لم يكن هناك شك بأن العلاقات التركية الأمريكية دخلت في مسار من الأزمات منذ قدوم دونالد ترامب إلى الرئاسة، حيث شهدت العلاقات أزمة بمعدل كل شهر منذ شهر أبريل/نيسان 2017، وحدثت حالة انهيار في الثقة بين البلدين، وكان هناك قضايا كبيرة تشكل تهديدات لتركيا مثل دعم واشنطن لوحدات حماية الشعب والعلاقة مع تنظيم غولن ورفض تسليم زعيم التنظيم لتركيا بذرائع مختلفة، ثم توالت الأزمات من أزمة التأشيرات وأزمة محاكمة رضا صراف والموقف التركي من قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس والوقوف في موقف مختلف من أزمة قطر، وكذلك الحال مع استفتاء إقليم شمال العراق.
وفي 30 من مايو/أيار أي قبل 10 أيام تقريبًا لاحت بوادر أزمة جديدة بين أنقرة وواشنطن بشأن التراجع المحتمل عن تسليم صفقة طائرات “إف 35” اشترتها أنقرة من الولايات المتحدة، وقال يومها وزير الخارجية التركي: “تركيا ليست دولة منعدمة الخيارات والبدائل، يمكن أن نحصل على الطائرات من روسيا أو من إحدى دول الناتو”.
يبدو أن اتفاق منبج مع واشنطن لا يقتصر على منبج، فهو يشمل تدخلًا تركيًا في العراق أيضًا وتحديدًا السيطرة على منطقة قنديل
ولكن ما حدث بعد ذلك بأيام قليلة كان أشبه بحالة استدراك قبل وصول الأمور إلى نقطة اللاعودة، فقد حدث تسارع كبير في الاتفاق على انسحاب وحدات حماية الشعب من منبج التي تعهدت إدارة أوباما بانسحابهم منها بعد إخراج تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لكن الولايات المتحدة ماطلت في ذلك بشكل كبير مما حذا بتركيا للتعاون مع روسيا لتأمين نفسها مما تراه تهديدًا لأمنها القومي، وقد أثمر ذلك في درع الفرات وغصن الزيتون.
ويبدو أن اتفاق منبج مع واشنطن لا يقتصر على منبج، فهو يشمل تدخلًا تركيًا في العراق أيضًا وتحديدًا السيطرة على منطقة قنديل، حيث أعلن رئيس الوزراء التركي أول أمس أن تركيا بدأت انتشارًا على عمق 30 كيلومترًا وبمساحة 300 كيلومتر مربع شمال العراق مع الاقتراب من قنديل وسنجار، ويبدو أن الولايات المتحدة قرأت احتمالات التحول التركي إلى روسيا بشكل أكثر جدية هذه المرة، وكذلك حال العزم التركي على القيام بخطوات عملية في شمال سوريا وشمال العراق، وقد كان هناك خشية من مواجهة مباشرة في سوريا أو طرد القوات الأمريكية من قاعدة إنجرليك حيث لوحت تركيا بهذا عدة مرات، ولهذا كانت الدوافع نحو تخفيف غضب تركيا ومنع قيامها من خطوة قد تضر مصالح واشنطن متوفرة.
وقد رشحت معلومات أن واشنطن كانت مرنة في الاتفاق، حيث قبلت اعتراض تركيا على المدة من 6 أشهر إلى 3 أشهر للانسحاب الكامل من منبج، كما اعترض الوفد التركي أيضًا على عبارة في الاتفاق التركي الأمريكي وهي “التوافق مع المؤسسات والقانون الداخلي الأمريكي” وحذفت هذه الصياغة بعد ضغط تركي.
يعد الاتفاق مفيدًا لتركيا، حيث يريح انسحاب وحدات الحماية من منبج تركيا فلن يكون لهم وجود غرب الفرات وتحديدًا بعد تطهير عفرين
وينقسم الاتفاق على منبج إلى 3 مراحل، المرحلة الأولى تبدأ بانسحاب عناصر وحدات حماية الشعب الكردية، ثم خلال 45 يومًا تراقب المدينة من قوات تركية وأمريكية عسكرية واستخبارية، وبعد 60 يومًا يبدأ تشكيل مجالس لإدارة المدينة، ومن العلم كانت منبج أزمة مستمرة بين تركيا والولايات المتحدة منذ عهد أوباما الذي أخل بتعهداته بانسحاب وحدات الحماية بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وتعلقت بعد إقالة تلرسون في مارس الماضي.
ويعد الاتفاق مفيدًا لتركيا حيث يريح انسحاب وحدات الحماية من منبج تركيا، فلن يكون لهم وجود غرب الفرات وتحديدًا بعد تطهير عفرين، أما الأمر الثاني فيوفر الاتفاق لتركيا فرصة للعمل على إنهاء المعقل التاريخي لحزب العمال من قنديل وقطع طرق إمداداته إلى تركيا والأكراد في شمال سوريا، كما أن تركيا ستعيد فوائدها الاقتصادية مع شمال العراق بعد أن شكلت إيران البديل لاغتنام هذه الفرصة خاصة في قطاع النفط.
لقد تخلت واشنطن عن حلفائها الأكراد مرة أخرى في منبج كما تخلت في عفرين، ولكن من المهم الإشارة إلى أنه لم تكن عفرين أو منبج تشكل أهمية إستراتيجية لواشنطن، ولكنها مقابل هذا ستحافظ على وجود دائم للقوات الكردية غرب الفرات وسوف تحميها هناك، كما أن الوجود العسكري الفرنسي في حالة تزايد.
إن الانسحاب من منبج أمر مهم جدًا لتركيا على المدى البعيد، فهو ينهي أي محاولات لإنشاء كيانات عازلة لتركيا عن المحيط العربي مستقبلًا
يبدو من الواضح أن واشنطن رأت عند هذه النقطة أنها لا بد أن تقدم لتركيا شيئًا حتى تخفف من سرعة توجهها نحو روسيا، فقد شعرت واشنطن بخطر فقد تركيا، وقال وزير الدفاع الأمريكي إن تركيا تعد جبهة متقدمة للناتو، وهو تصريح لم يكن يتردد في العام الأخير، ومن جانب آخر يبدو بالنسبة لكل من واشنطن وموسكو أن وجود تركيا في شمال سوريا أحسن من وجود إيران.
إن الانسحاب من منبج أمر مهم جدًا لتركيا على المدى البعيد، فهو ينهي أي محاولات لإنشاء كيانات عازلة لتركيا عن المحيط العربي مستقبلًا، أما على المدى القريب فإن الانسحاب من منبج في هذه الفترة مهم جدًا للرئيس أردوغان وحزبه، وهو بمثابة انتصار دبلوماسي يمكن أن يوظف في الانتخابات كانتصار سياسي، وختامًا لا يعني اتفاق منبج انتهاء التوتر في العلاقات التركية الامريكية لكنها خطوة إيجابية في تهدئة التوتر.