يعيش الشرق الأوسط على صفيح ساخن منذ أن أقدمت “إسرائيل” على رفع مستوى المواجهة في المنطقة بتنفيذ عمليتي اغتيال استهدفت الأولى القياديّ في “حزب الله”، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية بالعاصمة اللبنانية بيروت، فيما استهدفت الثانية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، على هامش مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، في طهران في نهايات يوليو/تموز الماضي.
لم يتوان الإيرانيون، وعلى ذات المنوال قادة الحزب اللبناني، في الإعلان صراحةً أن الرد على عمليتي الاغتيال سيكون واضحًا ومباشرًا ومؤثرًا، مع الإشارة في عدة مواضع إلى أنها ردود لن تلتزم بقواعد الاشتباك المعتادة، وسط استعدادات وصفتها مصادر استخباراتية متعددة غربية وإسرائيلية بأنها “غير مسبوقة” على الصعيد الميداني، ترافقت مع حملة دبلوماسية دولية لتأكيد الرد وانسجامه مع حق إيران في الدفاع عن نفسها وعدّ الرد القادم بوصفه يأتي في إطار محددات القانون الدولي.
من جانبها، لم تتوان “إسرائيل” عن اتخاذ كل الإجراءات الدفاعية اللازمة وتنبيه مختلف أذرع جيش الاحتلال بالاستعداد للعمليات (الدفاعية والهجومية)، ووضع سلاح الجو في حالة الاستعداد القصوى وتجهيز الملاجئ ورفع الاستعدادية لتطبيق كل خطط الطوارئ المُعدّة للحروب الكبرى، فيما لم تتوان الولايات المتحدة عن حشد حاملات الطائرات ورفع مستوى الاستعداد في كل قواعدها في المنطقة شملت نشر سرب من طائرات من طراز “إف-22 رابتور” في الشرق الأوسط.
تشير غالبية التقديرات إلى أن الرد المرتقب لن يكون ردًا إيرانيًا فحسب، بل رد تشارك فيه مختلف القوى والفصائل المنضوية ضمن “محور المقاومة” في المنطقة، ما يعني مشاركة مباشرة بدرجة أساسية من “حزب الله” في لبنان وحركة “أنصار الله” في اليمن، لاعتبارات متعددة على رأسها أن القوتين قد تعرضتا لضربات إسرائيلية نوعية مؤخرًا، وثانيها انسجامًا مع أطروحات “المحور” بشأن وحدة الجبهات في المواجهة مع “إسرائيل” بالمنطقة.
على الجانب الآخر، فإن الاستعدادات لمواجهة الهجوم المرتقب من قوى “محور المقاومة” لم تتوقف عند حدود الحشود الأمريكية في الشرق الأوسط، ورفع الاستعدادية الإسرائيلية، بل تجاوزته إلى تفعيل كل أدوات التنسيق بين القواعد العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط والدول والجيوش الحليفة في المنطقة.
كان أبرز تعبير عنها إعلان الأردن نيته إسقاط أي هدف في سماء المملكة، وهو ما يعيد إلى الذاكرة شكل وحجم التصدي التكاملي في أبريل/نيسان الماضي، إبان الضربة الإيرانية التي استهدفت الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي جرى بمشاركة دول متعددة في المنطقة ضمن شبكة دفاعية متكاملة شكلت درعًا لـ”إسرائيل” في وجه الهجوم الإيراني، نتج عنها إسقاط جزء كبير من المقذوفات والمُسيّرات الإيرانية قبل أن تتمكن من الوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة الاستثمار في التصعيد الحالي لإعادة إحياء فكرة قديمة في الوصول إلى صيغة تحالف مشترك لحلفائها في الشرق الأوسط بقيادة “إسرائيل” لمواجهة “النفوذ الإيراني في المنطقة”، تقدِّم إيران قوى “المحور” بوصفها مجموعة من القوى المترابطة والمتكاملة التي نجحت في رفع مستوى التنسيق فيما بينها إلى ما بات يطلق عليه “وحدة الجبهات”، في مواجهة التهديدات التي تستهدف أي مكون من مكونات هذا المحور.
وفي المقدمة منها الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وكلا المشروعين باتا على مفترق طرق رئيسي ارتباطًا بما ستحمله مخرجات الجولة المرتقبة من القتال المباشر في المنطقة، ما سيضع مفهومًا من الاثنين في مهب الريح، وهو ما يُحمِّل الجولة القادمة تأثيرات استراتيجية تتعدى محاولات كل الأطراف ترميم مفاهيم الردع وتثبيت قواعد الاشتباك.
الحلف الدفاعي الأمريكي في الشرق الأوسط.. محاولات متعددة وفشل متكرر
لم تكن فكرة إنشاء تحالف دفاعي لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط جديدة أو وليدة العقد الأخير، إذ عملت الولايات المتحدة على محاولة تمرير عدة صيغ لمثل هذا الحلف على مدار العقود الماضية، لم يتجاوز أغلبها حدود النقاش وتبادل الرؤى والمقترحات، فيما نجح بعضها بأن يكون فاعلًا بشكل تكتيكي في لحظات محددة دون أن يتطور إلى حلف متكامل.
كانت أُولى المحاولات الأمريكية إبان حرب الخليج الأولى في العام 1991، حين عملت الولايات المتحدة على تدشين نظام يؤمِّن الحماية لقواتها المنتشرة في الخليج، ويتصدى للصواريخ البالستية العراقية المُوجّهة إلى هذه القوات وإلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إلا أن محاولات تطوير المنظومة في العام 1992 اصطدمت بمعارضة روسية بسبب مخاوف الروس من أن يحقق الأمريكيون سيطرة رادارية على جنوبي وغربي روسيا. فجرى التراجع عن الخطوة الأمريكية والاقتصار على المنظومة المفعّلة منذ حرب الخليج الثانية.
وجرت عدة محاولات في عهود بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما الرئاسية لإعادة بناء هذه المنظومة دون فائدة، إذ انضمت إيران والصين وباكستان إلى الدول المعترضة على هكذا نظام.
عادت فكرة التعاون الأمني الإقليمي علنًا في مستهل عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي أعلن أنه سيجري إنشاء “تحالف استراتيجي للشرق الأوسط”، والمعروف اختصارًا بـ”ميسا”، وسرعان ما أطلق عليه المراقبون اسم “الناتو العربي”. وكان الهدف من التحالف حماية المنطقة من التهديد الناتج عن التوسع الإيراني في المنطقة، والترويج لـ”مستقبل يعمه السلام والأمن في الشرق الأوسط”، حسب بيان للبيت الأبيض، وهو ما اعتبره وزير الخارجية الأمريكي في حينه، مايك بومبيو، بداية لـ”عهد جديد” من التعاون في الشرق الأوسط.
على الرغم من الاستثمار الضخم من إدارة ترامب في الترويج لمشروع “ميسا”، وتشجيع جزء من الدول العربية للمضي قدمًا في نقل الفكرة إلى حيز التنفيذ، فإن هذه الطموحات سرعان ما اصطدمت بالواقع في العام 2019 فور تعرض منشآت “أرامكو” لهجمات حوثية غير مسبوقة تسبّبت بوقف نحو نصف الإنتاج السعودي لأيام، وتوعّد حينها ترامب بالرد على الهجمات التي اتّهم إيران بالوقوف خلفها، لكن الرد لم يأتِ، ولم يكتمل العهد الأمريكي الجديد.
ورغم أن عام 2020 شهد توقيع “إسرائيل” اتفاقيات تطبيع – تسمى مجتمعة باتفاقيات أبراهام – مع الإمارات والبحرين والمغرب وسلطنة عُمان والسودان، لتضاف إلى التطبيع السابق للبلاد مع مصر في العام 1979 والأردن في العام 1994، فإن جهود الحلف الدفاعي لم تنجح في المراكمة على الأرضية غير المعهودة التي مثلتها الاتفاقيات المذكورة.
استراتيجية بايدن الخارجية والحاجة الإسرائيلية
مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، تبنت إدراته استراتيجية خارجية تستند إلى فكرة خفض الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط وإعادة تموضع القوات بما يعطي الفرصة لإعادة تركيز الجهود في مواجهة التحديات الاستراتيجية الأخرى، وخصوصًا تلك المرتبطة بمواجهة تمدد النفوذ الصيني والروسي في العالم.
إلا أن إدارة بايدن بحثت عن أجدى الوسائل لمنع ترك الفراغ في الشرق الأوسط عرضةً لتمدد النفوذ الإيراني، خصوصًا بعد أن نجحت الصين في ترتيب اتفاق مصالحة سعودي-إيراني، عملت الدولتان وفقه على خفض حدة التوتر في المنطقة وإعادة العلاقات الرسمية بين البلدين، وهو ما شكّل إشارة تحذيرٍ للولايات المتحدة بشأن مستقبل النفوذ الأمريكي في المنطقة، مع تنامٍ متزايد للدور الصيني الذي أبدى مرونة كبيرة تجاه الرغبة السعودية بتسليح أكثر نوعية من السلاح الأمريكي الذي بات خاضعًا لتقييدات الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض.
وفي ضوء التقييم الأمريكي-الإسرائيلي لمُخرجات جولة “سيف القدس” بين المقاومة الفلسطينية و”إسرائيل”، والقدرة النوعية للمقاومة الفلسطينية في توجيه ضربات صاروخية للأهداف الإسرائيلية وإطلاق الصواريخ من قطاع غزة وجنوبي لبنان وسوريا، مع ارتفاع وتيرة عمليات المقاومة في الضفة الغربية، واندلاع مواجهات بعدة مناطق في الأراضي الفلسطينية المحتلة في 1948، والتقدم النوعي في إمكانية تحرك جبهات جديدة في معادلة الاشتباك القادم مع دولة الاحتلال، عادت إلى الواجهة أهمية ترتيب الأولويات الدفاعية الأمريكية في المنطقة، بما يضمن استحداث آلية دفاعية قادرة على التصدي لتصاعد التهديدات وتنامي القدرات الإيرانية والقوى الحليفة لها المنضوية في محور المقاومة، والجدية في تشكيل خطر حقيقي على “إسرائيل” والمصالح الأمريكية في المنطقة.
كما حملت زيارة الرئيس الأمريكي الأولى إلى الشرق الأوسط في 13 يوليو/تموز 2022 ضرورة أن تبقى هذه المنطقة، التي تتغير بسرعة ولا تزال غير مستقرة، جانبًا مهمًا من الاستراتيجية الخارجية الأمريكية، وهو ما وضع مخرجات الاجتماع السري الذي عُقد بشرم الشيخ في مارس/آذار من العام ذاته بين مسؤولين عسكريين أمريكيين ونظرائهم الإسرائيليين والأردنيين والمصريين والخليجيين بهدف التنسيق ضد قدرات إيران الصاروخية المتنامية وبرنامجها للطائرات دون طيار، على جدول أعمال لقاء بايدن مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان.
وهو ما كان قد سبقه في 24 يونيو/حزيران للعام 2022 تصريح للعاهل الأردني، عبد الله الثاني، لشبكة “سي إن بي سي“، أكد فيه أنه سيدعم تشكيل تحالف عسكري في الشرق الأوسط على غرار حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بعد أيام من تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، في 20 يونيو/حزيران ذاته، قال فيه إن “إسرائيل” تبني تحالفًا للدفاع الجوي في الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة.
مؤكدًا أن التحالف أحبط بالفعل محاولات لشن هجمات إيرانية، وأنه قد يستمد مزيدًا من القوة من زيارة بايدن (التي كانت مرتقبة)، وقال غانتس في إحاطة أمام نواب الكنيست إن مثل هذا التعاون يحدث بالفعل، وأضاف: “في خلال العام الماضي، كنت أقود برنامجًا مكثفًا مع شركائي في البنتاغون والإدارة الأمريكية سيعزّز التعاون بين إسرائيل ودول المنطقة. بدأ العمل بهذا البرنامج بالفعل، وتمكّن بنجاح من اعتراض محاولات إيرانية لمهاجمة “إسرائيل” ودول أخرى”.
علاوة على إيران، تشعر الولايات المتحدة بالقلق أيضًا من تأثير الحرب في أوكرانيا على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، فالجهود التي بذلتها موسكو لإقناع دول الخليج العربية بإبقاء أسعار النفط مرتفعة والامتناع عن الانضمام إلى العقوبات الغربية ضدها، أوجدت واقعًا سياسيًا جديدًا لا يمكن إلا أن يؤجج التوتر بين القوى الإقليمية. وحيث إن الولايات المتحدة ليست واثقة من خطوة روسيا التالية، وتتصدى لنفوذ الصين المتزايد في المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق، فهي تحتاج إلى حلفاء حقيقيين في الشرق الأوسط الآن أكثر من أي وقت مضى.
محور المقاومة ووحدة الجبهات
على مدار عقود، عزّزت إيران من علاقتها مع مجموعة من القوى الحليفة في المنطقة، والتي تطورت في حضورها وقدرتها لتصل إلى مرحلة باتت تعبر فيها عن وجودها بوصفها محورًا متكاملًا في الشرق الأوسط، وهو ما بات يصطلح على تسميته بـ”محور المقاومة”، الذي تنطوي ضمنه بشكل رئيسي فصائل المقاومة الفلسطينية و”حزب الله” وحركة “أنصار الله” اليمنية وفصائل الحشد الشعبي العراقي، بمشاركة مباشرة من الحرس الثوري الإيراني.
إضافة إلى بعض القوى والفصائل الشيعية الموجودة في أفغانستان والعراق والبحرين، وتشكيلات أخرى منتشرة في الأراضي السورية من جنسيات متعددة، وقوى وتشكيلات من خلفيات قومية عربية تعمل مع قوى المحور، ويُصنّف النظام السوري أيضًا جزءًا من المحور الذي تقوده إيران.
أشرف “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني على توسيع بنى وهياكل وتسليح قوى المحور وتعزيز التعاون فيما بينها، ضمن آليات عمل متعددة غلب عليها الطابع السري، وشملت بعض اللقاءات العلنية لقادة من الحرس الثوري وقادة في الفصائل المنضوية في المحور، وصولًا إلى العديد من الزيارات العلنية لقادة الفصائل والقوى المنضوية في المحور إلى الجمهورية الإيرانية وعقد لقاءات مع قادتها على المستويين السياسي والعسكري وحتى اللقاءات مع المرشد الإيراني الذي التقى في عدة محطات مع قادة من حركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله والفصائل العراقية.
تعرض المحور لضربات متعددة وفق طابعين، أمني وعسكري مباشر، شاركت فيه “إسرائيل” والولايات المتحدة مشاركة مباشرة، فيما شاركت فيه العديد من القوى والأنظمة في المنطقة مشاركة غير مباشرة، خصوصًا على صعيد الإمداد المعلوماتي والاختراق الاستخباراتي، كان أبرزها اتهام حزب الله لأجهزة أمن عربية بالمشاركة في عملية اغتيال قائده العسكري عماد مغنية في 12 فبراير/شباط 2008 بالعاصمة السورية دمشق.
فيما كانت الضربة الأكبر لجهود المحور في عملية الاغتيال التي تعرض لها قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، الذي كان برفقته أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي في 3 يناير/كانون الثاني 2020 باستهداف من مُسيّرة أمريكية في العاصمة العراقية بغداد، ويُنسب لسليماني النشاط الأبرز الذي ساهم في تعزيز النفوذ والحضور الإيراني في المنطقة، والمسؤولية المباشرة عن جهود التسليح والتنسيق بين قوى المحور.
شكّلت جولة “سيف القدس” في مايو/أيار 2021 حدثًا مؤسِّسًا في تطوير استراتيجيات عمل محور المقاومة، بل ويمكن القول إنها من الجولات التي ساهمت في رفع وتيرة التحدي ما بين قوى المحور ودولة الاحتلال، إذ كانت الجولة التعبير الأول عن فكرة “وحدة الجبهات” التي لم تؤخذ بالجدية الكافية، على الرغم من الترويج لها في مواضع متعددة ضمن الحديث عن الطموح بتطوير العمل المشترك لقوى محور المقاومة.
إذ شكّلت عمليات إطلاق الصواريخ من عدة جبهات في اتجاه أهداف إسرائيلية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، والتحرك والتفاعل لساحات الفعل الفلسطيني، نموذجًا أوليًّا عن حجم التأثير الذي يمكن أن يخلقه الانخراط من الجبهات المختلفة في معادلة الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال، فيما كشفت المقاومة الفلسطينية بعد انتهاء الجولة عن وجود غرفة عمليات مشتركة لمحور المقاومة تتبادل عبرها قوى المحور المعلومات الاستخباراتية والخبرات وتنسق الجهود العملياتية.
تلا جولة سيف القدس الاستخدامُ الموسّع لمصطلح وحدة الجبهات والمسار التصاعدي في الحديث عن تكامل تلك الجبهات في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها مكونات المحور، إذ عبّر الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، بأن كل الجبهات ستكون مفتوحة للدفاع عن القدس، عادًّا أن المساس بالقدس سيعني تفجير كل معادلات المنطقة. لتتطور المعادلة في أبريل/نيسان 2023 إلى أن “الاستفراد بساحة من ساحات محور المقاومة قد يشعل الحرب الكبرى في المنطقة”.
عُدّ الحديث عن معادلة الجبهات الموحدة أمام الأخطار التي قد تواجه أي مكون من مكونات المحور التطور الأبرز والأكبر، في ضوء التراجع المستمر للحضور الأمريكي في المنطقة، والمصالحة السعودية-الإيرانية التي عدّها أمين عام حزب الله بأنها إسقاط “للرهان على محور إسرائيلي-عربي في وجه إيران وفي وجه محور المقاومة”.
“طوفان الأقصى” والاختبار العملي
شكّل “طوفان الأقصى” الاختبار العملي الأول الذي وضع كل لاعبي المنطقة أمام لحظة الحقيقة، وأخضع كل السيناريوهات للفحص الفعلي بعيدًا عن التنظير والخطابات والخطط متعددة الطبقات وكثيرة التفاصيل.
إذ إن التعبير الفعلي الأولي عن انخراط مجموعة من الجبهات في معادلة الاشتباك مع دولة الاحتلال كان في دخول “الجبهات الإسنادية” لمعادلة المواجهة، واستخدام تكتيكات متعددة في إطار هذا الجهد “الإسنادي” من قوى المحور، بدءًا من عمليات الاستهداف المحدّد من حزب الله لمستوطنات شمالي فلسطين المحتلة، وليس انتهاءً بالدور اليمني الكبير في تعطيل حركة الملاحة إلى موانئ الاحتلال عبر بحر العرب والبحر الأحمر، وانخراط قوى عراقية في معادلات الاشتباك ومهاجمة أهداف في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالطيران المُسيّر، فيما سُجّلت حالات محدودة من عمليات الإطلاق من الأراضي السورية، وحالة إطلاق لقوى بحرينية الجنسية.
كانت حادثة قصف الطائرات الإسرائيلية لمبنى مُلحق بالقنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل/نيسان المنصرم واغتيال العميد محمد رضا زاهدي و7 ضباط آخرين في الحرس الثوري الإيراني، والقرار الإيراني بالرد الواضح والمباشر على الاعتداء بضرب أهداف إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الاختبار الأول لحجم التنسيق بين الولايات المتحدة والقوى الحليفة لها و”إسرائيل”، والتكامل الدفاعي فيما بينها.
أعادت لحظة الهجوم الجوي الإيراني على “إسرائيل” في أواسط ذلك الشهر إلى الواجهة بقوةٍ الاقتراح القاضي بجمع دول الخليج العربي ومصر والأردن مع الولايات المتحدة ضمن تحالفٍ شبيه بحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وتنسيق الجهود الدفاعية فيما بينها.
وعلى الرغم من أن عددًا من الدول المنخرطة في الجهد الدفاعي الأمريكي لحماية “إسرائيل” لم تعلن دورها بوضوح، فإن الناطق باسم جيش الاحتلال أعلن عن تمكُّن الدفاعات الجوية الإسرائيلية بمساعدة الولايات المتحدة و”حلفاء آخرين” من اعتراض القسم الأكبر من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، وهو ما يحمل إشارةً واضحةً للدور المفترض لبقية مكونات الحلف الأمريكي في المنطقة ضمن العملية الدفاعية.
وفي الوقت الذي فضّلت فيه العديد من الدول المنخرطة في الدرع الدفاعي إبقاء الأمر طي السرية، كان موقف الأردن مغايرًا، إذ سبق أن أعلن بوضوح تشجعه لأن يشارك في التحالف الدفاعي المنشود، ويستضيف على أرضه مكتب التنسيق لحلف “الناتو”، وينخرط في معاهدات دفاعية مع الولايات المتحدة، ولم يخفِ مشاركته في الجهد الدفاعي في أبريل/نيسان الماضي وأعلن إسقاط أهداف في أجواء المملكة، فيما أعاد تأكيد الموقف ذاته والاستعداد للتصدي لأي هدف يمر في أجوائه مع تصاعُد احتمالات الهجوم الإيراني المرتقب على “إسرائيل”.
يعطي التفوق الذي اتضح في الدرع الصاروخية، وشبكة الدفاع الجوي المشتركة لـ”إسرائيل”، والقواعد الأمريكية والدول الحليفة في المنطقة، نموذجًا واضحًا عن حجم الشوط الذي قطعته الجهود لإنشاء التحالف الدفاعي سرًا، والتي عززها نقل مسؤولية العلاقة بين الجيش الأمريكي والجيش الإسرائيلي إلى القيادة المركزية للجيش الأمريكي بدلًا من قيادة القوات الأوروبية في الجيش الأمريكي.
وهي الخطوة التي أعلنها الجيش الأمريكي بوصفها تأتي ضمن عمليات “إعادة التنظيم، بهدف تعزيز العلاقة الدفاعية الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتوفّر فرصًا لتعميق التعاون العملياتي بين الجيش الإسرائيلي والعديد من شركاء القيادة المركزية الأمريكية في المنطقة”، إذ عكست الخطوة حجم تطوير حلفاء القيادة المركزية الأمريكية من الجيوش العربية للعلاقات مع دولة الاحتلال، على الرغم من أن بعضها بشكل غير رسمي.
الجولة القادمة وحسم المعادلات
بعد عقود من السعي الحثيث إلى أن يستثمر كل طرف في الأبعاد الاستراتيجية لسياسته في الشرق الأوسط ضمن معادلات النفوذ والهيمنة، ومراهنة كل الأطراف على نجاعة خياراتهم، بات من الواضح أن لحظة الواقع التي عمل الجميع على تأجيلها لسنوات طويلة باتت قريبة وقاب قوسين أو أدنى، على إثر جولة المواجهة المُنتظرة بين إيران و”إسرائيل”، التي ستتضمن وفقًا للتقديرات مشاركة من الجبهات المتعددة لمحور المقاومة في علمية الاشتباك إما بشكل متزامن وإما متتالٍ للتعامل مع تحديات شبكات الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأمريكية والحليفة في المنطقة.
على الرغم من أن متحدثي الاحتلال وقادته، وكذلك قادة الولايات المتحدة، يعدُّون عملية التصدي في أبريل/نيسان الماضي ناجحة، وتشكيلها لدفعة معنوية مهمة للمضي قدمًا في مشروع الحلف الدفاعي الأمريكي في الشرق الأوسط، فإنه كان واضحًا أن غرض الهجوم الإيراني كان إعلاميًا/ردعيًا أكثر من الغرض التدميري للهجمات الصاروخية وأسراب المُسيّرات التي انطلقت في ذروة الاستعداد الإسرائيلي-الأمريكي بمشاركة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة للتصدي، وبالتالي لا يمكن عد هذا النجاح الاختبار المفصلي لنجاعة مثل هذا المشروع في مواجهة القدرات الصاروخية لإيران وحلفائها في المنطقة.
وفي مقابل تشكيل جهوزية الحلف الدفاعي في التعامل مع الهجوم الإيراني على “إسرائيل” في أبريل/نيسان مفاجأةً للعديد من المتابعين، شكّلت القدرات الصاروخية أيضًا، خصوصًا الصواريخ الدقيقة وتطور منظومات الطيران المُسيّر لدى قوى محور المقاومة في المنطقة، عاملًا صادمًا للعديد من المتابعين.
خصوصًا أن تلك القدرات لم تقتصر على إيران وحدها، أو حتى “حزب الله” فحسب، بل أظهرت حركة “أنصار الله” اليمنية قدرات تسليحية تجعلها قادرة على تهديد العديد من المعادلات في المنطقة، والأمر كذلك في الفصائل العراقية المنضوية ضمن محور المقاومة، فيما يُشكل ستار السرية الذي تعمل تحته هذه القوى والفصائل المسلحة عامل تساؤل بشأن ما يمكن أن يحمله توسع المواجهة من بروز لقدرات جديدة قد تكون أكثر نوعية.
تجعل الحسابات الخاصة لكل مكون من مكونات محور المقاومة، بما فيها حسابات إيران القومية وحرصها على سلامة برامجها الاستراتيجية وفي القلب منها المشروع النووي الإيراني، من خيارات الانخراط الواسع في المواجهة خياراتٍ معقدة وليس من اليسير حسمها.
وهو ما يجعل من الانخراط الكامل من الجبهات في المواجهة، سواء في المنظور القريب على إثر استمرار تجليات “طوفان الأقصى” في المنطقة، أم في مرحلة لاحقة ارتباطًا بتنفيذ اعتداء أو حملة عسكرية تستهدف مكونًا من مكونات المحور، خيارًا صعبًا يخضع لعدد من الاعتبارات التي لا يستطيع أي طرف التحرر منها لاعتباراته الخاصة ويُخضِع أي قرار جماعي لقوى محور المقاومة لاعتبارات متعددة ومعقدة.
في المقابل، فإن الانخراط العربي الفاعل والعلني في الدرع الدفاعي الأمريكي في الشرق الأوسط بقيادة دولة الاحتلال، الذي ستكون أولى مهامه العلنية الدفاع عن “إسرائيل” في وجه هجوم تقوده إيران وتشارك فيه قوى المقاومة في المنطقة، في إطار استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والإيغال المستمر في الدم الفلسطيني، سيُشكِّل إحراجًا كبيرًا لهذه الدول بغض النظر عما إذا كانت منخرطة انخراطًا علنيًا في عملية التطبيع، أو كانت لا تزال في طور التفاوض بشأن اتفاق التطبيع ولم تمانع من التنسيق العملياتي ضمن غرف عمليات الجيش الأمريكي، مع مكونات القيادة المركزية للجيش الأمريكي في الشرق الأوسط، على غرار المملكة السعودية.
سيؤدي الوصول إلى جولة قتال في الإقليم ما بين محور المقاومة و”إسرائيل” إلى إخضاع الأوراق لدى كل طرف أمام الاختبار الفعلي والجدي، وبناءً على نجاعتها سيتحدد مصير كل استراتيجية، فسيناريو نجاح الدفاعات المشتركة الحليفة للولايات المتحدة في إحباط أي فاعلية للقدرات الصاروخية وقدرات الإطلاق الهجومية لمحور المقاومة سيعطي دفعة كبيرة جدًا لمشروع الحلف الدفاعي الأمريكي في الشرق الأوسط، ويعزِّز من فرص مأسسته وتشكله بقيادة “إسرائيل”، ليحل محل الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة بعد إتمام عملية إعادة التموضع خارج الشرق الأوسط، وسيحفز الدول العربية للمراهنة على إمكانية أن يُشكل مثل هذا المشروع حمايةً حقيقيةً لها من التهديدات المُفترضة لإيران وحلفائها في المنطقة.
على الجانب الآخر، فإن نجاح هجوم إيران والقوى الحليفة لها ضمن محور المقاومة في توجيه ضربة مؤثرة للمواقع والمستوطنات الإسرائيلية متجاوزةً الاستنفار والقدرات الدفاعية الأمريكية والإسرائيلية والحليفة في المنطقة، ونجاح الجبهات المتعددة في التكامل ضمن عملية الهجوم والاشتباك، سيُشكلان دليلًا على فشل الرهان على خيار التحالف الدفاعي في الولايات المتحدة، وسيزيدان من مخاوف الدول العربية من الانخراط بدرجة أوسع في هذا المشروع.
كما سيسهمان في إبعاد فرص التطبيع السعودي-الإسرائيلي على المستوى المنظور، وسيعززان من أسهم الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة وواقعية وفعالية خيار “وحدة الجبهات” في مواجهة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، والقدرة على توجيه ضربات مؤثرة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، كما سيفتحان الباب مشرعًا أمام تعزيز ثقة كل من الصين وروسيا في جدوى الاستثمار في العلاقة مع إيران واستثمار نفوذها في الشرق الأوسط في مواجهة النفوذ الأمريكي.