شهدت المدن العربية بفلسطين المحتلة – خلال الآونة الأخيرة – حملة شرسة من محاولات “التهويد” لكل ما يتعلق بالتراث والعمارة والتاريخ العربي والإسلامي، بدءًا من محاولات تهويد أسماء الأماكن، من خلال عبرنة الأسماء وحذف المصلطحات، مرورًا بمحاولات تغيير معالم الأماكن الأثرية بفلسطين المحتلة والقدس، حتى محاولات تهويد الهوية الأصلية للمكان.
لكن بالنسبة لدول خليجية ومعها شخصيات فلسطينية نافذة باتت تعمل ضمن أطرها، فإن أهل القدس لا يكفيهم ما تفعله “إسرائيل” بحقهم في معركة البقاء ليل نهار، فمساعي طمس الهوية لم تقتصر على إجراءات” إسرائيل”، وإنما صحبتها مساعٍ إماراتية لشراء أراضٍ في القدس وتسليمها لليهود، في جريمة تعكس السلوك العدواني لحكامها وتطبيعهم السافر مع دولة الاحتلال.
دور إماراتي في تهويد القدس
أكد ذلك – للمرة الثالثة – نائب رئيس الحركة الإسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 الشيخ كمال الخطيب الذي كشف عمليات إماراتية “مشبوهة” لشراء بيوت وعقارات لفلسطينيين في مدينة القدس المحتلة، ثم تسريبها للاحتلال الإسرائيلي.
وكشف الخطيب عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أن “رجل أعمال إماراتي مقرب جدًا من محمد بن زايد يعمل على شراء بيوت وعقارات في البلدة القديمة، وخاصة البيوت الملاصقة للمسجد الأقصى المبارك، بمساعدة رجل أعمال مقدسي محسوب على القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان.
وبحسب الخطيب، فإن “رجل الأعمال هذا عرض على أحد سكان القدس مبلغ 5 ملايين دولار لشراء بيت ملاصق للمسجد الأقصى، وعندما رفض العرض، وصل المبلغ إلى 20 مليون دولار لنفس البيت”، لكن المحاولة فشلت لأن “لعاب صاحب البيت الأصيل لم يسل على المال الدنس”، بحسب وصفه.
عزز من تلك الاتهامات، تصريحات للأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله – في كلمة له بقرية مارون الراس اللبنانية – اتهم فيها دولًا خليجية – لم يسمها – بإرسال الأموال لشراء البيوت من سكان القدس، ثم يبيعها “رجال أعمال عرب خونة”، على حد وصفه، للإسرائيليين، في إطار مخطط مستمر لتهويد القدس.
يتهم الخطيب الإماراتيين مرارًا بخداع أصحاب المنازل وإخبارهم بأن المشترين مستثمرون إماراتيون يريدون إعمار المدينة المقدسة
لكن كشف المخطط الإماراتي لشراء عقارات المقدسيين وتسليمها إلى الإسرائيليين، لم يلق ترحيبًا عند القيادي المفصول من حركة فتح الفلسطينية محمد دحلان المقيم في الإمارات، حيث شن هجومًا عنيفًا على الخطيب وهدد بمقاضاته، كما هاجم قناة “الجزيرة” التي ظهر الخطيب عليها، وادعى أن “من يمولونها يمضون أسعد الأوقات في فنادق تل أبيب والقدس بإذن ورعاية مباشرة من حاكم قطر”.
ويتهم الخطيب الإماراتيين مرارًا بخداع أصحاب المنازل وإخبارهم بأن المشترين مستثمرون إماراتيون يريدون إعمار المدينة المقدسة، ليكتشف المقدسيون فيما بعد أن المنازل بيعت لمستوطنين صهاينة، والجهات الإماراتية استخدمت لخداع الفلسطينيين الذين يرفضون بشكل قاطع بيع منازلهم للإسرائيليين.
حصار بأموال إماراتية
يعيدنا هذا المشهد إلى البحث عن دور نظام محمد بن زايد بالإمارات في شراء بيوت أهل القدس (سلوان ووادي حلوة) عام 2014 وتحويلها إلى المؤسسات الاستيطانية، فبحسب ما قاله الخطيب بالأمس عبر حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي تويتر، فإن أموال الإمارات تعود مرة أخرى لمحاولة شراء ضمائر أهل القدس وبيوتهم.
هذه المحاولات تعود بدايتها إلى أكتوبر 2014، حيث أعلن الشيخ كمال الخطيب وقتها عبر فضائية القدس تفاصيل مثيرة تتعلق ببيع منازل فلسطينية في القدس المحتلة لصالح مستوطنين صهاينة بأموال كان مصدرها دولة الإمارات العربية، ليتبين أن البائعين الفلسطينيين في بلدة سلوان المقدسية تعرضوا لخديعة، وقيل لهم إن البيع يتم لمستثمرين إماراتيين يريدون إعمار المدينة المقدسة.
الغريب في الأمر أيضًا – بحسب تصريحات الخطيب لموقع “عربي21” – أن الأموال وصلت بالفعل من دولة الإمارات إلى أحد البنوك الفلسطينية في بلدة العيزرية
وفي التفاصيل التي تناقلتها وسائل إعلام عربية، فإن 24 منزلًا فلسطينيًا في بلدة سلوان بالقدس المحتلة بيعت بعد ذلك لمستوطنين صهاينة، ثم بيع عشرة منازل أخرى في وقت لاحق، وأرسلت الإمارات لاحقًا أموالًا بيع من خلالها 22 شقة سكنية في سلوان جنوب المسجد الأقصى لجمعية “إلعاد الاستيطانية”.
ورغم أن سلوان تشهد حملة تهويد ممنهجة، تتمثل بمحاولات مستمرة لشراء عقارات وبيوت فلسطينية عبر تسريبها من مشبوهين، وتمليكها للمستوطنين من أجل خلق ثقل يهودي في المنطقة، فإن المثير في الممارسات الإماراتية أن عملية البيع تمت في شهر يوليو، وهو الشهر الذي كان العدوان الإسرائيلي يقصف غزة في العشر الأواخر من شهر رمضان، فكان الفلسطينيون يسقطون في غزة بقصف العدوان، وعشرات المنازل تسقط في يد المستوطنين الصهاينة بفضل الأموال الإماراتية.
الغريب في الأمر أيضًا – بحسب تصريحات الخطيب لموقع “عربي21” – أن الأموال وصلت بالفعل من دولة الإمارات إلى أحد البنوك الفلسطينية في بلدة العيزرية، لافتًا إلى أن البنك خاضع لسلطة النقد الفلسطينية التي تنص قوانينها على أي حوالة مالية تزيد على 10 آلاف دولار يجب أن يتم التحقق منها والإبلاغ عنها لضمان ألا تكون مندرجة في إطار غسيل الأموال ولا تمويل الإرهاب، وهو ما يفتح سؤالًا آخر عما إذا كانت السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية قد علمت بهذه التحويلات والغاية منها وغضت الطرف عن الأمر.
رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل الشيخ رائد صلاح، أكد صحة المعلومات الاخبارية، وقال في تصريحات لبرنامج “بلا قيود” الذي تبثه فضائية “بي بي سي”: “لدينا وثائق تثبت أن الأموال التي دفعت لشراء 34 شقة ومنزل بالقدس العربية المحتلة وصلت للبنوك في “إسرائيل” من دولة الإمارات”.
ورغم أن الشيخ صلاح لم يتهم جهات إماراتية محددة بالوقوف وراء تلك العمليات، فقد قال إن الأموال التي دفعت ثمنًا لتلك العقارات جاءت من جمعيات موجودة في دولة الإمارات، مشيرًا إلى أن تصريحات نائبه الشيخ كمال الخطيب في هذا الصدد قبل أشهر لم تأت من فراغ، بل جاءت من خلال ما توفر لدى الحركة الإسلامية من معلومات ووثائق بخصوص تلك العقارات المقدسية.
لكن لم يكن ما أثاره الشيخ رائد صلاح يوم 25 من أبريل 2015، مجرد مزاد سياسي لخطاب نائبه، فهذا عضو لجنة الدفاع عن أراضي القدس صالح الشويكي يحِّمل رئيس السلطة محمود عباس المسؤولية الكاملة عن تسريب عقارات وممتلكات المقدسيين إلى الاحتلال والمستوطنين التي أثبتت الوثائق تورط دولة الإمارات العربية في بيع هذه العقارات للاحتلال، مشددًا على أنه لم يبقَ في أيدي المقدسيين سوى 30% من الأراضي والممتلكات فيما 70% مهدد بالمصادرة والتسريب والبيع.
دليل فلسطيني تجاري وحيد أظهر ترخيص بيع عقارات في البلدة القديمة بالقدس – المصدر: صحيفة الأخبار اللبنانية
يضاف إلى ذلك ما كشفته جريدة “الأخبار” اللبنانية، عن تورط أطراف عدة من ضمنها الإمارات، بشأن تهويد العقارات المقدسية في البلدة القديمة في القدس، عبر شراء منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم العقارية فيها، ونقل ملكيتها إلى مستوطنين صهاينة بالتعاون مع شخصيات فلسطينية نافذة.
ونشرت الصحيفة تقريرًا مفصلًا ومطولًا عن المؤامرة الجديدة مدعومًا بالصور والمستندات والخرائط الجغرافية، تؤكد كلها التواطؤ الإماراتي الصهيوني في تنفيذ هذا المخطط، حيث تشتري شركات إماراتية العقارات والمنازل من الفلسطينيين وتحويل ملكيتها إلى المستوطنين الصهاينة، عبر شخصيات فلسطينية موالية مثل محمد دحلان الذي يعمل مستشارًا لولي عهد أبوظبي.
وتكشف وثائق تفصيلية، بشأن بيع العقارات المقدسية في البلدة القديمة في القدس، أن وسيطًا فلسطينيًا يدعى فادي السلامين يشتري العقارات الفلسطينية المحيطة بالمسجد الأقصى ثم يحولها إلى شركة إماراتية تبين أنها تبيع القدس إلى الصهاينة بأموال إماراتية.
الدور الإماراتي في القدس.. ما خفي كان أعظم
إذا استمر تسريب البيوت إلى المستوطنين ستتحول أجزاءً كبيرة من البلدة القديمة إلى مناطق يهودية السكن
كان الخطيب قد أشار العام الماضي إلى دور مشابه لمقربين من أبوظبي، وجدد اتهامه لشركات وجمعيات إماراتية بشراء عقارات المقدسيين لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وخاصة القريبة من المسجد الأقصى، مؤكدًا أن هذا الأمر يعزز الوجود الإسرائيلي في القدس ويهدف لتهويد المدينة.
وقال في حوار مع صحيفة “الشرق”: “الدور الإماراتي لم تظهر حقيقته إلا الآن، وما خفي كان أعظم، فما علمناه أن دولة الإمارات تشتري بيوت المقدسيين عبر جمعيات يهودية أمريكية لها مقرات في الإمارات، ويأتون من الإمارات مباشرة إلى “إسرائيل”، من خلال سماسرة فلسطينيين يسهلون لهم شراء عقارات المقدسيين، خاصة القريبة جدًا من المسجد الأقصى المبارك، ومن خلال بعض مندوبيهم الذين كانوا يعملون في جمعيات إماراتية، وهؤلاء بمنزلة الطابور الخامس”.
لعل ذلك ما دعا المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية رئيس مجلس الإفتاء الأعلى الشيخ محمد حسين، إلى إصدار فتوى حرم فيها تسهيل تمليك القدس وأرض فلسطين للأعداء
وتحاول الإمارات ممارسة نشاط ملحوظ في القدس خلال السنوات الماضية، وتحديدًا في شهر رمضان، وذلك تحت غطاء “المساعدات” وتقديم جمعيات تابعة لها وجبات لإفطار الصائمين، لكن بعد كشف المخططات الإماراتية في المدينة المقدسة، رفض مواطنون فلسطينيون في القدس تناول قبول هذه الوجبات وقاطعوها، وأطلق ناشطون مقدسيون وسمًا على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان “إحنا مش جعانين”، واتهموها بالتواطؤ مع الاحتلال والتطبيع معه على حساب حقوقهم وعلى حساب المسجد.
لعل ذلك ما دعا المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية رئيس مجلس الإفتاء الأعلى الشيخ محمد حسين، إلى إصدار فتوى حرم فيها تسهيل تمليك القدس وأرض فلسطين للأعداء، فوفقًا للتقديرات، فإنه إذا استمر تسريب البيوت إلى المستوطنين، خلال الخمس سنوات القادمة، عبر البيع المباشر (بأموال إسرائيلية) أو الوسطاء (بأموال عربية)، ستتحول أجزاءً كبيرة من البلدة القديمة إلى مناطق يهودية السكن، ما يعني تهويد محيط الأقصى أولاً، كخطوة أمر واقع لتهويد المسجد ثانيًا.
للتطبيع مع “إسرائيل” أشكال أخرى
إضافة أخرى تتعلق بالتهويد غير المباشر إماراتيًا، فقد تبين أن شركة مملوكة لأبو ظبي بألمانيا تشارك في حملة إسرائيلية تروج لـ”تهويد” القدس المحتلة، وقالت مواقع إخبارية إن دائرة السياحة والآثار الإسرائيلية أطلقت حملة تدعم تهويد القدس المحتلة بمشاركة شركة طيران “إير برلين” الألمانية التي استحوذت عليها مؤخرًا حكومة أبو ظبي، وأصبحت طائراتها تضم شعار “طيران الاتحاد”، وبدأ نشر إعلانات الحملة التي تعطي القدس هوية يهودية، في عدد من الصحف، ومنها صحيفة “دي فيلت” الألمانية البارزة المعروفة بانحيازها للاحتلال الإسرائيلي، وتدعو الحملة الإسرائيلية إلى زيارة القدس المحتلة مع إبراز حائط البراق وعدد من اليهود يصلّون عنده.
وتشير تقارير صحفية إلى أن دولة الإمارات تسعى بشكل دؤوب إلى توطيد وتطبيع علاقاتها مع تل أبيب، دون النظر إلى احتلال الأراضي الفلسطينية وعمليات الاستيطان المستمرة بالقدس والضفة الغربية، فعلى سبيل المثال، لم تكن مشاركة دراجي الإمارات والبحرين بسباق الدراجات الهوائية بالقدس مشاركة في المظاهرات المنددة بالاحتلال ومساعي تهويد القدس وحصار غزة في ذكرى النكبة، بل في الجهة المقابلة التي يحتفل فيها بتأسيس “إسرائيل”.
في سبيل ذلك، تتحول حياة الفلسطينيين إلى سلسلة من الصعوبات اللامتناهية، فيما يبادر أولئك إلى “تعزيز” الصمود المقدسي بطريقتهم التي تلبي الهدف الإسرائيلي
وكانت تسريبات البريد الإلكتروني المخترق للسفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة كشفت وجود علاقة وثيقة بين الإمارات ومؤسسة موالية لـ”إسرائيل”، وفي هذا السياق، كشفت وكالة أسوشيتد برس وصحيفة واشنطن بوست في وقت سابق أن سفيري الإمارات يوسف العتيبة والبحرين عبد الله بن راشد آل خليفة التقيا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في مطعم راق بواشنطن في مارس/آذار الماضي.
وضمن حلقات التطبيع الإماراتي مع الاحتلال، نقلت الإذاعة العبرية الإسرائيلية عن وزير المواصلات في حكومة الاحتلال أيوب قرا أنه تلقى دعوة رسمية علنية لزيارة الإمارات، وقال إنه يتوقع زيارة مسؤولين خليجيين لـ”إسرائيل” قريبًا، فبحسب مراقبين، لم يدخر الإماراتيون جهدًا في بلورة العلاقة المشبوهة في شكل صفقات تجارية لم يكن يحلم الصهاينة بعقدها مع دولة عربية في ظل الصراع الدائر مع الفلسطينيين.
في سبيل ذلك، تتحول حياة الفلسطينيين إلى سلسلة من الصعوبات اللامتناهية، فيما يبادر أولئك إلى “تعزيز” الصمود المقدسي بطريقتهم التي تلبي الهدف الإسرائيلي، أي تحويل المدينة المحتلة إلى عاصمة إسرائيلية ديموغرافيًا، ولعل ذلك ينهي أحد أهم الملفات العالقة في طريق التسوية، أو قل بيع أهمّ ما تبقى من فلسطين.