ترجمة: حفصة جودة
هناك حكومة غير مرئية تتولى مهمة الحكم الحقيقي للأنظمة التي تصف نفسها بالديمقراطية، تبرع تلك الحكومة السرية في تنظيم الجماهير من خلال إستراتيجيات غير مرئية لا تستطيع الجماهير ملاحظة وجودها، استطاعت تلك الحكومة اختراق النظام الديمقراطي بشكل فعّال للغاية، واستطاعت التلاعب بالجماهير بشكل جيد جدًا بحيث تجعلهم يظنون أنهم من يحسمون القرار بأنفسهم، عُرفت تلك الحكومة في علم الاقتصاد السلوكي بـ”هندسة الجماهير” أو “صناعة الموافقة بالإجماع”.
تصنع الجماهير أو عامة الشعب قرارهم من خلال المعلومات المتاحة لها، ولكن ماذا لو تمت السيطرة على المعلومات المتاحة للعامة؟ ربما يكمن هنا الفرق بين النظام الديكتاتوري والنظام الديمقراطي، إذ إن في الأول يتم السيطرة على الجماهير بالقوة والعنف، أما في الأخير الذي لا يظهر فيه أي مظاهر قسرية للسيطرة على العامة، كان الحل الوحيد السيطرة عليهم من خلال الطريقة التي يفكرون بها، وذلك من خلال السيطرة على المعلومات التي يستخدمونها لصنع قرارهم.
هناك جزء من الدماغ البشري لا يعبر عن نفسه ولا عن وجوده وطريقة عمله بشكل واضح للإنسان ومن حوله، هذا الجزء من الدماغ هو اللاوعي، الذي لا يعبر عن نفسه باستخدام اللغة أو الحركة، وهو ما دفع كثير من علماء النفس لوصف الإنسان بأنه كائن غير عقلاني بخصوص الأسباب التي تدفعه لفعل ما يفعله، في سياق آخر يعني هذا الكلام أن الإنسان لا يكون عقلانيًا بشكل كامل حينما يتخذ القرارات التي تكون جزءًا مهمًا منها القرارات الاقتصادية.
استغل ذلك رجل من أهم المؤثرين في علم الاقتصاد السلوكي قبل حتى أن يوجد هذا العلم بشكل معترف به في علوم الاقتصاد، هذا الرجل هو إدوارد بيرنيز الأب الروحي للعلاقات العامة أو في سياق آخر الأب الروحي للبروباجندا.
إدوارد بيرنيز هو من ساعد شركات التبغ على تحقيق مليارات من الأرباح من خلال بيعها للنساء بعدما كانت حكرًا على الرجال وذلك بعدما وصف السجائر بأنها مشاعل حرية النساء أمام الرجال
يعتبر إدوارد بيرنيز أن “هندسة الجماهير” واحدة من أهم خصائص المجتمع الديمقراطي، وذلك لأنها إحدى الوسائل المهمة التي تجعل الحكومات تسيطر على الجماهير وتجعل منهم أداة لتنفيذ ما توده الحكومة نفسها دون إرادة أو وعي منهم، كما نجح مبدأ بيرنيز في كونه السبب الأساسي في تحريك النساء للتدخين من أجل زعمهم الحرية أو المساواة مع الرجال بينما في الواقع هو يساعد شركات التبغ على ربح الأموال، طبقت الأنظمة الديمقراطية المبدأ نفسه على الجماهير لتجعلها تنفذ في النهاية ما ترغب به الحكومة في المقام الأول والأخير.
“هندسة الجماهير”.. فن الإقناع والإغراء
أمر إدوارد بيرنيز بنشر إعلانات تتضمن مشاهد للنساء وهي تدخن لنشر فكرة تدخين المرأة لزيادة مبيعات شركات التبغ
يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في حديثه عن هندسة الجماهير “إن أردنا فهم أي مجتمع من المجتمعات حول العالم، علينا أن نتتبع هؤلاء المتحكمين في عملية اتخاذ القرار لنعرف الطريقة التي يعمل بها هذا المجتمع”.
تتحكم شبكات معينة في عملية اتخاذ القرار لكل مجتمع بالإضافة إلى تحكمها في وسائل الإنتاج وطريقة توزيعه، تكون شركات الاستثمار الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الضخمة ورجال الأعمال جزءًا مهمًا من السلطة التنفيذية وبالتالي يشغلون حيزًا مهمًا من الحكومة ولهذا يكون لهم رأيًا مهمًا في عملية اتخاذ القرار الذي يخدم مصلحتهم في النهاية في كل من النظام السياسي والاقتصادي والأيديولوجي.
كانت أفكار بيرنيز حجر الأساس في تحويل ثقافة الولايات المتحدة بشكل خاص، والعالم بشكل أوسع وأكثر شمولية، من ثقافة مستهلكة بناءً على حاجات البشر، إلى ثقافة مستهلكة بناءً على استغلال رغباتهم
إدوارد بيرنيز الأب الروحي للبروباجندا
بالنسبة للمفكر نعوم تشومسكي فإن الجماهير تنقسم إلى فئتين، الفئة الأولى تمثل 20% من المجتمع وهي الفئة المتعلمة مالكة الثروات التي لها دورًا جذريًا في اتخاذ القرار، بينما تُمثل الفئة الأخرى نحو 80% من المجتمع وهي الفئة التي من المفترض لها اتباع الأوامر دون التفكير فيها أو دون الانتباه إلى صيغة هذه الأوامر أو إلى أهدافها، يجب عليها الطاعة دون أسئلة.
تكون الصحافة والإعلام بشكل عام جزءًا من الفئة التي تُمثل 20% من المجتمع، وهي المسؤولة عن وضع الأجندة العامة التي يتبعها العامة ويستلهمون منها معلوماتهم التي يستخدمونها فيما بعد لاتخاذ القرارات، يقول المفكر “تشومسكي” إن الصحافة العالمية تصنع التاريخ بشكل أو بآخر وتكتبه بالطريقة التي تخدم فيها مصالحها، حيث يحتوي أرشيف الصحف الكبرى والأكثر أهمية في العالم مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” على المعلومات التي تخدم مصالح المتحكمين فيها فحسب وليس التاريخ بشكله الدقيق أو الحقيقي.
الإعلانات.. وسيلة النخبة للسيطرة على العامة
يرى المواطن العادي آلاف الإعلانات التجارية بشكل يومي، حتى إن كان يراها بشكل غير واعٍ في الحافلات العامة أو محطات المترو أو على منصات التواصل الاجتماعي أو حينما يمر بشكل طبيعي في الشارع، استطاع إدوارد بيرنيز استخدام كل الوسائل التجارية الممكنة، أهمها البروباجندا الإعلامية، للوصول إلى عقل الإنسان اللاواعي ليوجهه لخدمة المصلحة التجارية لموفري تلك الإعلانات في كل مكان.
كانت الحرب العالمية الأولى أولى علامات التأثير على العقل اللاواعي للجماهير لتحريكهم في اتجاه معين، وهو في هذه الحالة قرار الحرب والتطوع في الجيش
استخدم إدوارد بيرنيز كل الوسائل الإعلامية ليحيط الجماهير بالمنتجات التي يود أن تذهب تلك الجماهير لشرائها، حيث تواصل مع مخرجي أفلام هوليوود وطلب منهم استخدام تلك المنتجات في أثناء تصويرهم للمشاهد مثل استخدام السجائر في يد الممثلات في أثناء تصويرهم مشهد ما، أو استخدام البيانو في غرف الموسيقى التي حاول بيرنيز زيادة مبيعاتها بعد أن عينته الشركات لفعل ذلك، وبالفعل نجح الأخير في زيادة مبيعات أغلب الشركات التي عينته باستخدامه وسائل البروباجندا المختلفة من صحافة وتليفزيون إلى الراديو والسينما.
يمكن للتأثير غير المباشر على الجماهير أن يوجههم إلى طريق معين لم يختاروه بأنفسهم في المقام الأول ولم يكونوا واعين بشكل كامل في أثناء اختيارهم، ذلك يحدث في أثناء التصويت في انتخابات ما أو شراء منتج ما أو محاولة تفضيل نظام على نظام آخر أو اتباع أفكار شخص ما مقارنة بآخر، يعتقد أغلبية الجماهير أنهم اختاروا قرارهم دون تدخل من عوامل خارجية في إطار نظام ديمقراطي يحترم آراءهم، إلا أن بيرنيز الأب الروحي للبروباجندا يرى أنهم لم يكونوا حرين بشكل كافٍ في اختيار هذا القرار وأنه تم التلاعب بهم واللاوعي الخاص بهم لتوجيههم لاختيار ذلك القرار على كل حال.
لم تكن البروباجندا أكثر تأثيرًا وأكثر إقناعًا وأكثر خطرًا قبل الآن، لا تعني البروباجندا هنا محاولة سيطرة نظام ديكتاتوري على شعبه كما هو الحال في كوريا الشمالية مثلًا، وإنما تعني البروباجندا التجارية التي تستخدمها السلطة لـ”هندسة الجماهير” في توجيههم لاتخاذ قرارات اقتصادية تخدم في الأصل مصلحة صانعي القرار أكثر من مصلحة العامة أنفسهم، وهذا يُفسر كثيرًا من الكوارث المالية التي تعرض لها العالم مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008 حينما وجدت بعض البنوك الأمريكية نفسها في حالة إفلاس.