لم تكن أزمة المياه التي تضرب العراق حاليًّا وليدة اللحظة، وإنما متأصلة منذ سنوات، نتيجة ضعف الإدارة الحكومية للموارد المائية، سواء ما قبل 2003 أم بعدها، فالتجاذبات والتقاطعات بين العراق والدول المجاورة تعود إلى فترات زمنية طويلة شهدت خلالها إبرام اتفاقيات وبروتوكولات عديدة نُفذ بعضها وبقي البعض الآخر حبرًا على ورق لأسباب سياسية وأمنية كانت غالبًا ما تلقي بظلالها على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الأطراف المعنية.
والأزمة الحاليّة بعد إعلان تركيا البدء بملء سد “ILISU” أو ما يعرف في وسائل الإعلام العربي بـ”أليسو” ليست بالجديدة أيضًا، وإنما جاءت بموجب اتفاقات مسبقة وافقت عليها الحكومة العراقية بملء إرادتها، بل كانت الطرف الأضعف في الاتفاق، نظرًا لغياب العقلية الإستراتيجية والاستثمارية والتركيز في التصارع على المصالح والمكاسب.
حتى إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي شخصيًا بأنه سيتم المباشرة بملء سد “أليسو” عند زيارته أنقرة في 2017، لتبدو الحكومة العراقية متفاجئة وكأنها لا تدري عندما بدأت تركيا ملء السد في الأول من يونيو/حزيران الحاليّ بحسب الاتفاق.
وكانت تركيا قد أجّلت بدء التخزين، بناءً على طلب عراقي، من يناير/كانون الثاني الماضي إلى يونيو/حزيران الحاليّ الذي خفّض من تدفق مياه “دجلة” للعراق بنحو 50%.
وبعد الموجة التي أثارها العراقيون بشأن انخفاض مناسيب نهر دجلة، والاستنكارات الحكومية والشعبية والإعلامية، وظهور وزير الموارد المائية حسن الجنابي مدافعًا عن الاتفاق وأنه تم بعلم الحكومة؛ بل إن الحكومة تخلت عن وزيرها وجعلته يواجه مصيره منفردًا أمام الإعلام والرأي العام، وبدا ذلك واضحًا من خلال تصريحاته المرتجلة وغير المدروسة من خلال دعوته العراقيين لشراء “تانكيات” خزانات المياه وتخزين حاجتهم فيها، حتى بات يعرف لدى العراقيين وفي مواقع التواصل بـ”حسن تانكي”.
زوبعة سد “أليسو” جعلت العراقيين يستفيقون، ونبهتهم إلى الأزمة المائية الحقيقية التي يواجهها العراق التي تتمثل في الانخفاض المتنامي لمخزون المياه في خزانات السدود بسبب سوء إدارة الموارد المائية في البلاد
بعد ذلك كله أعلنت الحكومة التركية تأجيل ملء السد شهرًا واحدًا، كما جاء على لسان وزير الغابات والمياه التركي ويسل أر أوغلو، في تصريح صحافي: “كنا نخطط لملء السد في الظروف العادية العام الفائت، ولكن الحكومة العراقية طلبت تأخير ذلك، إلى 2018، بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد عام 2017″، مؤكدًا أنّ الرئيس رجب طيب أردوغان أصدر تعليماته بتأجيل موعد ملء سد أليسو، حتى الأول من يوليو/تموز المقبل، وأن ذلك جاء بناء على طلب من الحكومة العراقية، وتمت الموافقة على الطلب العراقي، وفتحت بوابات السد، والآن تتقدم المياه نحو العراق.
ويعكس هذا الموقف – وللأسف – مدى غياب الإستراتيجة العراقية في استثمار خيرات البلاد، وأصبحت هنا الحكومة العراقية كأنها ولد صغير يربّت على كتفه الكبير عطفًا عليه وشفقة، كما يقرأ من بين سطور تغريدة السفير التركي في العراق فاتح يلدز الذي قال بأن وقف ملء سد أليسو وجريان المياه للعراق مرة أخرى جاء احترمًا لحق الجيرة بيننا، وهو محق في ذلك ومتفضّل، والعتب على حكومتنا.
أما الجانب الإيراني هو الآخر يعبث بمياه العراق ويسيطر عليها كيفما يشاء، دون اتفاقات حقيقية ورصينة تلزمه بشيء تجاه جيرانه، حيث قطعت إيران – بالتزامن مع تشغيل سد أليسو التركي – أحد أنهار الزاب الصغير، بعد قيامها بقطع خطوط لإمدادات الكهرباء بسبب تراكم المستحقات على حكومة بغداد في وقت سابق، وأطلق ناشطون على إثر ذلك هاشتاغ (#ايران_تقطع_ماء_وكهرباء_العراق).
تشير مجمل الدراسات إلى أن الأزمة المقبلة ستكون أزمة مياه، وربما – لا قدّر الله – تقوم بسببها حروب
زوبعة سد “أليسو” جعلت العراقيين يستفيقون، ونبهتهم إلى الأزمة المائية الحقيقية التي يواجهها العراق التي تتمثل في الانخفاض المتنامي لمخزون المياه في خزانات السدود بسبب سوء إدارة الموارد المائية في البلاد، وبحسب خبراء فإن العراق سيعاني انخفاضًا مطردًا في قدرته على تلبية احتياجاته المائي.
وبحلول عام 2020 فإنه سيصطدم بحقيقة أنه لن يكون لديه الكمية الكافية والنوعية الجيدة من المياه العذبة، ولا يمكن تفادي هذا المسار المخيف إلا بإصلاح وخطط وترشيد كبير في استخدامات المياه المختلفة، وأن يتم التوصل إلى اتفاق “حقيقي” مع الدول المتشاطئة ضمن إستراتيجية واضحة لمعالجة أبعاد الأزمة من موارد المياه واستصلاح الأراضي الزراعية لتلبية الاحتياجات المعيشية والتنموية.
وتشير مجمل الدراسات إلى أن الأزمة المقبلة ستكون أزمة مياه، وربما – لا قدّر الله – تقوم بسببها حروب، ومن الطبيعي جدًا أن يكون العراق أحد أبرز الأطراف التي تتأثر بالأزمة لوجود نهرين دوليين يمرّان خلاله هما دجلة والفرات، و لا يمكن في هذا المقام أن نغض الطرف عن القدر غير القليل من الاستغلال وفرض الأمر الواقع على العراق من الدول التي تتشارك معه المياه تبعًا لمصالحها.
لكنّ هذا لا ينفي الوزر الكبير الذي تتحمله الحكومة العراقية في سوء إدارتها للموارد المائية، ولن تقف الأزمة بل ستتطور ما لم تكن هناك سياسة عراقية للمياه داخليًا عبر الاستثمار والمشارع التنموية وخارجيًا عبر إبرام الاتفاقات والبرتوكولات مع دول الجوار وبإشراف دولي.