدام الطائرات المسيّرة.
كما بدأت القوات الأردنية بالدخول إلى الأراضي السورية، مثلما حصل في نهاية عام 2021 عندما دخلت 4 طائرات مروحية واشتبكت مع مجموعات من مهربي المخدرات على الجانب السوري من الحدود.
كما استغل مهربو المخدرات فصل الشتاء وتساقط الثلوج وسوء الرؤية، مثلما حصل عام 2022 عندما دخلت مجموعة من المهربين سيرًا على الأقدام، يحملون كميات كبيرة من المخدرات عبر البادية الشرقية للسويداء.
وبعد نجاحهم في اجتياز الحدود، أطلق حرس الحدود الأردني النار بشكل مباشر على المهربين، ما أدى إلى مقتل 27 شخصًا وإصابة آخرين غالبيتهم من عشائر بدو السويداء النازحين في درعا.
في عام 2023 تطور التحرك الأردني عبر توجيه ضربات جوية على عدة مناطق في ريف السويداء، حيث استهدف الطيران في مايو/ أيار منزل مرعي رويشد الرمثان، أحد متزعمي عصابات تهريب المخدرات والمدعوم أمنيًا من النظام، ما أدّى إلى مقتله مع وزوجته و6 أطفال تتراوح أعمارهم بين سنتَين و12 سنة.
كما استهدف الطيران الأردني عدة مواقع في ريف السويداء أواخر عام 2023، منها تل الشيح في قرية أم الرمان القريبة على الحدود الأردنية، ومنزل لآل شويعر من البدو في قرية أم شامة جنوب شرق المحافظة.
إضافة إلى سقوط صاروخ في مدينة صلخد، واستهداف مزرعة في قرية ذيبين الحدودية يقطنها أبو جمعة الحمادة من عشائر قرية الأصفر، ما أسفر عن مقتل 4 أشخاص بينهم طفلين وامرأة بالإضافة إلى نفوق عدد كبير من الماشية.
مع مطلع عام 2024 استمر القصف الأردني لأراضي السويداء، فاستهدفت غارة بئر الخريب بالقرب من قرية أم الرمان الحدودية، فدُمّر البئر وقُتل الحارس حمود العاقل، وبعدها بأيام قصف الطيران الأردني مزرعة في قرية ملح جنوبي شرقي المحافظة وقُتل إثر هذا القصف عصام خير المعروف بعلاقاته الأمنية القوية، وفي الوقت ذاته تمّ قصف مستودعات وحظيرة حيوانات خلف منزل فارس صيموعة، وهو أحد شركاء متزعمي شبكات المخدرات في منطقة صلخد، وله ارتباطات أمنية قوية.
وتزامنًا مع ذلك، تعرضت قرية الشعاب في الجنوب الشرقي إلى استهداف منزل عطالله الرمثان، أعقبه إعلان السلطات الأردنية القبض على 15 مهربًا وقتل 5 مهربين آخرين في اشتباكات على الحدود السورية الأردنية، ومصادرة كميات كبيرة من المخدرات وُجدت بحوزتهم.
وفي 18 يناير/ كانون الثاني 2024 وقعت مجزرة بحقّ مدنيين في بلدة عرمان بالقرب من مدينة صلخد، حيث نفّذت مقاتلات حربية أردنية غارات جوية على بلدتَي ملح وعرمان، كانت خسائرها مادية في ملح. بينما في عرمان نفّذت المقاتلات غارتَين، الأولى على منزل عمر طلب قُتل فيها مع والدته وعمته، والثانية على منزل تركي الحلبي قُتل فيها 7 من أفراد العائلة، غالبيتهم من نساء وأطفال.
لاقت هذه المجازر تنديدًا كبيرًا داخل السويداء وخارجها، بسبب استهداف مدنيين عن طريق الخطأ، وتنفيذ الغارات في منتصف الليل على أحياء سكنية مسالمة.
وأدّى القصف الأردني ومقتل المدنيين إلى تحرك المجتمع المحلي في السويداء، وظهور مبادرات من القرى لملاحقة شبكات الإتجار بالمخدرات، من خلال تسيير دوريات والبحث عن المتورطين، حيث قامت حركة رجال الكرامة بمداهمة عدة أماكن مشتبه بها، وصادرت 200 ألف حبة كبتاغون بعد ضبطها في شاحنة عبور قبل إتلافها وحرقها.
كما صادرت مجموعة أهلية في قرية مياماس 30 ألف حبة كبتاغون مع أشخاص يعملون بتهريب المخدرات، بينما قتلَ أحد الفصائل المحلية اثنين من تجار المخدرات، وعُثر في جوال أحدهما على العديد من مشاهد لتهريب المخدرات وتجميعه،ا ومراسلات وتسهيلات تُثبت تورط الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام في سوريا.
ورغم محاولة الفصائل المحلية والمجتمع المحلي مكافحة تهريب المخدرات، إلا أن العمليات تستمر حتى لحظة كتابة هذه المادة، من خلال طرق جديدة منها استخدام قذائف الهاون منزوعة الرأس المتفجر، وطرق أخرى تُعلن عنها الجهات الأردنية بشكل دوري.
من خلال رصد الأحداث السابقة، يؤكد كيف تمّ استعمال مناطق الدروز في جنوب سوريا من قبل نظام الأسد وميليشياته كمحطة لتهريب المخدرات باتجاه الأردن، كما استغلت شخصيات أمنية مرتبطة بإيران و”حزب الله” حاجة أبناء السويداء للعمل والربح السريع، في ظروف اقتصادية كارثية تمرّ على المحافظة منذ أكثر من 10 أعوام.
ونتج عن ذلك ضياع حقيقي لعدد كبير من المراهقين في المحافظة، ومقتل وانتحار العشرات ممّن تورّطوا في الإتجار أو التعاطي، وكذلك سقوط عشرات الأبرياء بعد تعرض المحافظة لأول مرة لقصف من طيران المملكة الأردنية، والتي تربطها علاقات قوية ومتينة مع دروز السويداء منذ أكثر من 100 عام.