هناك من اعتقد أن نظام التعليم الذي يتبعه أولادك في أيامنا الحاليّة ما هو إلا روتين يخلق منهم نسخًا ذات ذكاء محدود غير قادرة على اتخاذ قرار بنفسها، وغير قادرة على تطبيق ما تعلمه إياها الكتب على أرض الواقع، ووجد الأنظمة التقليدية في التعليم سلسلة متواصلة من المناهج الأكاديمية التقليدية التي يدرس فيها الابن ما درسه الأب والجد منذ عقود ماضية.
آمن كثير ممن بنوا أنظمة تعليمية بديلة بأن الأطفال ليسوا عبارة عن حاويات فارغة يملأها نظام التعليم والمعلمون بكل ما يحلو لهم، بل آمنوا بأن لكل طفل قدرات خاصة وخيارات خاصة به وحده تختلف عن بقية الأطفال، وليس عدلًا أن يُعامل كل طفل على حد سواء بشكل منتظم ومتسلسل كما يفعل نظام التعليم التقليدي الذي ينتج أعدادًا ضخمة من الطلاب الذين لا يكون لديهم أدنى فكرة عما سيفعلونه في المستقبل من حيث الوظيفة والمضمار المهني.
صار من الشائع في أيامنا الحاليّة أن يدرس المرء ما لا يعمل فيه بعد ذلك، أو يعمل في شيء ليس له أي علاقة بما قضى نصف عقد أو أكثر من عمره في دراسته، يُرجع العديد من خبراء التعليم سبب ذلك إلى اعتقادهم بأن نظام التعليم الأكاديمي الحاليّ قريب من الفشل أكثر من قربه للنجاح، وكان الحل في رأيهم بعض من أساليب التعليم البديلة أو غير التقليدية التي قدمها كثير من الخبراء والعلماء في العقود الماضية ولا تزال موجودة في كثير من المدارس حول العالم الآن، كان من بينها نظام مونتيسوري ومدارس “شتاينر” التي عرضناها في الجزء الأول من هذا المقال، نعرض لكم هنا 3 أساليب أخرى من أشهر أساليب التعليم البديلة الموجودة حتى الآن.
1- طاولة “هاركنز”
على اليمين طاولة “هاركنز” على اليسار طريقة التعليم التقليدية
لا يعتمد نظام “هاركنز” في التعليم على منهج أكاديمي معين أو أيدولوجية معينة، بل يعتمد على شيء واحد ربما قد يُثير اهتمامك، وهو قطعة من الأثاث، طاولة خشبية بيضاوية الشكل يجلس حولها الأطفال ومعهم المعلم، إذ لا يوجد ما يُعرف باللوح والطبشور وطاولة خاصة بالمعلم في نظام “هاركنز”، بل يكون المعلم دومًا في مستوى التلاميذ ولا يتخذ موضعًا مهيمنًا عليهم في قاعة الدراسة، حيث تكون طاولة الدراسة البيضاوية هي المحور الأساسي في نظام “هاركنز” في التدريس.
لا يمنح المعلم للطلاب أجوبة جاهزة من خلال شرح طويل ومعقد يعتمد على طريقة التلقين كما في نظام التعليم التقليدي، بل يعتمد على نقاش المعلم مع الأطفال من حوله في كل المواضيع من التفاضل والتكامل وحتى نظريات الفيزياء وأفكار فلاسفة علم النفس، لا يعطيهم المعلم حلولًا جاهزة أو أجوبة وإنما يحفزهم على المناقشة وطرح الأفكار ويدير الجلسة من خلال دعم بعض الأفكار ورفض بعضها ومحاولة إدارة المناقشة بشكل متوازن فيما بينهم لكي لا يهيمن أحدهم على الآخر ويسمح للكل بعرض فكرته بشكل يزيد من ثقة الطفل بنفسه ويزرع فيه مبادئ المناقشة والاستماع للآخر منذ سن مبكرة.
يحاول المعلم إعادة تشكيل الآراء الفردية لكل طفل وتنقيحها أو رفضها وإعادة صياغتها بشكل يعطي للطفل المعلومة العلمية الصحيحة من خلال إدماجه بشكل كلي في محاولة الوصول إليها بدلًا من تلقينه إياها من خلال شرح دروس لساعات مطولة فيما يوصف بـ”التعليم الجماعي”، بحيث يجب على المعلم فيه ألا يُكرر أي مناقشة، أي لا تتشابه المناقشات التي تدور في قاعات الدراسة، وهو ما يساعد المعلمين على شرح المعلومات ذاتها كل سنة بشكل ممل وتقليدي.
يعتمد أسلوب “هاركنز” في التدريس على دمج كل طفل في المناقشات بحيث لا يتم غمر الخجول أو المنطوي وسط بقية التلاميذ
آمن “هاركنز” بأن طريقته في التدريس تكون أكثر فعالية حينما يتقلص حجم قاعات الدراسة العادية، ويعني أنها تكون أكثر فعالية حينما يجلس حول الطاولة البيضاوية ما لا يزيد على 15 طالبًا، ولهذا تبرع “هاركنز” بملايين الدولارات “مبلغ يعادل حاليًّا 60 مليون دولار” للمدراس في عدة ولايات في الولايات المتحدة من أجل أن تدعم المدارس طريقته في التدريس وتُقلص حجم غرف الدراسة وتُكثر من عددها بحيث يقل عدد الطلاب في كل واحدة منها وبالتالي يسهل على المعلم إدارة المناقشة بين 15 طالبًا فحسب.
وجد الخبراء أن طريقة “هاركنز” في التدريس من أكثر الطرق الفعالة للوصول إلى ما وصفوه بـ”التلميذ الفرد” ويعني الوصول لكل طفل وإظهار قدراته ومهاراته وطريقة تفكيره على حدة دون غمر أي طفل وسط المجموعة حتى لو كان خجولًا أو منطويًا، كما سجل الخبراء أن طريقة “هاركنز” في التدريس ساعدت على انخفاض نسبة الفشل بين الطلاب بمعدل 6% مقارنة بمعدلات الفشل في نظام التعليم التقليدي.
“هاركنز” غير مناسب كليًا!
كما لأسلوب “هاركنز” الكثير من المزايا، لديه أيضًا الكثير من العيوب، حيث وجد الخبراء أنه غير مناسب بشكل كلي في المواضيع العلمية مثل الرياضيات، حيث من الصعب مناقشة الأطفال في سن مبكرة في المعادلات الرياضية والحسابات المعقدة، كما وجدوا أن الأطفال الذين يتبعون نظام “هاركنز” يسجلون انخفاضًا في معدلات اختبارات الرياضيات على سبيل المثال حينما يؤدون امتحانات قبول الجامعات بعد مرحلة الثانوية، ربما لا يكون هاركنز مناسبًا في الرياضيات بالنسبة لبعض الأطفال إلا أن الخبراء سجلوا أيضًا حالات لم تنجح في الرياضيات إلا بعد تعليمهم إياها من خلال طريقة هاركنز.
ربما لا تكون طريقة “هاركنز” مناسبة في المدارس الحكومية مكتظة الأعداد في البلاد التي تتمتع بكثافة سكانية عالية
كما يوجد انتقاد لطريقة تدريس “هاركنز” بخصوص إجباره كل الطلاب على المشاركة في النقاشات، قد يبدو هذا فعالًا جدًا في محاولة عدم هيمنة طفل على آخر في العملية الدراسية وإعطاء الفرصة للمشاركة لكل طالب، ولكن هناك أطفال لا يستطيعون الدراسة بهذا الشكل، ويفضلون أن يظلوا صامتين ويتلقون المعلومة مباشرة من شخص آخر بسبب شعورهم بالخجل أو ارتياحهم أكثر لكونهم منطوين، وبهذا يكون نظام “هاركنز” غير مريح على الإطلاق بالنسبة لهم.
2- المدارس الحرة
نموذج تصويت الأطفال في الاجتماعات الأسبوعية لمدارس “سودبيري”
نموذج “سودبيري” في التدريس هو نموذج يوصف بأنه أكثر نماذج التدريس ديمقراطية، حيث تعمل تلك المدارس من خلال مبدأين لا يوجدان عادة في المدارس التقليدية، وهما الديمقراطية والفردية، وذلك من خلال احترام كل طفل كونه “فردًا” في النظام المدرسي الذي يحاول أن يكون ضمن إطار ديمقراطي في طريقة تدريس “سودبيري”.
تعتمد مدارس “سودبيري” على جعل الأطفال يصوتون في الاجتماع الأسبوعي على كل ما يتعلمون، بحيث يكون لديهم سيطرة كاملة على كل ما يقومون به داخل المدرسة، حيث يصوت الطلاب على كل شيء في الاجتماع الأسبوعي من خلال كيفية إنفاق الميزانية والموضوعات التي يودون دراستها والقواعد المدرسية، كما يصوتون أيضًا على كيفية إعادة توظيف المعلمين وفقًا لاحتياجاتهم وطلباتهم التي يعلنون عنها بشكل حر في الاجتماعات الأسبوعية.
يعتمد أسلوب “سودبيري” في التدريس، الذي ظهر في الستينيات من القرن الماضي، على تحمل الطلاب مسؤولية كل شيء يحدث في العملية التعليمية التي يكونون جزءًا منها، وذلك لتساعدهم على تنمية مهارات اتخاذ القرار بشكل سليم وتحمل مسؤولية العواقب التي تتبع اتخاذ مثل تلك القرارت، ليكونوا ملتزمين بشكل كامل بالعملية التعليمية التي اختاروها وصوتوا لها في المقام الأول.
يختار الأطفال في طريقة تدريس “سودبيري” طريقة تدريسهم وتقييمهم ومناهجهم ومع من يتفاعلون في البيئة التي يحددونها بأنفسهم
قد يتعجب البعض من سبب منح كل هذه المسؤولية لأطفال ربما لا يكونوا قادرين على تحملها وتحديد مناهج تعليمية يريدون تعلمها دون أن يعرفوا عنها شيئًا، إلا أن نظام “سودبيري” يرى أن في الأطفال قدرة على تحمل المسؤولية وأن ذلك يمنحهم الخبرة الحقيقية في اتخاذ القرارات بشكل يجعلهم ينضجون بشكل أسرع مقارنة بالأطفال الموجودين في نظام التعليم التقليدي.
لا يوجد نظام الاختبارات في طريقة تدريس “سودبيري” لتقييم مدى معرفة الأطفال بموضوع معين، فلا يوجد نظام العلامات والتقييمات مثل جيد وجيد جدًا وممتاز كما الحال في نظام التعليم التقليدي، حيث لا تؤمن هذه الطريقة في التدريس بأن الاختبارت وسيلة جيدة لتقييم مدى معرفة الطالب بالمواضيع الأكاديمية ويجدون أن الطالب أفضل من يقيم نفسه بنفسه.
عيوب “المدارس الحرة”
من أكثر الانتقادات التي توجه لطريقة “سودبيري” في التدريس عدم وجود حد يفصل الطلاب من مختلف الأعمار عن بعضهم البعض، حيث تسمح تلك المدارس بالاختلاط بين كل الأعمار في قاعات دراسة واحدة، حيث يعتبرون ذلك سر نجاح طريقة تدريس “سودبيري” عن غيرها من خلال مزايا اختلاط الطلاب من أعمار مختلفة على الصعيد النفسي والعاطفي والتعليمي تخلق بيئة آمنة من وجهة نظر مدارس “سودبيري”.
من أكثر الانتقادات الموجهة لطريقة تدريس “سودبيري” أيضًا هي تدريس الأطفال لبعضهم البعض، حيث لا يجد الآباء أن الأطفال من أعمار مختلفة قادرون ومؤهلون بشكل كاف لتدريس غيرهم من الأطفال، إلا أن مدارس “سودبيري” وجدت ذلك ناجحًا إذ أن الطفل قد يتعلم شيئًا ما من طفل مثله أو أكبر منه في العمر أفضل مما يتعلمها من شخص يكبره بـ20 عامًا على الأقل.
لا تكون هذه الأساليب هي أساليب التعليم البديلة الوحيدة، حيث كثر عدد المؤمنين بفشل التعليم التقليدي منذ عقود ماضية وحتى يومنا هذا، وطرق التعليم البديل في تطور مستمر منذ القرن الماضي، وتطرح حلولًا بديلة للتعليم التقليدي وتثبت نجاحًا متقدمًا يومًا عن يوم، لا نقول إنها الأساليب الأفضل إذ أن لها عيوبًا جسيمة كما هو الحال في التعليم التقليدي، إلا أنها وسيلة مهمة لخلق أجيال مبدعة قادرة على مواكبة تطورات الحياة الحالية.