أتمت أنيّس فارادا 90 عامًا في الثلاثين من مايو الماضي، لتصبح أكبر مخرجة عمريًا في العالم وما زالت تعمل، ففي العام الماضي قامت بتجربة جديدة عليها وهي أنها قامت بمشاركة الإخراج مع الفنان البصري جي. آر وقاما معًا بإخراج وكتابة فيلم تسجيلي بعنوان “وجوه قرى” وتُرجم إلى الإنجليزية “وجوه أماكن”.
أنيّس تلقب بأنها أم للموجة الجديدة التي ضربت السينما الفرنسية في الستينيات حيث إنها المرأة الوحيدة التي انتهجت أسلوب الموجة الجديدة في أعمالها، وكانت صديقة مقربة لصانعيها ممثلين ومخرجين، كما أنها لطالما اهتمت بالتصوير الفوتوغرافي، وهو ما خلق مجالًا مشتركًا بينها وبين جي. آر، وهو واحد من أشهر الفنانين البصريين الذين يعملون في الأماكن العامة بالعالم إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق.
جي. آر يعمل أيضًا في مجال الإخراج السينمائي وخصوصًا التسجيلي، فلطالما سجل قصص من يصورهم وعرض وجوههم في أماكن عامة في العالم، ولكن ما المميز في فيلمه الجديد “وجوه أماكن” عن أفلامه السابقة؟
ما الذي ميّز “وجوه أماكن” على وجه التحديد؟
قد تتشابه أفكار الأفلام التسجيلية على وجه الخصوص، ولكن طريقة تناولها وإيجاد نقطة إبداعية بها هو ما يميزها، فقد يكون هناك فيلمان عن نفس الحرب، ولكن واحد من وجهة نظر القاتل والآخر من وجهة نظر المقتول.
“وجوه أماكن” كان من الممكن أن لا يلفت نظر المشاهد أكثر من أفلام جي. آر السابقة خصوصًا أنه لا يتناول قصة مهمة بعينها بل قصص متعددة لأكثر من وجه في أكثر من قري شمال فرنسا، الفكرة تكمن في عرض جي.آر على آنيّس فارادا مشاركته هذه الرحلة وتوجيهها إلى القرى التي تفضل ويضع نفسه هو وفريقه تحت تصرفها في التنفيذ حتى إنه أحيانًا كان يردد: فيلمك، لتستدرج آنيّس سريعًا وتعدل: بل فيملنا.
الفيلم يبدأ بجزء روائي عن كيفما تعارفوا، فيقول جي. آر أن أفلامها لطالما ألهمته وخصوصًا المشاهد التي كان يظهر بها جدرايات، وتقول أنيّس إنها لطالما استمتعت بمشاهدة أعماله المعروضة بكل مكان.
في بداية مقابلتهما أكدت أنيّس تشباه نظارة جي. آر السوداء بنظارة صديقها القديم جودار وأنه قبل ذات يوم أن يخلعها لتصوره، وهو ما رفضه جي. آر. استهلالًا ينبئ المشاهد بمشهدين قادمين لا محالة، أولهما التعرض لجودار، وثانيهما خلع جي. آر لنظارته، فيتلهف المشاهد لمتابعة الأحداث الإنسانية وغير المملة ليصل إلى هذين المشهدين على وجه التحديد.
ينقسم تصوير الفيلم إلى ثلاثة أجزاء: تصوير روائي متفق عليه وهو ما حدث في أول الفيلم وفي مشهد فحص نظر آنيّس عبر مجموعة من البشر تحمل حروفًا، تصوير تسجيلي واقعي خصوصًا مع الأناس الذين سجلوا قصصهم في القرى، وتصوير فوتوغرافي يتبعه تعليق صوتي، وكان أغلب الحوار بين آنيّس وجي. آر تعليقًا صوتيًا.
بين هذه القصص المتتالية تتداخل قصة آنيّس وجي. آر، وتتقوى صداقتهم، فيعرفها على جدته البالغة من العمر مئة عام ويرجع الفضل إليها في استطاعته التعامل مع المسنين
من آخر سكان منازل عمال المناجم وحتى الماعز التي ما زلت تحتفظ بقرونها
يكمن أكثر ما ميز الفيلم أيضًا ليس فقط الدمج بين أسلوبي عمل جي. آر وأنيّس، بل أيضًا الدمج بين مشاريع جي. آر المختلفة؛ فمشروعه الشهير (داخليًا – خارجيًا) والأعمال الجدارية الأخرى كلها حاول تطبيقها بين الوجوه المختلفة في القرى المتباينة، يمران بقرية فيطبعا وجوه المارة على حوائطها، ثم يعبران بقرية أخرى لها قصة وهي منازل عمال المناجم التي سيتم هدمها، فيطبعا صور عمال المناجم الأرشيفية، ويزيدا عليها صورة جانين آخر سكان هذه المنازل التي ترفض الخروج من منزلها الذي يحتوي على ذكرياتها مع والدها.
وتتوالى القرى والقصص، فيمران بمزراع يعمل وحيدًا تمامًا في مساحة أرض شاسعة، ويعبران بمزرعتين كلتاهما تقوم على تربية الماعز، الأولى تقص قرون الماعز وهي صغيرة حتى تمنع التانحر فيما بينهم، الأمر الذي صدم أنيّس التي تحب القطط والماعز، أما المزرعة الثانية تترك الماعز على طبيعته، فقررت أنيّس تكريهما هي وماعزها بوضع صورهم على جدران القرية.
قصص صغيرة أخرى جديرة بالاحتفاء
بين هذه القصص المتتالية تتداخل قصة آنيّس وجي. آر، وتتقوى صداقتهم، فيعرفها على جدته البالغة من العمر مئة عام ويرجع الفضل إليها في استطاعته التعامل مع المسنين.
آنيّس أيضًا لديها مشكلة في الإبصار، فيقرر جي. آر طباعة عينيها وأجزاء صغيرة أخرى من جسدها كقدميها ولصقها على قطار يعبر بأنحاء فرنسا حتى تتمكن من مشاهدة ما لن تستطيع رؤيته ربما.
يحرص على تصويرها صورًا تذكارية حتى تستطيع مشاهدتها قبل أن يضعف نظرها أكثر فأكثر، كل هذا يضفي جوًا من الدفء على مشاهد الفيلم الذي يحتفي بالقصص الصغيرة المهمشة، بقصص أخرى صغيرة بين صديقين تعارفوا حديثًا والفارق العمري بينهما كبير.
صديقان أغلق أحدهما الباب في وجه الآخر
جون لوك جودار وأنيّس فارادا صديقان منذ أمد بعيد، قررت الأخيرة زيارة الأول وجعلها مفاجأة لرفيقها في رحلتها الأخيرة بين القرى جي. آر، من سير الأحداث نرى توتر أنيّس لمقابلة صديقها العزيز بعد انقطاع دام خمس سنوات، ويتضح أنه على علم بأمر الزيارة، إلا أنهما حال وصلا إلى منزله وجدوه موصدًا ولا تظهر عليه أي إمارات حياة، ووجدوه ترك جملة صغيرة تذكر أنيّس بزوجها الراحل وصديقهم جاك ديمي، لتترك بدورها جملة على نافذته: “شكرًاعلى الذكرى، ولا شكر على إبقاء بابك موصدًا”.
بغض النظر عن أنهما جودار وفارادا، فالقصة قد تبدو صغيرة تتكرر يوميًا عن صديق يكسر قلب صديقه ويتعمد إيذاءه لأسباب لا تتضح للطرف الآخر، إلا أن الحدث أضيفت عليه هالة كبيرة لأن من قام بالفعل غير المتوقع هو جودرا الذي يتحمس المشاهد منذ الوهلة الأولى لرؤيته وجهًا لوجه – وإن كان عبر شاشة السينما – وقبوله الخروج من عزلته لأجل صديقته القديمة.
“وجوه أماكن” تكريم لأنيّس قبل أن يكون تكريمًا لأصحاب القصص ووجوههم المعلقة على الحوائط
فيلمًا يحتفي بتسجيل القصص الصغيرة لا شك، المهمشة منها التي لا يدور العالم حولها ولا يتوقف عندها أو عليها، يجد في كل واحدة منها قصة قابلة لأن تروى وأن تشاهد، ولكن قبل هذا يدرك المشاهد سريعًا أن جي. آر ربما كانت رغبته في الاحتفاء بأنيّس فارادا، واحدة من أيقونات السينما الفرنسية التي لم تلق التقدير اللازم، وربما احتفاءً بقصة شاب صغير لطالما أحب مشاهدة أفلام مخرجة بعينها أثرت على وعيه فصار يدين لها، فصاحبها في عدة مغامرات انتهت بباب صديقها الموصد، وخلع نظارته لها تهوينًا عليها.
“وجوه أماكن” قد لا يكون أفضل أفلام أنيّس فارادا ولكنه من أعذبها، وترشح للأوسكار هذا العام كأفضل فيلم تسجيلي، ورغم أنه لم يحصل على الجائزة فإن أنيّس نالت أوسكار شرفية عن مجمل أعمالها.