هل هناك علاقة بين شكل القصيدة ومضمونها؟ وإذا وجدت هكذا علاقة، فما هي؟ وهل ينفصل الشكل عن المضمون، بحيث تدرس فكرة القصيدة بعيدًا عن شكلها؟
يتخذ الشكل عند الشاعر الكبير أدونيس بُعدًا أعمق بكثير من مجرد كونه قالبًا أو لباسًا يلف تحته المعاني، أو مجرد رص للكلمات في ترتيب معين، فهو يعرفه على أنه: “الجسد البنيوي – الإيقاعي، وهو إذًا ليس مجرد تكوين أو تشكيل خارجي، وإنما تجسيد لوعي ولحركة ولمسار تأريخي”.
فالشكل الشعري تعبير عن شكل العلاقات الخارجية التي يرتبط بها الإنسان: العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والشكل بحد ذاته مضمون معين، فالشعر الذي يتخذ زي الأبيات الموزونة والمضبوطة وفق نظام العروض هو تعبير عن نظام سياسي واجتماعي معين، تعبير عن عالم يحكمه النظام بعامة، وعن مجتمع لا يرحب بأي خروج عن الذي ألفه وعرفه من أفكار وتصورات.
من هنا لا يكون الخروج والثورة دون تغيير نظام التعبير وخروج عن الأشكال التعبيرية التقليدية إلا خروجًا ناقصًا وثورة غير ثورية! لن تثور على مجتمع حتى تثور في تعبيرك ذاته، وهذه النقطة تضعنا أمام منظور للشعر يضعنا أمامه أدونيس، فليس الشعر عنده مجموعة أفكار معينة نبحث عنها بين طياته، وليس دعوة لفعل ولا رغبة في تسييس، ذلك أن الشعر بذاته هو فعل، من هنا يكون شكل التعبير ساحة من ساحة الفعل الثوري، بل إن المحتوى ذاته عند أدونيس ليس سوى “حضور الشكل وتوجهه على نحو فريد”.
تم التوحيد خطأً بين اللغة والكلام، فيطلب من الشاعر أن يتحدث عن أفكار مشتركة مفهومة ومعلومة لدى القارئ أو الناقد، وليس مباحًا له أن يأتي بشيء جديد على مستوى الأفكار
“إن المحتوى في الشعر لا وجود له، كما نقول إن الفكرة موجودة أو الشجرة موجودة، فالمحتوى اصطلاح نقدي أي أنه تجريد ذهني، والوصول إليه – إن كان ذلك ممكنًا – لا يكون في عزله أو فرزه عن الشكل، فهو ليس شيئًا مستقلًا قائمًا بذاته لكي يمكن عزله أو فرزه”.
لكن حصل في محطة معينة في التاريخ العربي فصل بين الشكل والمضمون، وذلك عند انبثاق الإسلام، فقد أدخل الإسلام مضامين جديدة على الساحة الأخلاقية أو بالأحرى قلب سلم أولويات تلك المضامين، بالإضافة إلى الانقلاب الأهم الذي أحدثه وهو تغيير السلطة التي كان الشاعر يرى انتماءه إليها فيكرس مديحه لها وذمه لأعدائها، ولكن هذه الانقلابات على مستوى المضمون، ولو نظريًا، لم يرافقها تغيير على مستوى الشكل أو التعبير، فكان الشاعر المسلم يمجد مضامينه الجديدة بنفس الأسلوب الذي مجد به الشاعر الجاهلي مضامينه هو.
وكان لهذا الأمر تبعة أخرى لا تقل خطرًا عن الفصل بين الشكل والمضمون، وربما فاقتها، وهي جعل الشعر الجاهلي أصلًا يجب أن يحتذى، فالشعر “بعد الجاهلية يجب أن يكون نوعًا من المطابقة أو التكيف مع الأصل أي مع القديم: البيان “الجاهلي” بوصفه شكلًا تعبيريًا، والتكيف بياني وأخلاقي معًا: يتطابق سلوك الخلف مع النموذج السلفي للسلوك، ويتطابق تعبيره مع النموذج البياني للتعبير، ويستند هذا التكيف إلى الإيمان بأن القديم كامل ونهائي وواضح، وبأنه عقلي ومنطقي، ويعني ذلك أن الشعر القديم – بالنسبة إلى ما يخلفه في مقام الإجمال وكل ما يأتي فيما بعد من فكر أو شعر- إنما هو في مقام التفصيل”.
لكن لا يتبادر إلى الأذهان أن الشكل مجرد جسد القصيدة الخارجي، بل هو جسد متوهج من الدلالات والرموز التي بها يعيد الشاعر صياغة الواقع فاتحًا له آفاقًا جديدة “إن بين الفكرة والتعبير، بين ما فكر به الشاعر وما كتبه، مسافة هي الجسم المرئي للشعر، ويتجلى فن الشاعر في الطريقة التي يرسم بها هذه المسافة، أي في العلاقات (الإشارات والدلالات) التي يقيمها بين الدال والمدلول، ومن هنا لا ينبع الشعر من الأفكار وإنما ينبع من الإشارات والدلالات، هذه ألف باء اللغة الشعرية”.
القارئ أو الناقد يقفز رأسًا حين يقرأ نتاجًا شعريًا إلى استعادة ما يعرفه، وما يعرفه إنما هو فكرة أو اتجاه أو موقف، لذلك لا يهمه من هذا النتاج إلا أن يعرف اتجاهه أو موقفه أو فكرته
فليس هنا فكرة مجردة وليس كذلك شكل بلا معنى، وإنما هو معنى متفجر متوهج لا يرى إلا في الشكل ذاته، ولأنه متفجر متوهج فهو متعدد بالضرورة، من هنا تكمن قدرة الإبداع في الإبقاء على قابلية القصيدة للقراءة في أزمنة مختلفة.
الشعر ليس لغة بل هو كلام، نظامًا خاصًا من الكلام، فاللغة وضعية مشتركة أما الكلام فهو ميدان الإبداع الفردي، وقد تم التوحيد خطأً بين اللغة والكلام، فيطلب من الشاعر أن يتحدث عن أفكار مشتركة مفهومة ومعلومة لدى القارئ أو الناقد، وليس مباحًا له أن يأتي بشيء جديد على مستوى الأفكار، فكل شيء قد تأسس سلفًا ولا جديد تحت الشمس، وهذا الموقف يؤدي إلى أمور:
أولاً: يؤدي إلى القول “إن الكلام يكون عظيمًا بقدر ما يمثل اللغة، هكذا تكون عظمة الشعر “الجاهلي” مثلا أنه يمثل اللغة العربية”.
ثانيًا: “يؤدي إلى أن يكون الشعر استعادة، أي نسخًا وتكرارًا”.
ثالثًا: أن القارئ أو الناقد يقفز رأسًا حين يقرأ نتاجًا شعريًا إلى استعادة ما يعرفه، وما يعرفه إنما هو فكرة أو اتجاه أو موقف، لذلك لا يهمه من هذا النتاج إلا أن يعرف اتجاهه أو موقفه أو فكرته”.
رابعًا: “أن القارئ أو الناقد يطرح نفسه كمستهلك، ويتطلب من الشاعر – المنتج – مادة استهلاكية”.