كما لو أنه كُتب علينا الغرق في بحر، أي بحر لا يهم، المهم أن تواجه قدرك المحتوم، لا سبيل للخلاص ولا يهم أن تكون من قرية ذي النُّون فقد غادرها الحوت وصاحبه ولن يلتقمك أحد ليضعك على اليابسة.
في بحر الموصل القديمة وعلى ضفاف التاريخ تتلاطم أمواج الدمار في محيط الخراب الذي يمتد بامتداد النظر، لم يعد يهم كيف حدث ذلك، هل بتفجير من الأرض أم بصاروخ من السماء فقد حدث وقضي الأمر.
لا شيء يبقى على حاله، ندرك هذا الأمر، لكن الموصل التاريخية استعجلت الرحيل وغادرت تشكو إلى الله ما حاق بها من ظلم
لا أدري كيف ستكون ألحان ملا عثمان الموصلّي أو زرياب وإسحاق لو أبصروا مستقبل مدينتهم وما ستؤول إليه، ولا أعرف أي رثاء كان سينطق به أبو تمام ولا كيف سيدون ابن الأثير هذه الحقبة حالكة السواد قاتمة الأفق.
وأنا أتسور تلال الحجارة التي كانت بيوتًا أو أسواقًا أو مسجدًا أو خانًا أو مرقدًا لنبي أو ولي، سرى شعور غريب في داخلي أيقظ سؤالًا غريبًا، ماذا كان ليفعل وكيف سيشعر صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ وهو يشاهد مساجد الإمام عون الدين وقصيب البان ومراقد يحيى أبو القاسم والشيخ فتحي والآلاف من المنازل والقناطر التي أشرف على بنائها تتحول إلى تراب صامت بلا روح؟
يجب أن تتسور تلال الركام لتكمل طريقك وأنت تسير في أزقة الموصل القديمة
على بقايا منزل مدمر مطل على مئذنة جامع النووي الكبير (الحدباء) جلست أتأمل رمز الموصل المجندل على الأرض وباحة المسجد المدمر وأتخيل مودود توكتكين يجهز جيشه لفك حصار حلب ودمشق واستعادة الرها من الحملات الصليبية من الأرض المجاورة للمسجد.
تخيلت نورالدين زنكي يضع الأساسات ويعقد الاتفاق مع المهندسين قبل ألف عام لبناء المسجد الكبير، ويختار تصميمًا فريدًا لمئذنة مسجده ليكون رمزًا للمدينة فيما بعد وهو منارة الحدباء، تخيلت صلاح الدين الأيوبي طفلًا في باحة المسجد ثم قائدًا إلى بيت المقدس بجيش نواته الأولى من أبناء هذه الأزقة المدمرة.
لم أبك عند مشاهدتي لهذا الكم الهائل من الدمار للمرة الأولى ولكنني شعرت بانقباضة صدر مؤلمة
أعتقد أن حسين باشا الجليلي والي الموصل حشد الناس على هذه الأرض ووجههم منها للدفاع عن عروس الشمال العراقي ومركز ولاية الموصل العثمانية ضد الحملة الصفوية في القرن الـ18 بقيادة نادر شاه، لا أعلم لماذا تمنيت أن يكون موجودًا اليوم، فقد أدار إعادة ترميم ما تدمر نتيجة الحرب والحصار بطريقة مميزة ذلك الوقت، فقد يستطيع أن يفعل شيئًا أمام هذا الخراب.
لم أبك عند مشاهدتي هذا الكم الهائل من الدمار للمرة الأولى ولكنني شعرت بانقباضة صدر مؤلمة، وأعتقد أن المسيحي عبود الطنبورجي كان سيبكي عند مشاهدته منارة الحدباء مدمرة، فقد خاطر بحياته لإنقاذها عندما صعد لترميم فجوة في جدارها على ارتفاع عشرات الأمتار.
قلعة باشطابيا أو قلعة الموصل التي كُسر على أسوارها حملة نادر شاه في القرن الـ18
لا شيء يبقى على حاله، ندرك هذا الأمر، لكن الموصل التاريخية استعجلت الرحيل وغادرت تشكو إلى الله ما حاق بها من ظلم، لا أعرف لماذا أفزعني صوت ضحكات نادر شاه الذي كُسر على أسوار الموصل، وريتشارد الذي قُهر بفتى وجيش انطلق من هذه الأرض، ولا أعرف ما الذي دفعني للمغادرة سريعًا هربًا من تلك الضحكات التي تقول إن أرواحهم المهزومة سابقًا سعيدة بما حدث لمدينتي.
يبدو أن أحفاد ذا الخويصرة قاموا بواجبهم على أكمل وجه، فقد أحالوا موصلنا خرابًا وعاثوا فيها فسادًا، هدموا النفوس قبل الجدران وأصابوا القلوب بالأمراض ولم يكتفوا حتى تعفنت جثثهم في دجلة ليعكروا صفو مائه، وتتفسخ جثثهم في شوارع المدينة القديمة ليلوثوا نقاء هوائها.
الموصل وكلما أقولها تغرورق المُقَل، لا أدري أي روح جبارة تمتلك وأي عزيمة وإصرار على الحياة مزروعة بداخلها، قدمت بعد 4 سنوات فراق وأمنيتي أن أمنح لها الأمل، لكن الذي حدث أنها منحتني أملًا جديدًا ويقينًا بأن المدن العظيمة تضعف ولا تموت، وأن الأقدار الكبيرة مرتبطة بنهضة مدن مثل مدينتي والسعيد من أدرك تلك النهضة، فهل يسعفني الحظ بأن أجلس في ظلال الحدباء مرة ثانية لأكتب مقال النهضة لا الرثاء، وأشاهد مجدها يولد من جديد؟