تشن القوات الإفريقية لحفظ السلام في الصومال حملة عسكرية الى جانب القوات الحكومية ضد حركة الشباب المجاهدين في المحافظات الجنوبية والوسطى، سقطت خلالها مدن ومراكز سكانية استراتيجية في قبضة الحكومة الصومالية لأول مرة منذ ست سنوات. ويتوقع كثيرون أن تكون هذه المعارك بداية النهاية لحركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة والمنصفة أمريكيا ودوليا كتنظيم إرهابي.
ورغم أن هذه العملية التي تخوضها الدولة الصومالية ضد الحركة تختلف عن سابقاتها في كونها الأشرس والأوسع نطاقا، ومشاركة أكثر من عشرين ألف جندي فيها من ست دول إفريقية بدعم لوجستي أمريكي وأوروبي، إلا أنها لا يمكن اعتبارها آخر المطاف.
ففي عام 2007 سيطرت القوات الإثيوبية بدعوة حكومية على كامل تراب الجنوب وطاردت فلول المحاكم الإسلامية حتى أبعد نقطة من المناطق الحدودية المحاذية لكينيا، ولم يخطر ببال أحد أن أي طرف منتسب للفكر الجهادي يمكنه أن يعود الى الساحة كما كان، في مظاهره ناهيك عن عودته تنظيما وعسكريا، لكن ما حدث بعدها أنه عاد أقوى أو أكبر عنفوانا.
ويتكرر نفس الأمر بعد خمس سنوات في العاصمة، فبعد شهور من انسحاب قوات حركة الشباب من جبهات مقديشو وعودة الإستقرار إلى المدينة عام 2011 تحت ضغط القوات الإفريقية التي استعانت بمستشارين غربيين وخبراء في حرب الشوارع، عادت اليوم كتائب الشباب الى أحياء العاصمة ليصبح من الطبيعي – بعد أن تحول لخبر كان – وقوع اشتباك مسلح وجها لوجه واستمراره لساعات بينهم والقوات الحكومية في قلب العاصمة، بغض النظر عن العمليات الإنتحارية والتفجيرات.
السؤال هو؛ ما الذي تسبب بذلك؟
حول الدائرة نفسها في سبع سنوات:
حسب العملية الحسابية التقليدية، في الحرب النظامية ضد الجماعات الجهادية، يفترض أن شن عمليات عسكرية موسعة واحتلال مراكز المدن يقضي على التنظيم الجهادي، لكن تلك الإستراتيجة أثبتت فشلها في أكثر من مكان وفي الصومال في أكثر من مرة.
الجماعات الجهادية بطبيعتها تدخل على الخط في حالة تدهور أو زلزال أو انهيار وتتبني خطابا تطرح فيه نفسها كبديل لمجتمعات محلية تعاني إما من الفوضى أو ظلم معين كاحتلال أو نظام حكم أو حتى قطاع طرق.
في الصومال ظهر الجهاديون لأول مرة إعلاميا عام 2006 – وإن كانت خلايا القاعدة قد وصلت الى البلاد في أوائل التسعينات – وذلك ضمن مشروع اتحاد المحاكم الإسلامية التي كانت في أساسها رد فعل محلي على حالة الفوضى التي جعلت الصومال سياسيا وميدانيا رهينة أمراء حرب وعصابات مسلحة وقطاع طرق، مما منحهم شرعية شعبية لم يحظ بها أي مشروع سياسي آخر بعد الحرب الأهلية، وحققوا استقرارا أمنيا لأول مرة منذ عقد ونصف.
وبعد هزيمة المحاكم وسيطرة الحكومة بدعم إثيوبي على كامل التراب الصومالي، شكل فشل الحكومة في تحقيق الحد الأدني من تطلعات الشعب وعلى رأسها الأمن، ليتحول نتيجة للإنتهاكات الممنهجة ضده عدوا للدولة فتشكلت حواضن شعبية قوية للجماعات الجهادية جعلتها إضافة لميزات حرب العصابات أمام القوة النظامية صاحبة اليد العليا في الصراع الذي انتهى بعد سنتين بتوقيع معاهدة ترتب عليها إجراء انتخابات فاز فيها الجهادي السابق شريف شيخ أحمد وإن كان يعد الأكثر اعتدلا حسب المعايير الأمريكية.
وعادت الدائرة لتدور من جديد بعد فشل حكومة شريف في وضع أسس ملمومسة لمشروع سياسي بديل عن المشاريع السابقة، وتصدر مسؤوليها تقارير الفساد التي نشرتها الأمم المتحدة، وفشلها في ردم الهوة بين الشعب ومؤسسات الدولة، كل ذلك تسبب بصعود نجم حركة الشباب المجاهدين أحد أكثر الكيانات تنظيما في الساحة الصومالية والذي نجح في السيطرة على جل مساحة الجنوب ومعظم العاصمة مؤسسا لنظام بديل وإدارات للمناطق منحت لشعب أمنا نسبيا واستقرار مقابل الفوضى وعمليات السلب والنهب والإغتصاب التي عمت المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة.
تلخصت جهود مكافحة الشباب بالعمليات العسكرية والأمنية حتى بعد خروج الصومال من المرحلة الإنتقالية ووصول الرئيس حسن شيخ محمود الى الحكم، من دون إنجاز أي شيئ بصدد إعادة هيكلة أجهزة الأمن والسيطرة على عناصرها الجانحين، ومكافحة الفساد الذي ذكرت تقارير مجلس الأمن أنه يمثل أكبر عائق أمام جهود إعادة إعمار البلاد، أي أن الدولة لم تخرج بعد من مربع كونها عضوا غريبا في أفضل الاحتمالات بالنسبة للمجتمعات المحلية.
ففي المساحات الواسعة التي انتشرت فيها القوات الحكومية تحولت الحواجز التي تجمع الأتوات الغير القانونية من المواطنين ظاهرة منتشرة، وبسبب تفشي الإغتصاب تصدرت الصومال أسوء دول العالم في ملف الإنتهاكات لحقوق المرأة، كما اندلعت نزاعات قبلية في بعض المناطق بسبب حساسيات أشعلها تكوين كتائب الجيش الذي كان أغلب منتسبيه عناصر مليشيات قبلية كانت تنشط قبل حقبة المحاكم في البلاد.
الآن.. ماذا بعد؟
في الشهر المنصرم تدفقت الأرتال العسكرية الى مدن رئيسية كانت تحت سيطرة الشباب الذين فضل – بحكم كونهم تنظيما جهاديا ينتهج حرب العصابات في معاركه – عدم التصدي لها وتركها تجتاح المدن وتتمركز فيها، ودخلت تحت سيطرة الدولة تسع مدن كبرى في وسط وجنوب الصومال دون أن يكون هناك تغيير ملحوظ في كل من هيكلة المؤسسات/ الفساد/ وكسب الحواضن الشعبية، وظهرت بوادر عبثية تلك الخطوة في وقت قصير، مما حدا بقائد البعثة الإفريقية لحفظ السلام والمبعوث الخاص للصومال أحمد النظيف للتصريح بأن القوة الإفريقية لا يمكنها تأمين مراكز المدن التي اجتاحتها مؤخرا.
لا يمكننا تجاهل أن الإدارة الصومالية الجديدة أتت الى الحكم وكثبان من الأزمات والتعقيدات تجثم على الواقع الصومالي، لكن في نفس الوقت لا يستقيم أن نعذر الحكومة الصومالية التي لا ينقصها دعم ولم تنقصها شعبية يوم وصلت الى القصر الرئاسي “فيلاصوماليا” في عدم نجاحها بتحقيق ما حققته حركة يعاديها كل العالم ولا يتماهى مشروعها في تفاصيله وملامحه الكبرى مع الهوية الصومالية العشائرية والتدين التقليدي الصوفي للشعب الصومالي.
كما أنه يفترض بتجارب تاريخ قريب تكررت بنفس الصورة أن تدفع بالقيادة الصومالية لتغيير مقاربتها لمواجهة الأزمة، المرحلية في مواجهة الإنفلات الأمني، والبعيدة المدى في إرساء دعائم الدولة التي لم توجد حتى قبل انهيار “الدولة”،