“السعودية لم تكن كذلك قبل 1979، السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع صحوة بعد عام 1979 لأسباب كثيرة، فنحن لم نكن بالشكل هذا في السابق”، لم تكن هذه الكلمات الصادرة عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال مشاركته في جلسة حوارية ضمن فعاليات منتدى “مبادرة مستقبل الاستثمار” الذي استضافته الرياض أكتوبر/تشرين الماضي، سوى تجسيد واضح للصورة التي يسعى الأمير الشاب لتصديرها عن المجتمع السعودي.
تلقف صناع الدراما السعودية هذه الرسائل غير المباشرة لترجمتها عمليًا إلى مشاهد وحلقات مصورة تعيد رسم صورة السعوديين قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران التي كان لها – بحسب الأمير الشاب – الدور المؤثر في تغيير هوية المجتمع الثقافية والسلوكية، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، إذ قوبلت هذه التحركات بوابل من الهجوم من مختلف الأطياف السعودية لما اعتبروه “تشويهًا متعمدًا” لمنظومة الأخلاق السعودية.
“العاصوف” مسلسل سعودي يقدم على شاشة (MBC) في شهر رمضان الحاليّ، تدور أحداثه حول الفترة الزمنية بين عامي 1390 – 1395هـ و1970 – 1975م، ويتطرق للحياة الاجتماعية بمناسباتها العامة والخاصة والواقع الثقافي والاقتصادي للمجتمع السعودي في السبعينيات، بالإضافة إلى الفكر السائد لدى العامة من الشعب في تلك الفترة وطريقة التعاملات التجارية والحياتية وكيفية معيشة الشباب آنذاك، من خلال أسرة “الطيّان” وهذا الاسم نسبة إلى العمل أو الحرفة (الصنعة) التي كانوا يقومون بها وهي بناء البيوت من الطين.
حالة من الانقسام داخل المجتمع السعودي جراء طبيعة المعالجة الدرامية لتلك الفترة التاريخية التي يراها البعض مغايرة تمامًا لما كان عليه السعوديون آنذاك، وهو ما أعاد للأذهان مرة أخرى الحديث عن توظيف ولي العهد للقوى الناعمة وعلى رأسها الفنون لتحسين صورة بلاده خارجيًا بما يفند الصورة الذهنية السابقة المتشددة، فهل ينجح؟
مثير للجدل
أثار العمل الفني حالة من الجدل مع بدء عرض الحلقة الأولى منه، التي أصابت البعض بالصدمة نظرًا لما تضمنته من مشاهد اعتبرها البعض إساءة بالغة للمجتمع السعودي برمته، وصلت بالبعض أن أعلن تبرئه من المسلسل كونه لا يمثل الشعب السعودي، ولا في أي حقبة زمنية مضت.
المسلسل – بحسب البعض – يروج لتفشي الانحطاط الأخلاقي في المجتمع، عبر التسويق لإقامة العلاقات العاطفية المحرمة والحمل سفاحًا دون محاسبة، بل إن في بعض المشاهد اعترفت “البندري” التي تجسد شخصيتها الفنانة البحرينية دانة آل سالم لزوجها “أبو سعدون” الذي يجسد شخصيته الفنان السعودي محمد الكنهل، بأنها حامل ولا تعرف مصدر هذا الحمل، سواء من زوجها أم “خالد” الذي يجسد دوره الفنان ناصر القصبي.
نجح ابن سلمان في تصدير نفسه في صورة الإصلاحي المدافع عن حقوق المرأة والشباب، الخالع لعباءة الراديكالية المفعم بالفكر الليبرالي المتجدد، وهو ما قد يروق لأصحاب القرار في العواصم الغربية
حساسية المعالجة الدرامية في العمل دفعت عددًا من الممثلين للاعتذار عن تقديم بعض الأدوار داخل المسلسل – على رأسها “أبو سعدون” الذي تخونه زوجته مع جارها – خوفًا من عواقب سوء التفهم لطبيعة الشخصية، وهو ما ألمح إليه الكنهل الذي أوضح أن اعتذار مجموعة من الفنانيين عن عدم أداء هذا الدور كان خوفًا من التحريف أو الفهم الخاطئ للمجتمع.
#العاصوف
من اللي ياخذ زوجته ويعرفها على راعي الاستريو
الله لايغير علينا ديننا الله لا يعاقبنا.
وين الغاريه على الزوجه هذا شرفي شرفي
الى هنا وبس لا يجي اكثر
العاصوف يتكلم عن ناس ثانيه في دوله غير السعوديه وعوائل موب من ثوبنا
بيطلعلي واحد وبيقول انت فاهم غلط pic.twitter.com/QP3Oz0jDlw— فواز بن فهد (@nawaf_2012) June 6, 2018
يسعى هذا العمل وبشكل واضح إلى تقديم صورة مغايرة تمامًا للمجتمع السعودي تختلف عن تلك التي يحياها في الوقت الراهن أو على الأقل قبل عدة أعوام، في محاولة لنسف الأخيرة التي ارتبطت في ذهن الكثيرين داخليًا وخارجيًا بالتشدد والتطرف وضيق الأفق، ومن ثم جمع العمل الدرامي مجموعة من الأحداث التي لم يعتد السعوديون على التعرض لها، مثل قصة الطفل اللقيط وأمه المتاجرة بشرفها والجارة التي تخون زوجها المسن، كل ذلك بحجة أنها تمثل الواقع في ذلك الزمن، إذ وصفت الإعلانات الترويجية المسلسل بأنه عمل تاريخي ملحمي.
غضب مصري بسبب حرق صورة عبد الناصر في أحد مشاهد المسلسل
الجدل الذي أثاره العمل لم يتوقف عند الشأن الداخلي فقط، بل تجاوز ذلك إلى العلاقات مع بعض الدول على رأسها مصر وسوريا، إذ تعرض لانتقادات لاذعة من المجلس الأعلى للإعلام المصري الذي قدم احتجاجًا رسميًا على أحد المشاهد الذي قيل إنه يسيء للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
القاهرة وجهت احتجاجًا رسميًا لوزير الإعلام السعودي طالبت فيه حذف تلك المشاهد، وهو ما استجابت له الرياض، إذ أمر الوزير بحذف المشهد وفقًا لبيان المجلس الأعلى للإعلام، وحملت بعض الأصوات على مواقع التواصل الاجتماعي عبارات ناقدة ومسيئة للمسلسل وصناعه بعد عرض هذا المشهد الذي اعتبروه جارحًا للدولة المصرية وأحد رموزها، في حين رآه آخرون مشهدًا عاديًا لا ينبغي الوقوف أمامه بكل تلك الحساسية المفرطة.
وفي المقابل لم تحرك الرياض ساكنًا حيال الانتقادات التي وجهت للعمل سوريًا، إذ يرى البعض أن إلقاء المسلسل اللوم على الوافدين على السعودية في نشر التشدد الديني داخلها عن طريق بعض الدعاة والشيوخ القادمين من دول مجاورة، جسّدها العمل من خلال شخصية الجارة السورية صاحبة الآراء المتشددة مقابل المجتمع السعودي المنفتح آنذاك، فيه إهانة للمجتمع السوري، ومع ذلك لم يتحرك أحد أسوة بما حدث مع مشهد حرق صورة عبد الناصر.
https://twitter.com/rowef88/status/1005531105636880384
الداعية السعودي عبد العزيز الفوزان وجه انتقادات حادة للعمل، وقال واصفًا المسلسل دون تسميته: “الأمر خطير جدًا يا رجل، يدعون والعياذ بالله إلى الزنا صراحة وزنا المحارم وخيانة الجار والزنا بامرأته (امرأة الجار)”، فيما رد عليه القصبي بأن مثل هذا الهجوم أمر ليس بجديد، مضيفًا: “تعودنا على هذا الكلام منذ 15 سنة، لكن هم مضوا ونحن باقون”.
يبدو أن فريق العمل استجاب في هذا المسلسل لرؤية الأمير الشاب، حتى إن تم الانتهاء منه قبل تلك التصريحات السابقة، لكن المزاج العام الذي صنعه ابن سلمان كان يوحي بذلك بشكل واضح، وهو ما أكد عليه بطل العمل في تصريحات له أوضح خلالها أن كلام ولي العهد دعم المسار الذي اتجه إليه المسلسل والمتعلق بتقديم صورة مختلفة للمجتمع السعودي المنفتح المرن غير المؤدلج دينيًا ولا سياسيًا، بعيدًا عن تلك التي صُدرت خلال العقود الماضية.
الليبرالية السعودية الجديدة
منذ قيادة ابن سلمان دفة الأمور في المملكة شهد المجتمع السعودي قرارات غير مسبوقة، نسفت وبشكل كبير الكثير من الصور الذهنية السابقة عن السعودية في الكثير من الملفات، على رأسها حقوق المرأة على وجه التحديد، وهو ما دعا البعض في الداخل والخارج إلى التعويل عليها في تدشين صفحة جديدة في منظومة الحكم في البلد الأكثر جدلًا في مجال الحقوق والحريات النسوية طيلة عقود طويلة مضت.
حزمة إنجازات حققتها المرأة مع ولاية ابن سلمان على رأسها السماح لها بعد طول انتظار باستخراج رخصة قيادة، وهو الحق الذي طالما عانت لأجله نساء المملكة، كذلك لم تعد المرأة السعودية مضطرة لتقديم موافقة ولي أمرها للحصول على الخدمات المقدمة لها، إذ بات من حقها إنهاء إجراءاتها كافة بنفسها، هذا بخلاف إقحامها – فجأة – عالم السياسة عبر مجلس الشورى والبلديات وغيرها من النوافذ التي كانت حكرًا على الرجال قبل ذلك، إضافة إلى تعيين النساء في بعض المناصب المحلية والقيادية والتنفيذية وهو حلم طالما راود السعوديات لسنوات طويلة.
https://twitter.com/saaraali_14/status/1005181264515796992
ثم جاء الإفراج عنها مجتمعيًا بالسماح لها بحضور مباريات كرة القدم والدخول إلى الملاعب الرياضية ومن بعدها السينما والمسارح ثم حضور الحفلات المختلطة، لتدشن السعوديات صفحة جديدة من حياتهن وفق قواعد مختلفة تسمح للمرأة بالتنفيس عن نفسها بعيدًا عن التهميش المتعمد سواء من المجتمع أم الدولة على حد سواء خلال الفترات الماضية.
كلام ولي العهد دعم المسار الذي اتجه إليه المسلسل والمتعلق بتقديم صورة مختلفة للمجتمع السعودي المنفتح المرن غير المؤدلج دينيًا ولا سياسيًا، بعيدًا عن تلك التي صُدرت خلال العقود الماضية
كذلك تقليم أظافر التيار الديني إما باعتقالات رموزه أو تقليل نفوذه لحساب هيئة الترفيه، وبذا نجح ابن سلمان في تصدير نفسه في صورة الإصلاحي المدافع عن حقوق المرأة والشباب الخالع لعباءة الراديكالية المفعم بالفكر الليبرالي المتجدد، وهو ما قد يروق لأصحاب القرار في العواصم الغربية.
“العاصوف” وغيره من مصادر القوى الناعمة، كذا الإجراءات الإصلاحية التي قام بها ولي العهد يراها البعض لا تعدوا كونها حسابات سياسية تأتي في سياق إرضاء الولايات المتحدة ولأجل الاستمرار في المشهد، في محاولة لتقديم أوراق اعتماده كملك قادم لبلاده خلفًا لوالده، حتى لو كان الثمن نسف مرتكزات المملكة الأساسية التي بها استطاعت ولمدة عقود طويلة أن تجد لها موطئ قدم في المنطقة.