لا يمكن الحديث عن جمهورية قبرص دون أن نشير إلى أي جزء نقصد، الشمالي التركي أم الوسط الجنوبي اليوناني، حتى ندرك أن لهذه الجزيرة تاريخ طويل ومعقد من الاختلافات والصراعات التي جعلت مسألة توحيدها أمرًا ليس واردًا بين الدول التي تظن بأن التخلي عن أراضيها سيكون أمرًا مكلفًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا أيضًا.
فسكانها من اليونانيين والأتراك يتوزعون عرقيًا إلى 18% أتراك يعيشون على 35% من مساحة الجزيرة و77% يونان يعيشون على 65% من الأراضي، والبقية لعرقيات أخرى، وذلك بحسب إحصاءات عام 2014، مع العلم أن عاصمتها نيقوسيا أو كما يسميها الأتراك لفكوشا، وهي مدينة عريقة مليئة بالآثار والكنائس والمساجد العتيقة.
كيف جاء اليونانيون والأتراك إلى قبرص؟
تقول المصادر التاريخية إن السكان الأصليين لجزيرة قبرص هم شعب اليونان المؤمن بالديانة المسيحية الأرثوذكسية، حتى تغير هذا الواقع مع ظهور الإمبراطورية العثمانية التي بمجيئها غيرت وبدلت العديد من الثوابت، فلقد استطاعت عام 1571 أن تفتح هذه الجزيرة في عهد السلطان سليم الثاني بعد عام تقريبًا من المعارك والحصار.
استمر الحكم العثماني فيها إلى عام 1878، وازدادت معدلات هجرة الأتراك إليها، خاصة المزارعين منهم، لتعيش الطائفة اليونانية والتركية معًا لمدة 300 عام إلى أن تم تأجير الجزيرة للإنجليز تبعًا لاتفاقية بينهم وبين الدولة العثمانية مقابل تحالف بريطانيا مع العثمانيين خوفًا من الغزو الروسي للحدود العثمانية، ولكن بريطانيا ألغت هذه الاتفاقية وضمت الجزيرة إليها في الحرب العالمية الأولى بعد قيام تحالف عثماني مع ألمانيا.
وما كان من بريطانيا إلا أن تعلن قبرص “مستعمرة ملكية”، ليبقى فيها الإنجليز كمستعمرين، لم يقبل سكان قبرص بهذا الوضع، فاندلعت حرب عصابات على الاستعمار البريطاني من منظمة “أيوكا” اليونانية التي أضرت بضرباتها قبارصة تركيا، لذلك قرر الأتراك في المقابل أن يدافعوا عن أنفسهم ووجودهم من هذه المواجهات والهبات، فأسسوا حركة “فولفان” أو البركان لتقاوم الاحتلال البريطاني بدورها وتقاوم الانتهاكات اليونانية.
وعلى إثر هذه التنظيمات والموقف الشعبي الموحد، قامت ثورات من القبارصة اليونانيين والأتراك عام 1960، لتنهي الحكم البريطاني، ويعلن استقلال قبرص من الإنجليز، باتفاقيات جديدة تنص على منح الأتراك واليونانيين حق الاشتراك في حكم الجمهورية.
بداية نزاع لا نهاية له
يعد النزاع اليوناني التركي من أقدم الأزمات السياسية العرقية، فلم تنجح المحاولات والمفاوضات المستمرة في إيجاد حل مرضٍ لكلا الطرفين، خاصة أن المشكلة ازدادت تعقيدًا مع ظهور ملفات جديدة عن الاتحاد الأوروبي والأنشطة الاقتصادية والتبادلات التجارية بين أوروبا و”إسرائيل”.
عام 1963 قرر سكان قبرص اليونانيين والجيش أن ينفذوا انقلابًا عسكريًا ضد الرئيس مكاريوس الثالث بهدف ضم الجزيرة بالكامل إلى اليونان، وبسبب هذه الحادثة وما نتج عنها من انتهاكات وجرائم بحق القبارصة الأتراك، غزت تركيا الجزيرة عام 1974 بتدخل من نجم الدين أربكان لتضع حدًا لهذا التمادي اليوناني، ومن هنا انقسمت ا2لجزيرة إلى جزء شمالي تركي، وجزء وسطي جنوبي يوناني، مع احتفاظ بريطانيا بقاعدتين عسكريتين في منطقتي أكروتيري ودهكيليا على الساحل الجنوبي، وتم الاعتراف بهذا التقسيم رسميًا عام 1983.
لعبت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية دورًا كبيرًا في تحريض القبارصة اليونانيين لافتعال هذا الانقلاب من خلال تعزيز دعوة دينية تسمى “الإينوسيس” التي من شأنها أن تنمي روح الانتماء لليونان من أجل ضم الجزيرة بشكل كامل لهم، وذلك بحسب ما فعلته مسبقًا مع جزر أخرى مثل جزر كريت التي ضمتها إلى حكمها بنفس الوسيلة وبناءً على فكرة “الميغالي” المفهوم الديني المبني على مبدأ إعادة المجد والوحدة للإمبراطورية اليونانية القديمة وجمع جميع المواقع والناطقين باللغة اليونانية في دولة واحدة.
لماذا يبدو احتمال الوحدة ضعيفًا؟
قد ترتاح الدولتان من أثقال هذا النزاع لو تم الاتفاق، لكن المخاوف التي تلاحقهما تجعل هذا القرار أمرًا معقدًا، فقرار التوحيد بالنسبة لتركيا يعني خسارتها لنفوذها وأداتها الجيوسياسية في المنطقة، وبهذا فهي تتنازل عن أهم المداخل الأمنية لأراضيها وللاتحاد الأوروبي في نفس الوقت، هذا عدا الاكتشافات الاقتصادية في منطقة شرق المتوسط التي تمثل فرصة ذهبية لتركيا التي تعاني من مشكلة في مصادر الطاقة بالتحديد.
حيث يتيح هذا الاكتشاف المجال لقبرص لتكون واحدة من أهم مراكز الطاقة ونقل الغاز في المنطقة، وذلك بكونها ممرًا مهمًا يصل منطقة الشرق الأوسط بأوروبا، خاصة بعد اكتشاف الغاز على شواطئ “إسرائيل”؛ ما جعل الدول المتنازعة تبني أحلامًا ومشاريع مستقبلية بشأن إنشاء أنابيب غاز تصل بين الجهتين عبر اليونان.
كما يمتد هذا الخلاف إلى بريطانيا اللاعب الثالث في المنطقة التي ترفض في أي حال سحب قواتها العسكرية من السواحل الجنوبية، خاصة بعد انشغالها في تقوية نفوذها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وبهذه المواقف المتعددة لكل دولة تتحول المشكلة القبرصية إلى ساحة من النزاعات بين المصالح الإقليمية والدولية، وليست فقط مسألة سياسية عرقية بين اليونانيين والأتراك كما كان الأمر في البداية.
ماذا تبقى من الآثار العثمانية في قبرص؟
من أهم الآثار العثمانية وأقدمها “الخان الكبير” في العاصمة المقسمة ليفكوشا الذي أُنشئ بعد عام من فتح الجزيرة بهدف استقبال الزوار القادمين من أماكن مختلفة من العام، حيث يضم الخان المكون من طابقين أكثر من 68 غرفة و10 دكاكين تجارية ومصلى، وذلك بأمر من أمير قبرص مظفر باشا، هذا بالجانب إلى خان آخر باسم “المقامرين” والمعروف سابقًا باسم “سوق القمح”.
إضافة إلى جميع الحمامات وصنابير المياه والمدارس والمكتبات والقلاع التي وهبت الجزيرة الطابع العثماني، تبقى كنيسة “آيا صوفيا” واحدة من أبرز المباني التراثية، فلقد تم تحويلها إلى مسجد وسمي بجامع لالا مصطفى باشا بعد الفتح، للدلالة على انتصارهم، وأخيرًا مكتبة السلطان محمود الثاني التي اكتمل بناؤها عام 1829، واحتوت على العديد من المخطوطات والمطبوعات التي يصل عددها إلى 1700، وتحمل بداخلها قيمة علمية وتاريخية كبيرة.