قبل العديد من الألفيات الماضية كانت نظرة الإنسان البدائي مختلفة قليلًا بالنسبة للطعام، حيث كان الطعام بالنسبة للجماعات المرتحلة الغرض الأساسي للارتحال، ليكون في نظرهم شيئًا صعب الحصول عليه ونادرًا من حيث الكمية، وبناءً عليه كانت ردة فعلهم تجاهه منطقية بعض الشيء، فبمجرد اكتشافهم لمكان يوجد فيه الطعام يقبعون فيه مدة كافية لكي ينتهوا منه، ليأكلوه كله مهما كانت كميته، ومن ثم يبدأون رحلة جديدة بحثًا عن مزيد من الطعام.
عاش الإنسان من أجل جمع المؤن لمدة طويلة من الزمن (ما يقارب عشرات الآلاف من السنين)، لتكون عادة الترحال من أجل الطعام والقضاء عليه فور الحصول عليه مهما كانت كميته راسخة حتى في الحمض النووي للبشر DNA حتى بعد أن قرر البشر التوقف عن الترحال من أجل الطعام ومراقبة مواسم هجرة الحيوانات وحصاد النباتات ليبدأوا في الاستقرار وترويض الحيوانات وزراعة النباتات بأنفسهم وذلك مع بداية الثورة الزراعية قبل عشر آلاف سنة من الآن.
تحول الإنسان البدائي من مجرد صياد مرتحل إلى مزارع بعد الثورة الزراعية التي مكنته من الاستقرار والزراعة وترويض الحيوانات لمصلحته، وعلى الرغم من أنه لا يوجد الآن جماعات مرتحلة تبحث عن الطعام وسط الغابات، ولا يبدو أن الطعام شيء نادر وصعب الحصول عليه بالنسبة لكثير من الناس الآن، إلا أنه يبدو أن الحمض النووي DNA الخاص بالإنسان لم يفهم ذلك كليًا، وما زال يعمل بنفس الطريقة التي عمل بها بالنسبة للإنسان البدائي.
لماذا ضاعف البشر استهلاكهم من الطعام؟
على الرغم من أن أسلوب الحياة بالنسبة للبشر تغير كليًا على مر السنين، فإن الحمض النووي الخاص بهم يعاني للمواكبة مع هذا التغير المتطور، فكما كان يعتبر الإنسان الأول أن الطعام نادرًا وذلك لأنه كان بالفعل نادرًا وصعب الحصول عليه، لا يزال الحمض النووي الخاص بالإنسان المعاصر يحمل الصفات نفسها، ويعتبر أن الطعام شيئًا نادرًا، ويجب تناول كميات كبيرة منه بمجرد الحصول عليه، وكأن الإنسان لن يراه مجددًا كما كان هو الحال في أثناء ترحال الإنسان البدائي.
مع انتشار الاستهلاكية في الأيام الحاليّة، وتسويق المأكولات بمختلف ألوانها وأشكالها على أنها نوعًا من أنواع المتعة وليست حاجة من حاجات الإنسان الأساسية، ضاعف الإنسان كميات الطعام التي يحتاجها يوميًا، وصار يأكل ضعف السعرات الحرارية المخصصة له يوميًا على الرغم من تغير أسلوب حياته والحصول على الطعام بشكل سريع وفوري مقارنة بالإنسان البدائي الذي كان يتعين عليه القتل من أجل الحصول على الطعام.
عرّف العلماء الحالة السابقة في الإنسان المعاصر بنظرية “جين الالتهام”، وهو الجين الذي انتقل عبر الحمض النووي DNA الخاص بالإنسان البدائي وصولًا إلى الإنسان المعاصر الذي يجعل من تصرف الإنسان المعاصر مشابهًا لتصرف الإنسان البدائي نحو الطعام، كلما زادت كميات الطعام عما سبق ضاعف الإنسان من استهلاكه منها على الرغم من أنه متيقن من أن الطعام لن ينفد في اليوم التالي وربما في العام المقبل أيضًا على عكس الإنسان البدائي الذي كان متأكدًا من أنه إن لم يستهلك كل الطعام الذي يجده في الحال فلن يجده مجددًا في اليوم التالي.
إن تخيلنا حياة الإنسان على الأرض وكأنها مجرد يوم واحد، كان الطعام متوفرًا وسهل الحصول عليه في الدقائق القليلة الأخيرة من ذلك اليوم
عاش أسلافنا حياة نشطة للغاية، وبالتالي كان عليهم تخزين كميات كبيرة من الطعام قادرة على منحهم الطاقة اللازمة لمواكبة أسلوب الحياة النشط المتمثل في الترحال بشكل مستمر وتحمل الظروف القاسية من التنقل والمناخ وحمل أطفالهم معهم في أثناء التنقل ومحاربة الحيوانات التي قد تعرقل طريقهم في أثناء البحث عن الطعام بالإضافة إلى أنشطة الصيد وجمع الثمار.
ولكن هذا كله لم يتغير بالنسبة لاستهلاك الطعام للإنسان المعاصر الذي يعيش نسبة ضئيلة للغاية من تلك الحياة النشطة التي عاشها أسلافه، وذلك لأن “جين الالتهام” الذي ورثه عنهم طبقًا للنظرية لم يثير اهتمامه أن حياة الإنسان المعاصر لم تعد نشيطة كما كانت في الماضي لتكون كميات الطعام التي يلتهمها الإنسان أكثر مما يحتاج جسمه.
يخبرنا “جين الالتهام” الذي يحتوي عليه حمضنا النووي أنه يجب علينا الاحتفال بالطعام بمجرد وجوده، هذا يعني أن نعامل كل وجبة نأكلها وكأنها عيدًا كما كان يفعل أسلافنا في الماضي، بهذا يفسر العلماء سر ميل الإنسان المعاصر في الأيام الحاليّة للإفراط في الطعام، ويفسر صعوبة الالتزام بنظام غذائي معتدل تكون فيه كميات الطعام معتدلة ومتزنة على الرغم من يقيننا التام بأن الطعام سيظل موجودًا بشكل مستمر، فإننا نعامله وكأنها المرة الأخيرة التي سنراه فيها.
يدعم المدافعون عن نظرية “جين الالتهام” نظريتهم بأن الجسد البشري مهيأ لتخزين الدهون منذ بداية حياته على الأرض التي كانت وسيلة للبقاء على قيد الحياة قبل الثورة الزراعية
لماذا لا تفسر نظرية “جين الالتهام” كل شيء؟
المجتمعات بعد الثورة الزراعية
لا تفسر نظرية “جين الالتهام” مشكلة البدانة أو الإفراط في تناول الطعام التي يعيشها كثير من الناس في مختلف دول العالم، حيث يؤمن كثير من خبراء التغذية أنه لا يمكن تفسير عادات تناول الطعام بالنسبة للإنسان من خلال جعلها تحت رحمة الجينات الموروثة من أسلافنا، بل زاد بعض الباحثين على ذلك بأن نظرية “جين الالتهام” لا تبدو صحيحة كليًا،
تُعرف نظرية “جين الالتهام” بفرضية الجينات المُقتصدة، وذلك يعني تكيف الإنسان البدائي على اقتصاد الطعام وتخزينه من أجل أن يبقى على قيد الحياة في حالة المجاعة أو نقص الطعام وعدم الحصول عليه، وبنت تلك الفرضية كثيرًا من النماذج في مختلف الموضوعات مثل علم الأحياء وعلم الاقتصاد، إلا أن كثير من علماء الأنثروبولوجيا التطورية رفضوا فكرة أن الإنسان المعاصر يُعاني من مشكلة البدانة لأنه لا يواجه المجاعات أو النقص الحاد في الطعام كما كان يواجها الإنسان البدائي.
قامت دراسة حديثة في علم الأنثروبولوجيا التطورية بدراسة قياسية بين الثقافات، من خلال دراسة قاعدة بيانات ضخمة تحتوي على بيانات 186 مجتمعًا حول العالم، بما فيهم المجتمعات التي اعتمدت على الصيد والترحال كطريقة للحياة، أي المجتمعات ما قبل الثورة الصناعية، وتضمنت قاعدة البيانات معطيات مختلفة من بينها معلومات عن المجاعات والمناخ وهطول الأمطار والأمراض وإنتاجية النباتات.
خلاف بين علماء الأنثروبولوجيا على إن كانت البدانة تطورًا طبيعيًا للإنسان البدائي أم مشكلة عصرية
قارنت الدراسة بين مجتمعات الصيد والمجتمعات التي اعتمدت على الزراعة وترويض الحيوانات بعد الثورة الزراعية، من خلال مقارنة مجتمعات لها نفس العادات لكي تفسر ما إن كان تعرض مجتمعات الصيد للمجاعات هو ما مكنهم من قابلية تخزين الطعام دون زيادة في الوزن والعكس في حالة المجتمعات الزراعية التي تخزن الطعام طبقًا للجينات الموروثة من أسلافها مع زيادة في الوزن أدت لمشكلة البدانة في العصر الحاليّ.
كانت النتيجة أن الدراسة وجدت عدم تعرض الإنسان البدائي للمجاعات بشكل أكثر من مجتمعات الزراعة، وذلك لأنهم لم يكن لديهم ارتباطًا بالأرض على عكس المجتمعات الزراعية التي استقرت حيثما كانت الزراعة والحيوانات، ولهذا فإن تعرضت مجتمعات الصيد لتغير في كمية الطعام أو نقص حاد فيها كان من السهل عليهم الرحيل لمكان آخر، أما على العكس فكان تأثر المجتمعات الزراعية بالمجاعات أكثر من أسلافهم بسبب صعوبة رحيلهم إلى مكان آخر.
وجد العلماء أن نظرية “جين الالتهام” موضوعة في غير مكانها الصحيح، وتُستخدم لتفسير غير كامل لمشكلة البدانة التي يتعرض لها الإنسان المعاصر الآن وتغلق الأبواب أمام تفسيرات أخرى أكثر علمية وربما تكون أكثر صحة، ربما تكون نظرية “جين الالتهام” جزءًا من التفسير إلا أنها بالتأكيد ليست التفسير العلمي الوحيد، أو في سياق آخر بالنسبة لاعتراض كثير من العلماء قد لا تكون تفسيرًا علميًا من الأساس.