“قل والله لن نقوم بأي ضرر بالمياه في مصر”، بهذه الكلمات داعب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد الذي يزور القاهرة حاليًّا، مطالبًا إياه بالقسم، متعهدًا بالحفاظ على حصة المصريين من المياه، وذلك على هامش اللقاء الذي جميع بينهما في قصر الاتحادية أمس الأحد.
دبلوماسية جديدة يقرها السيسي لإخراج ملف سد النهضة من ثلاجة المفاوضات بعد أن أعلن تجميده بصورة رسمية أبريل الماضي، تعتمد على العلاقات الشخصية والحلف والوعود الشفهية البعيدة عن التوثيق والمعاهدات والاتفاقيات الرسمية، وهو ما أثار الكثير من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي.
في يناير/تشرين الثاني الماضي، وفي موقف متشابه، أكد هيالي ديسالين، رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق، وخلال مؤتمر صحفي له مع السيسي قائلاً: “الشعب الإثيوبي لن يعرض حياة أشقائنا للخطر، فنهر النيل سيتدفق بيننا ولن نضر بلدكم بأي حال وسنعمل معًا على كفالة الحياة الكريمة لأبناء نهر النيل ونلتزم بالاتفاقات التي أجريناها”، غير أنه بعدها بثلاثة أشهر فقط خرجت مصر والسودان لتعلنا توقف عملية المفاوضات بشأن السد بصورة شبه رسمية عقب الوصول إلى طريق مسدود.
صفحة جديدة تسعى كل من القاهرة وأديس أبابا فتحها من خلال زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد المفاجئة لمصر، مساء أول أمس، تقوم على تفعيل سبل التعاون المشترك في مختلف المجالات، ليبقى ملف السد الأكثر حضورًا على جدول أعمال تلك الزيارة التي يعول عليها الجانب المصري في إحياء المسار التفاوضي مجددًا، فهل تعيد الدبلوماسية الجديدة الحياة مرة أخرى في عملية المفاوضات؟
زيارة مفاجئة
اتسمت الزيارة التي استمرت يومين، التقى خلالها أبي أحمد، السيسي، مرتين لأكثر من 6 ساعات، وانتهت بمؤتمر صحافي مشترك في قصر الاتحادية، جدد خلاله الطرفان تأكيد التعاون وعدم الإضرار بمصالح مصر المائية، بشيء من الغرابة أثارت استفسارات البعض.
البداية كانت في طابعها المفاجئ، في ظل حالة الاحتقان والتوتر بين البلدين على خلفية إعلان فشل مفاوضات السد، فالزيارة – ووفق ما ردده البعض – لم تكن مدرجة على أجندة لقاءات الرئيس المصري، ولم يجر ترتيب تفاصيلها عن طريق سفارة أديس أبابا في القاهرة كما هو معتاد في بقية اللقاءات من هذا النوع.
استبق السيسي الشكل الرسمي للزيارة الذي يتمثل في لقاء مباشر يعقده مع الضيف، بجلسة سحور في قصر الاتحادية بعد وصوله بساعات قليلة، أعقبها جلسة محادثات مغلقة استمرت حتى الساعات الأولى من الصباح، قبل أن تستأنف في اليوم الثاني للزيارة بجلسة أخرى تناولت بشكل تفصيلي مشكلة سد النهضة.
الزيارة تأتي في الأساس لصالح الجانب الإثيوبي الذي يريد تهدئة الملفات الساخنة التي تحيط به، فرئيس الوزراء الإثيوبي ليس لديه حرية حركة مطلقة فيما يتعلق بسد النهضة
صفحة جديدة
حمل رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آراء “إيجابية” بشأن أزمة السد، ورسائل طمأنة للمصريين، وفق ما كشفته تصريحاته التي أدلى بها خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب الاجتماع الموسع الذي انتهى بمأدبة إفطار تكريمًا للضيف.
السيسي وعد بدوره بزيارة أديس أبابا خلال الفترة القادمة، ربما تكون قبل اجتماعات القمة الإفريقية الدورية بداية العام القادم، في محاولة لدفع العلاقات بين البلدين إلى آفاق جديدة من التعاون، فيما أكد أبي أحمد ضرورة فتح صفحة جديدة خلال توليه رئاسة الحكومة الإثيوبية، تقوم على التعاون بين مصر وإثيوبيا، وعدم تعريض أي دولة للضرر.
وحياة الأخوة 😂#اثيوبيا pic.twitter.com/lhI3gMXc3y
— Aml (@AmlAhmadd) June 11, 2018
بعض المصادر أشارت إلى أن القيادة الإثيوبية الجديدة لديها رغبة في توطيد العلاقات مع مصر أكثر من أي قيادة سابقة، مشيرة أن التغييرات التي أجراها أبي أحمد خلال الفترة الماضية في قيادات قطاعات مختلفة في إثيوبيا، كرئيس القيادة العسكرية وجهاز المخابرات، فتحت الباب أمام فرصة النقاش مع مسؤولين جدد، في ظل اللهجة المختلفة التي لمستها القاهرة منذ تولي رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد مهماته.
إيجابية التصريحات التي أدلى بها رئيس وزراء أديس أبابا تأتي في إطار السياسة الجديدة التي يتبناها في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها بلاده، وتعتمد على تهدئة الملفات الساخنة التي تحيط ببلاده
السيسي وخلال المؤتمر الصحفي قال إنّ البلدين قطعا شوطًا مهمًا على صعيد بناء الثقة وتعزيز التعاون الثنائي، وسيواصلان جهودهما المخلصة والصادقة من أجل تجاوز أي تحديات مشتركة، وفي مقدمتها التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن سد النهضة يؤمّن استخدامات مصر المائية في نهر النيل الذي لا جدال في أنه شريان الحياة الوحيد للشعب المصري، وفي الوقت ذاته يسهم في تحقيق التنمية والرفاهية للشعب الإثيوبي.
هذا بخلاف بحث فرص زيادة الاستثمارات المصرية في السوق الإثيوبية، كما جرى الاتفاق على أهمية تقديم كل التسهيلات الممكنة من الجانبين بغرض دعم تلك الاستثمارات، بما في ذلك التعاون لإقامة منطقة صناعية مصرية في إثيوبيا، وتشجيع المزيد من الاتفاقات بين القطاع الخاص المصري والإثيوبي لاستيراد اللحوم الإثيوبية، فضلاً عن التعاون في مجالات الاستثمار الزراعي والثروة الحيوانية والمزارع السمكية والصحة، بما يفضي إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين مصر وإثيوبيا، وتقديم نموذج ناجح للتكامل المطلوب إفريقيًا.
طموحات عالية للقاهرة على القيادة الإثيوبية الجديدة في إحياء مفاوضات السد
تحريك المياه الراكدة
أثارت قمة الأمس بين السيسي وأحمد، حالة من الانقسام داخل الشارع المصري، بين من يراها حجرًا يحرك المياه الراكدة في ملف السد المتوقفة منذ شهور طويلة، وآخرون يعتبرونها غير ذلك خاصة أنها ليست المرة الأولى التي يتعهد فيها مسؤول إثيوبي بحلحلة الأزمة.
يحيي كدوانى وكيل لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب المصري (البرلمان)، قال إن تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي بشأن السد، وقسمه بعدم إلحاق أي ضرر بحصة مصر من النيل، تدعو إلى التفاؤل، مشيرًا إلى أن الدبلوماسية المصرية تقوم بدورها في إدارة الملف على أكمل وجه، حسب تعبيره.
https://twitter.com/LobnaAfathi/status/1005958369478311937
فيما وصف النائب أحمد إسماعيل عضو لجنة الدفاع والأمن القومي بالمجلس التصريحات الإثيوبية بـ”الإيجابية”، مشيرًا إلى أنها بداية جيدة للتفاهم بين البلدين في ملف سد النهضة، موضحًا أن “القيادة السياسية المصرية عملت على مدار السنوات الماضية على تقريب وجهات النظر وشرح الموقف المصرى تجاه السد.
فيما ذهب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير جمال بيومي، إلى أن حديث رئيس الوزراء الإثيوبي عن الحفاظ على حصة مصر التاريخية بمياه النيل وحديثه عن زيادة حصص مصر المائية، يعطي مؤشرات أولية عن وجود حلول فنية في الاجتماع التساعي القادم الذي تستضيفه القاهرة، موضحًا أن الاتفاق على وجود منطقة حرة بين البلدين ووجود مشروعات تنموية، يشير إلى حرص الدولتين على علاقاتهما المشتركة.
حمل رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آراء “إيجابية” بشأن أزمة السد ورسائل طمأنة للمصريين
تقييم سابق لأوانه
في المقابل يرى فريق آخر أن قمة الأمس لم تحقق تقدمًا ملموسًا في الأزمة الأخطر بين البلدين وهي سد النهضة، رغم القسم الذي تلاه الطرفان لعدم الإضرار بمصالح الطرف الآخر، وطبقًا لأنصار هذا الرأي فإن آبي أحمد لم يقدم ما يفيد بمشاركة مصر بأعمال التشغيل والإدارة لسد النهضة أو حتى طريقة التخزين، وهي الفرصة الأخيرة للقاهرة للحفاظ على حصتها من مياه النيل.
الزيارة تأتي في الأساس – بحسب رؤية هذا الفريق – لصالح الجانب الإثيوبي الذي يريد تهدئة الملفات الساخنة التي تحيط به، إذ إن رئيس الوزراء الإثيوبي ليس لديه حرية حركة مطلقة فيما يتعلق بسد النهضة، باعتبار أن هذا المشروع هو الحلم الذي ينتظره الشعب الإثيوبي، وبالتالي لن يقبلوا أي تفريط في الإنجازات المنتظرة من مشروع السد.
البعض ذهب إلى أن إيجابية التصريحات التي أدلى بها رئيس وزراء أديس أبابا تأتي في إطار السياسة الجديدة التي يتبناها في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها بلاده، وتعتمد على تهدئة الملفات الساخنة التي تحيط ببلاده، بدءًا بتبني مبادرة تهدئة الحدود مع إريتريا، وفتح خط تواصل مع الصومال، واستمرار دعم العلاقات مع السودان، وهو ما يفسر دوافع الإطاحة برئيس المخابرات ورئيس الأركان، ومن ثم جاءت زيارته للقاهرة في هذا الإطار لتهدئة الأجواء.
علاوة على ذلك فإن المنظمات وهيئات التحكيم الدولية لا تعترف بالتعهدات الشفهية، ولا الحلف والقسم، فهذه أمور لا يعتد بها في علاقات الدول والشعوب، ومن ثم فليس لها أي اعتبار قانوني، ولا تعدو كونها أسلوب يتم استخدامه لتهدئة الأجواء الملتهبة بين البلدين.
https://twitter.com/rody_rody192/status/1005939271986008064
رئيس وحدة دراسات حوض النيل بمركز الأهرام للدراسات سابقًا والخبير المائي هاني رسلان، اعتبر تقييم الزيارة مبكرًا للغاية، والعزف على أوتار التفاؤل مغامرة غير محسومة، لافتًا إلى أن آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد، جزء من ائتلاف حاكم وليس من مصلحته تغيير التوجهات العامة للدولة في هذا التوقيت المبكر، خاصة في ملف سد النهضة، إذ يتم استخدام هذا الملف كقضية تعبئة للشعوب الإثيوبية وقومياتها، ويُروج للسد على أنه مشروع قومي يلتف حوله الإثيوبيون.
وأضاف في تصريحات له أنه حتى الآن لم يظهر أي اختلاف بين رؤية أبي أحمد لملف سد النهضة ورؤية سابقه ديسالين، خاصة أن المفاوضات دخلت في مفترق طرق مع إعلان إثيوبيا بدء ملء السد في هذا الموسم وتضع العراقيل التي تحول دون إتمام الدراسات التي يقوم بها المكتب الاستشاري، في الوقت الذي تصر فيه القاهرة على استكمال الدراسات، لافتًا إلى أن إثيوبيا تريد أن تضع سيناريوهات منفردة دون وجود اتفاق لكي تنفرد بالسيطرة والتحكم في المياه، بينما تريد مصر اتفاقًا بشأن سنوات الملء وسياسات التشغيل ويكون اتفاقًا ملزمًا للأطراف كافة.
رئيس وحدة دراسات حوض النيل بمركز الأهرام للدراسات، سابقًا، كشف أن مصر ستتأثر بلا شك خلال فترة ملئ الفيضان في مرحلة بعد الملء، وفي أوقات الفيضان المنخفض لأن إثيوبيا في تلك المرحلة سيكون لديها خياران، إما احتجاز المياه بغرض توليد الطاقة أو تطلق المياه لاستخداماتها المعتادة في الدولتين أسفل المجرى وبخاصة مصر لأغراض الزراعة أو غيرها، مشيرًا أنه في هذه الحالة سيكون هذا قرارًا إثيوبيًا منفردًا، الأمر الذي يمكن توظيفه سياسيًا وإستراتيجيًا في المستقبل ضد مصر وقرارها على وجه الخصوص.
اتسمت الزيارة التي استمرت يومين، التقى خلالها أبي أحمد، السيسي، مرتين لأكثر من 6 ساعات، بشيء من الغرابة أثارت استفسارات البعض
يذكر أنه وعلى مدار السنوات الماضية بدءًا من 2011 وحتى الآن، دخلت القاهرة ما يقرب من 18 جولة مفاوضات مع أديس أبابا بشأن السد، لم تسفر جميعها عن أي تقدم ملحوظ في مسار الملف الأكثر تعقيدًا في الوقت الراهن، لما يترتب عليه من كوارث تهدد بالقضاء على ما يزيد على 50% من مساحة الأراضي الزراعية فضلاً عن إدخال مصر مرحلة العطش الحقيقي بحسب خبراء.
القاهرة وبعد 7 سنوات من المفاوضات فرضت خلالها التعتيم على نتائجها، مكتفية بتصريحات إعلامية وردية في معظمها، تهدف إلى إبعاد الرأي العام عن تفاصيل ما يدار داخل الكواليس، أعلنت أبريل الماضي فشل المسار التفاوضي بصورة رسمية، وهو ما أثار قلق الملايين من المصريين بخصوص مستقبلهم المائي.
وما بين طموحات تداعب مخيلة المصريين بشأن قدرة رئيس الوزراء الجديد على تحريك المياه الراكدة في هذا الملف، وملامح دبلوماسية جديدة ينتهجها السيسي بعد فشل الجهود السابقة، يقبع المصريون في انتظار نتائج ما يمكن أن تسفر عنه المرحلة القادمة من المفاوضات التي من المرجح أن تستأنف خلال الشهر الحاليّ.