انتشرت حملات المقاطعة عبر العالم بوصفها وسيلة ضغط اقتصادية تهدف إلى تغيير وضع يعد غير عادل أو غير شرعي، وهي نوع من المقاومة السلبية التي يصعب على السلطات صدها.
ينظر الخصوم للمقاطعة بأنها “استهلاك سياسي”، غايته التأثير في هدف غير الهدف المعلن، ويرى مؤيدوها أنها “استهلاك أخلاقي” يحاول جذب انتباه الرأي العام نحو قضية ما، ويصف عدد من المراقبين حملات المقاطعة المنتشرة جغرافيًا وتاريخيًا، بأنها استجابة للشعور بالعجز لدى المواطنين والمجتمع المدني والنقابات بسبب عدم فاعلية المؤسسات السياسية أمام عولمة الاقتصاد الرأسمالي.
نجحت حملة المقاطعة المغربية في الاستمرار لثلاثة أشهر، مستهدفة ثلاث شركات كبرى هي “أفريقيا” (للغاز والوقود)، و”سيدي علي” (للمياه المعدنية)، و”سنطرال دانون” (لمنتجات الحليب)
تجْتَذَبُ حملات المقاطعة تأييد فئات واسعة من الجمهور، لأنه بتكلفة أقل يستطيع المقاطع أن يكون جزءًا من عملية معاقبة جماعية لشركات مستهدفة لسبب ما، ورغم أن المقاطعة اعتبرت تاريخيًا سلاح الفقراء والمستبعدين منذ ستينيات القرن الثامن عشر وصولاً إلى التقاليد التي رسختها حملات القرن العشرين، فقد استخدمها الأقوياء أيضًا، فالولايات المتحدة الأمريكية فرضت مقاطعة الاقتصاد الكوبي أكثر من أربعة عقود، وقوطع النبيذ الفرنسي عقابًا لهذا البلد لعدم مشاركته في الحرب الأمريكية على العراق.
المقاطعون وخصومهم
وجدت العديد من الدراسات الاستقصائية أن معظم المقاطعين من شباب الأكثر تعلمًا والأقل فقرًا والمهتمون نسبيًا بالسياسة، ولا يميلون كثيرًا للأحزاب السياسية وأقل ثقة في المؤسسات الحكومية، وفي حسابات اليمين واليسار يعطفون جهة اليسار.
وقد عزز تحقيق أجرته الإيكونيميست قسمًا مهمًا من هذه الملاحظات، فتوصلت إلى أن حملة #مقاطعون في المغرب، التي أعلنها في 20 من أبريل الأخير، شأن شبابي (15-25 سنة) تؤيده نسبة مهمة من المشاركة النسائية (61%).
نجحت حملة المقاطعة المغربية في الاستمرار لثلاثة أشهر، مستهدفة ثلاث شركات كبرى هي “أفريقيا” (للغاز والوقود)، و”سيدي علي” (للمياه المعدنية)، و”سنطرال دانون” (لمنتجات الحليب)، ويمكن تمييزها في باب الحملات ذات الأسباب الاجتماعية والسياسية “الجذرية”.
إذ لا تبدو حملة اقتصادية تقليدية يحركها ارتفاع الأسعار أو ضعف الجودة، ومن المؤكد أنها غير محفزة دينيًا أو قوميًا أو إيديولوجيًا، كمقاطعة الشركات الدنماركية احتجاجًا على رسم النبي محمد كاريكاتوريًا، أو المقاطعة العربية للشركات الإسرائيلية، أو مقاطعة شركات جنوب إفريقيا خلال حقبة الأپارتهايد.
ترافع باستماتة الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالشؤون العامة والحكامة لحسن الداودي، لصالح الشركة المتعددة الجنسيات “سنطرال دانون” في لقاء مع قناة “الأولى” المغربية
وقد واكَفَ وزراء في الحكومة هذه الحملة، فأدانها محمد بوسعيد وزير الاقتصاد والمالية عن التجمع الوطني للأحرار، واصفًا المقاطعين بـ”المداويخ” (الحمقى)، وتبعه مصطفى الخلفي الناطق الرسمي باسم الحكومة عن العدالة والتنمية، فزعم أن دعوة المقاطعة مبنية على “معطيات غير صحيحة” وتوعد أن ترويجها “مخالف للقانون”، واستعطف الجمهور قائلاً إن الأمر يتعلق بمصير 460.000 فلاح وأسرهم ومستقبل الاقتصاد الوطني، ولم تنجح ردود الفعل هذه إلا في بتأجيج الحملة، فاضطر رئيس الحكومة “تلطيف” هذه التصريحات، مؤكدًا التزام الحكومة بمسؤوليتها في حماية المستهلكين.
وقد ترافع باستماتة الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالشؤون العامة والحكامة لحسن الداودي، لصالح الشركة المتعددة الجنسيات “سنطرال دانون” في لقاء مع قناة “الأولى” المغربية، وقال إن المغرب بالنسبة للشركة ليس غير سوق صغيرة جدًا، وعلى العكس بينت أرقام شركة Metis Consulting أن المغرب من أهم أسواق هذا العملاق التجاري الذي يحقق أرباحًا سنوية تبلغ 6.6 مليار درهم (قرابة 600 مليون يورو)، ويبدو أن الوزير الداودي خدله الحجاج لصالح الشركة فقرر الاحتجاج ضد الحملة المقاطعة أمام البرلمان.
ضد المقاطعة
مع تزايد حالات المقاطعة انبرى الباحثون والممارسون في مجال التسويق إلى بحث سبل مواجهة المقاطعين اعتمادًا على إستراتيجيات الشركات المتعددة الجنسيات، وأبرز الخطط في مواجهة حملات المقاطعة طبقتها شركة “ماكدونالدز”.
لما استعرت المقاطعة عام 2002 في إندونيسيا، أكبر بلد إسلامي، ردًا على الحملة العسكرية الأمريكية في أفغانستان، وضعت مطاعم ماكدونالدز على واجهاتها صورًا كبيرة لمالك الامتياز الإندونيسي، وفرضت على موظفيها ارتداء ملابس إسلامية تقليدية كل يوم جمعة
لقد كانت العلامة التجارية “ماكدونالدز” هدفًا أولاً لعدد كبير من حملات المقاطعة على مستوى العالم، لارتباطها ببلد منشأ معادٍ للشعوب في نظر الكثيرين، وأهم الحملات التي واجهت الشركة كانت بسبب العدوان الأمريكي على يوغسلافيا (1998)، وبسبب الجرائم الإسرائيلية إبان الانتفاضة الفلسطينية (2002)، وخلال الغزو الأمريكي للعراق (2003). اعتمدت الشركة إستراتيجية مواجهة تجمع بين العناصر التالية: تسفيه الآراء التي تبرر المقاطعة والاستعطاف والتهديد بمصير العمال وتوظيف التقاليد والمعتقدات المحلية وجمع التبرعات لأعمال إنسانية.
شنت ماكدونالدز هجومًا على مبررات المقاطعة في مصر، واعتبرتها “شائعات سخيفة” بشأن تبرع الشركة بجزء من أرباحها لـ”إسرائيل”، وأن هذه “الشائعات” تهدد قوت أكثر من 3.000 عامل مصري، كما قدمت ساندويتش الفلافل المشهور كأكلة عربية، مع أغنية لشعبان عبد الرحيم الذي اشتهر بمطلع أغنية “أنا بكره إسرائيل”، وفي الأردن خصصت نسبة 10% على جميع المبيعات لفائدة صندوق الإغاثة الهاشمي، وهو جمعية حكومية تقدم المساعدات للفلسطينيين.
لما استعرت المقاطعة عام 2002 في إندونيسيا، أكبر بلد إسلامي، ردًا على الحملة العسكرية الأمريكية في أفغانستان، وضعت مطاعم ماكدونالدز على واجهاتها صورًا كبيرة لمالك الامتياز الإندونيسي، وفرضت على موظفيها ارتداء ملابس إسلامية تقليدية كل يوم جمعة.
وإبان الحرب اليوغسلافية عام 1998، ومع تزايد المشاعر المعادية لأمريكا خلال حملة القصف التي شنها حلف شمال الأطلسي ضد يوغسلافيا واستمرت 78 يومًا، حاولت “ماكدونالدز” أن تبرز نفسها كرافضة لهجمات الناتو، فوزعت برغر مجاني مع قبعة وطنية صربية عليها شعار (McDonald’s is yours!).
وفي الأرجنتين، وقف المناهضون للحرب على العراق على أبواب متاجر “ماكدونالدز”، قائلين: “هنا يبيعون “وجبات سعيدة” لتمويل الحرب”، فقررت الشركة إطلاق حملة إعلانية تقدم (Big Mac) مع عبارة “Made in Argentina” بالبنط العريض، مؤكدة أنها شركة محلية توظف أكثر من 10.000 أرجنتيني.
لا تتوقف مناهضة المقاطعة على الشركات بل تدخل الحكومات على الخط، وتأخذ على عاتقها الدفاع عن الشركات، كما فعلت الحكومة المغربية، وقد يصل التدخل القانوني/السياسي حد قمع المقاطعين، كما فعل البرلمان الإسرائيلي في يوليو 2011، لما أقر قانونًا يسعى إلى معاقبة أي شخص أو كيان يدعو إلى المقاطعة الاقتصادية أو الثقافية أو الأكاديمية في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية أو في أي مكان آخر من البلاد. وفي أوروبا عززت القوانين الفرنسية منذ 2010 السياسة القمعية ضد حركات المقاطعة، وأجريت سلسلة من الدعاوى القضائية ضد الحملات.
نجاح المقاطعة
عززت تكنولوجيات الاتصال الحديثة قوة حملات المقاطعة، فالمقاطعون المغاربة اعتمدوا على الإنترنت والتواصل الاجتماعي في حملتهم الناجعة في أن تكون حملة من طراز الحملات العالمية.
إن أكبر حملات مقاطعة المنتجات الأمريكية، انطلقت بإرسال وابل من رسائل البريد الإلكتروني إلى الآلاف إن لم يكن ملايين الناس حول العالم، وخاصة في المنطقة العربية والإسلامية، ومع تكنولوجيا الهواتف المحمولة أصبحت الرسائل النصية القصيرة وسيلة أخرى للتعبئة.
إن التحدي الأخير الذي يواجه أي حملة مقاطعة يتمثل في قدرتها توسيع روابط التضامن ودمج أنماط الاحتجاج الأخرى، خاصة في عالم الشغل، وبناء تحالفات بين العمال والمواطنين والمستهلكين، ووضع إستراتيجيات للإقناع والضغط السياسي
إن نجاح حملة المقاطعة يعتمد على عوامل يصعب قياسها، وبصورة عامة ينجح المقاطعون في تكوين حملتهم عندما تكون رسالتهم مفهومة بسهولة، وتتزايد فرص نجاح حملة المقاطعة عندما تزداد أهدافها وضوحًا، وتعطي تفسيرًا مقنعًا، لتتمكن من فرض نفسها رمزيًا كحركة مشروعة؛ ويبدو أن حراك المقاطعين في المغرب قد حقق جزئيًا هذه الشروط.
ومن المتوقع أن تحقق المقاطعة أهدافًا أخرى ذات طبيعة ثقافية، فتعيد تكوين الرأي العام أو أجزاء منه، بشأن قضية أو مجموعة قضايا، وقد تكون لها تداعيات مهمة على المستوى الفردي، انطلاقًا من العمل اليومي الذي ينفذه المواطنون الشباب من نشطاء الحملة الذي سيساهم قطعًا في تكوين أجيال جديدة عن العمل الجماعي والمصلحة المشتركة.
وفي السياق الذي تبلورت فيه الحملة لا يمكن التغاضي عن التقاليد التي كرسها الحراك الاجتماعي في المغرب الذي جذر دينامية 20 من فبراير ونزع عنها المحفزات الإقليمية، وقد انتصر بيان لمنظمة ترانسبرنسي المغرب، نُشر في 22 من مايو الأخير لهذا الفهم فاعتبر حملة المقاطعة امتدادًا للحركات الاجتماعية في الريف وزاكورة وجرادا.
إن التحدي الأخير الذي يواجه أي حملة مقاطعة يتمثل في قدرتها توسيع روابط التضامن ودمج أنماط الاحتجاج الأخرى، خاصة في عالم الشغل، وبناء تحالفات بين العمال والمواطنين والمستهلكين، ووضع إستراتيجيات للإقناع والضغط السياسي.