في مثل هذه الأيام قبل 11 عامًا، لم يعد اسم “رابعة” عند العرب يقتصر على تسمية أو دلالة عددية، بل صار هوية وجع شجي على دماء مصرية أُهدرت على أرض مصرية، فقُتل المئات، وأكلت الحرائق جثث بعضهم، فيما انقسم المجتمع المصري على نفسه بشكل غير مسبوق، وسكت القضاء المصري عن عملية قتل جماعي ربما تصل إلى مصافّ الجرائم ضد الإنسانية.
رغم حجم الأحداث الدموية التي لا تغادر ذاكرة المصريين، لم تكن مذبحة رابعة وغيرها من المذابح التي ارتكبها نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، سوى الدرجة الأولى في سلّم طموحاته إلى السلطة، لكن ما يظل محيرًا بالنسبة إلى الكثيرين هو لماذا حدث ذلك؟ ولماذا شعر الجنرال المنقلب بأنه ملزم بإطلاق العنان لهذه الموجة من القتل ضد مواطنيه؟
مجازر حسب الطلب
جرائم الديكتاتورية والاستبداد ضد المواطنين المدنيين قديمة قدم البشرية، ويمكن إرجاع المجازر وعمليات القتل الجماعي التي دبّرها الحكام ضد شعوبهم إلى بدايات التاريخ، ولم يكن العالم العربي استثناءً في هذا الصدد.
في مصر، كشفت شهادات عديدة خلال السنوات التالية أسرار وكواليس القرارات الدموية التي اتخذها وزير الدفاع وقتها عبد الفتاح السيسي للوصول إلى السلطة، والتي ظهر فيما بعد أنها تمّت وفق خطة بدقّة وعناية، أو ما سمّاها خارطة طريق انتهت به في نهاية المطاف مكان الرئيس الذي قام بعزله.
بدأ الجنرال المنقلب التجهيز لخطته الدموية مع اللحظات الأولى لانقلابه على السلطة، حينما سارع باعتقال عشرات القادة المعارضين إلى جانب غلق القنوات المؤيدة للرئيس، لكن الأخطر كان منحه الضوء الأخضر لقوات الجيش والشرطة في فضّ التجمعات السلمية باستخدام القوة المفرطة، إلى جانب استعانتها بالبلطجية في أماكن عديدة، ما أسقط عددًا من القتلى والجرحى، حيث خلّف عنف الدولة أكثر من 3 آلاف و200 قتيل خلال الأشهر السبعة الأولى بعد انقلاب السيسي.
لم يكتفِ السيسي بذلك، بل أطلق أذرعه الإعلامية في التحريض على استهداف المعارضين وقتلهم، وعملت وسائل الدعاية الموالية للسلطة الجديدة على ضخّ مكثف لتشويه الحشد وشيطنته، ونسج روايات وأكاذيب مثل وجود أسلحة ثقيلة فيه، ولم تتحرج من كلام مرسل للنيل من المعتصمين أخلاقيًا ووطنيًا، ومن ثم إنسانيًا، فأخرجتهم من دائرة البشر في ذهن المتلقين لتقبُّل قتلهم، وهو السيناريو الذي حدث في التحريض على الضحايا خلال المجازر التي اُرتكبت في دول أخرى مثل رواندا والبوسنة.
ولأن النخب السياسية أكثر ميلًا إلى اللجوء للعنف كأداة لمنع التهديدات للنظام أو لتعزيز مكانتها المحلية، تعلّلَ السيسي ومعه فريق من المعارضة بتظاهرات عارمة خرجت ضد الرئيس محمد مرسي، ليمهّد الجو العام لتقبُّل إراقة دماء مجموعة أخرى من المصريين، ومن ثم ارتكب العديد من المجازر التي راح ضحيتها مئات الأشخاص معظمهم من معارضي الانقلاب.
وفي فجر 8 يونيو/ حزيران 2013، نفّذت قوات الجيش أول مجازرها بحقّ المعتصمين السلميين في وجه خارطة السيسي وطموحه السياسي، إذ هاجمتهم بلا هوادة أثناء صلاتهم بالقرب من مقر الحرس الجمهوري، لتوقع منهم عشرات القتلى والجرحى.
كانت المجزرة الأولى تدريبًا للقوات على طريقة الفضّ، وتمهيدًا لاستساغة الدماء المصرية وتبريرها لدى مؤيدي السلطة الجديدة، وبينما كان السيسي يمهّد للمجزرة، وقف وحده حجر عثرة أمام الوصول إلى أي اتفاق يمكن أن يقود إلى حلّ الأزمة السياسية.
أدرك السيسي أن تراجعه خطوة واحدة للخلف قد يعني نهايته، وهو ما دفعه إلى رفض كافة جهود الوساطة التي طرحتها أطراف داخلية وخارجية في السعي نحو تجنُّب المجزرة، وتحرك بدعم إماراتي لإفشال كافة المبادرات بهدف الوصول إلى نقطة اللاعودة، حيث يقبض وحده على السلطة كي يشرع في تنفيذ خطته الدموية التي سعت لاستئصال جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها أكبر تهديد لنظامه الجديد، ويفسّر ذلك طلبه الحصول على تفويض لمواجهة الإرهاب الذي كان محتملًا.
كان مجرد تخيُّل إنهاء الاعتصام بقوة مفزعًا، ويحيل إلى مجزرة السماء الرهيبة في بكين (احتجاجات ميدان تيانانمن) قبل 35 عامًا، ومع ذلك لم يمرّ وقتًا طويلًا حتى انكشفت حقيقة الجنرال المتعطش للدماء حين وقعت المجزرة الكبرى في صبيحة 14 أغسطس/ آب، وانطلق الرصاص من أسلحة القناصة نحو رؤوس المعتصمين وصدورهم العارية دون تفريق بين رجل وامرأة أو طفل وشيخ.
وبعد ساعات قليلة، امتلأت المستشفى الميداني بالجثث التي أحصت منظمة هيومان رايتس ووتش 817 جثة منها، واعترف رئيس الوزراء وقتها، حازم الببلاوي، بأن عدد الضحايا يقترب من 1000 قتيل، فيما توصف بأكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث.
كان العنف أكبر من أن يُوصف بالمفرط، وكانت الدماء في كل مكان، وكان عدد الضحايا مساويًا تقريبًا لإجمالي عدد القتلى خلال حملة القمع في التسعينيات في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، لكن المأساة لم تنتهِ عند هذا الحد، إذ أحرقت قوات الأمن عشرات الجثث في الخيام، كما هاجمت المستشفى الميداني، وأجبرت من تبقى من المعتصمين على ترك المصابين الذين رفضت إسعافهم، وفضلت إهمالهم حتى الموت.
لم تكن هذه المجزرة الوحيدة التي استهلَّ بها السيسي طريقه إلى قصر الاتحادية، فمنذ إطاحته بأول رئيس مدني منتخَب في يوليو/ تموز 2013، ارتكبت المؤسسة العسكرية الكثير من المجازر من دون أي تحقيق أو محاسبة، وحتى الرياضة لم تسلم من المجازر، مثل مجزرة الدفاع الجوي التي راح ضحيتها 20 مشجعًا من نادي الزمالك، عندما أطلقت قوات الشرطة الخرطوش وقنابل الغاز عليهم في 8 فبراير/ شباط 2015.
وتشير كل الدلائل إلى أن نظام السيسي لم يهدف من وراء هذه المجازر، وتحديدًا فضّ اعتصام رابعة، إلى مجرد إخلاء الميدان من المتظاهرين، إذ كان يسهل تحقيق ذلك بأقل القليل من العنف المستخدم، لكنه أراد أن يصنع حالة من الرعب تستقر في نفوس المصريين، بحيث تجعلهم يعيدون التفكير مرات ومرات بهدف تجنُّب تكرار سيناريو يناير مرة أخرى.
كان حجم سفك الدماء في رابعة والمذابح التي أعقبت الانقلاب بمثابة رسالة واضحة من الجنرالات إلى المصريين، مفادها أن “العمل الجماعي المستقل غير مرحّب به ولا يجوز”، وفي حين شهدت البلاد أكثر من 4 آلاف و500 احتجاج في الأشهر الستة الأولى من عام 2013 (أي التي سبقت الانقلاب)، انخفض هذا العدد إلى 665 خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام.
أكمل السيسي خطته جنبًا إلى جنب مع قمع دموي وسحق أمني وقضائي لكل معارض، واستمر التشويه والتشفّي بالموتى بعد موتهم، وانقضت معهم ما كانت تبدو مسلّمات تُنسب إلى مجتمع لطالما تغنّى بتكاتفه وتديُّنه، وتقبّل مصريون قتل مصريين آخرين، وشاهدوا جيشهم يقتل جموعًا منهم، وارتضوا الأمر بل هلّل بعض منهم، وعادت مصر إلى عهد بوليسي يبدو معه أداء الرئيس المخلوع حسني مبارك “تحرريًا”.
الموت على يد النظام
من أجل الوصول إلى السلطة أو التشبُّث بها، ارتكبت الأنظمة العربية جرائم لا حصر لها ضد شعوبها على مدى العقود الماضية، وتُلاحَظ عمليات القتل في المقام الأول في البلدان التي تفتقر إلى الضوابط الدستورية التي تحدّ من السلطة السياسية للحاكم.
لا يختلف ما حدث في مصر السيسي عمّا حدث في سوريا في زمن الأسد الأب وابنه، فكلاهما أسّس حكمه على أنشطة الإبادة الجماعية لكسب ودّ الأغلبية وتعبئة الدعم الانتخابي، وبالتالي دفعت المشاركة السياسية الجماهيرية هؤلاء إلى الانخراط في القمع لحشد الدعم الانتخابي.
وكما هو الحال مع النظام المصري، بدأ بطش النظام السوري منذ استيلاء الرئيس السابق والأمين العام لحزب البعث حافظ الأسد على السلطة، ليؤسّس بعدها عددًا من الأجهزة الاستخباراتية مثل المخابرات العسكرية والجوية وأمن الدولة وغيرها، ومن ثم عدّل الدستور عام 1973، الذي أعطى صلاحيات واسعة له ولحزب البعث، ونصّت المادة الثامنة فيه على أن “حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع”، ما حوّل الدولة إلى دولة الحزب الواحد والأوحد.
مع اشتداد وتيرة الحرب الأهلية اللبنانية، سارع حافظ الأسد للتدخل في لبنان ليتحول إلى “جزار سوريا ولبنان”، فخلال عام 1980 ارتكب الأسد سلسلة مجازر في سوريا، كلها بحجّة جماعة الإخوان المسلمين، وبدأها بـ”مجزرة جسر الشغور”، حيث شهدت المدينة احتجاجات واسعة مطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية، تخللها تواجد لبعض التابعين لجماعة الإخوان، ما أعطى الحجّة للأسد للتدخل.
في 9 مارس/ آذار عام 1980، حاصرت قواته المدينة بالكامل وقذفها بالصواريخ وقذائف الهاون، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المدنيين، وعقب نهاية المجزرة أُصدرت أوامر بإعدام أكثر من 100 معتقل من أبناء المدينة بتهمة الانتساب لجماعة الإخوان. وفي العام نفسه نفّذ مجزرته الشهيرة في سجن تدمر، وذلك على خلفية محاولة اغتياله الفاشلة، لينتقم بقتل مئات السجناء بإعدام ميداني دون محاكمة.
وفي حلب، سجّل العام ذاته أيضًا مجزرة للأسد الأب، ففي أول أيام عيد الأضحى داهمت القوات الخاصة حي المشارقة بحلب، واقتادت عشرات المدنيين إلى مقبرة لتطلق عليهم النار، وأوقعت أكثر من 100 قتيل، ثم دفنتهم بمقبرة جماعية بمكان تنفيذ المجزرة. عقب ذلك بيوم، سيطرت الفرقة المدرّعة الثالثة على مدينة حلب بالكامل، وداهمت حي بستان القصر، لتعتقل أكثر من 35 مدنيًا، وتنفّذ مجزرة بحقهم أمام أعين أهالي الحي.
وعقب ذلك بعامين، نفّذ الأسد المجزرة الأكبر والأكثر دموية ووحشية بتاريخه، ففي فجر 2 فبراير/ شباط 1982، استيقظ أهالي مدينة حماة على أصوات قصف الجيش السوري للمساجد والبيوت والأحياء الشعبية، ليدركوا بعدها أن مدينتهم باتت محاصرة من قبل قوات سرايا الدفاع الخاضعة لقيادة العقيد رفعت الأسد شقيق الرئيس آنذاك، وبجانب كتائب مختارة من القوات الخاصة التي كان يقودها اللواء علي حيدر، حيث حوصرت المدينة وقُطعت أخبارها بذريعة القضاء على الجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين، الذي أُطلق عليه “الطليعة المقاتلة”، وفي هذه الحالة كان لدى الأسد الدافع للمشاركة في عمليات قتل جماعي لقمع المعارضين السياسيين.
وبمجرد انتهاء القصف، اجتاح المشاة والدبابات المدينة، وبدأوا بتمشيط الأحياء السكنية لتنفيذ حملة اعتقالات جماعية استهدفت المدنيين السلميين، ووصلت أهوال مجزرة حماة التي أرعبت المدينة وأغرقتها بحمّامات الدماء وصلت حدّ المساس بالأطفال والنساء، حيث انتهكت حرمات البيوت، ونفّذت جرائم ضد الإنسانية بأصحابها.
بحسب تقديرات اللجنة السورية لحقوق الإنسان، قُتل 40 ألف مدني، وفُقد 15 ألفًا، وهُجِّر الآلاف من أهالي المدينة، بينما حرص النظام السوري على طمس معالم جرائمه في حماة، وسلط وسائل إعلامه لفرض تعتيم إعلامي، لتُكتم مجزرة حماة، ولم يُسمع عنها سوى همسًا، ووضع نظام الأسد يده على سوريا بالحديد والنار محاولًا ترويض الشعب بأسره.
أما في لبنان، فتفنّن الأسد بقتل اللبنانيين، ومع المجازر التي ارتكبها على مدار سنوات قام بسلسلة من التفجيرات عام 1983، استهدفت قوات أمريكية وفرنسية، وحتى قوات لبنانية من مختلف الأطراف.
كما نفّذ سلسلة اغتيالات بحقّ شخصيات بارزة، كان أبرزها الرئيس اللبناني بشير جميل، ليبقى الديكتاتور الأب في ذاكرة اللبنانيين والسوريين معًا لمدة 30 عامًا في الحكم، وبدلًا من تسجيل الإنجازات سجّل عشرات المجازر بحقّ السوريين، وخسائر متتالية لصالح “إسرائيل”، وورّث الحكم لابنه بشار الذي استمر على نهجه القمعي والدموي.
خلال عقد من الزمان، في عهد بشار الأسد، قُتل أكثر من نصف مليون شخص، وكثير منهم بسبب البراميل المتفجرة التي ألقاها النظام وحلفاؤه على الأحياء، كما جُرح وتشرد الملايين، بينما أخفى النظام قسرًا آلاف السوريين، ليتجاوز إرهاب بشار الأسد إرهاب والده وعمّه.
آلة القتل العربية
وفقًا لمقال سابق للخبير في شؤون السياسة في الشرق الأوسط خليل العناني، يفوق عدد ضحايا القمع في العالم العربي جميع ضحايا كل الصراعات الأجنبية التي خاضتها الدول العربية الحديثة منذ نشأتها على مدار القرن الماضي، أي أن الأنظمة العربية تقتل مواطنيها أكثر ممّا يفعل العدو الخارجي.
ويكشف أي إحصاء سريع لضحايا الأنظمة العربية التي وصلت إلى السلطة بعد الاستقلال عن مدى العنف الذي ألحقته الدول العربية بشعبها، وتحولها من جهاز بيروقراطي يخدم شعبها إلى آلة قتل ترتكب أعمال عنف تحت ستار الشرعية.
وفي وقت كان فيه رئيس النظام السوري يستحوذ على اهتمام عالمي، وهو يرتكب مجازر مروعة بحقّ شعبه، كان هناك قاتل جماعي آخر في السودان لا يزال بعيدًا عن الأضواء، وهو الرئيس السابق عمر البشير الذي واصل حكمه لعقود من الزمان بالإرهاب ضد شعبه، وارتكب نظامه مذابح مروعة في دارفور وأماكن أخرى، وكان مسؤولًا عن تقسيم البلاد واستنزاف ثرواتها، ولم تمنعه أوامر الاعتقال الدولية من ذلك على الإطلاق.
وجاء من بعد البشير جنرالان متعطشان للنفوذ والدماء: رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، اللذان طفا الخلاف بينهما على السطح، وبدأ كل منهما بحشد قواته وإصدار البيانات، وتحول الصراع بينهما إلى اشتباكات مسلحة، وازداد عنفًا وسط حرب نفسية يخوضها الرجلان، ويزعم كلاهما السيطرة على البلاد، ولكل منهما جيش يحميه ودول تدعمه.
وبين الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي والجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان زمالة سلاح وطموح للتربُّع على عرش السودان، ورابعة نار مكررة تقول لثوار الحرية: “لا حرية لكم إلا في أجواف القبور”، وبين العسكريين خطاب يقول: “الحرية تعني الخيانة، والديمقراطية تعني الفوضى، والشريعة تعني الإرهاب، والعلمانية تعني الكفر، والليبرالية تعني التفلت”.
وفي العراق، تصرّف صدام حسين على نحو مماثل في مجازره ضد المسلمين الشيعة والأكراد، بما في ذلك المجزرة التي وقعت في المرحلة الأخيرة من الحرب العراقية الإيرانية، على خلفية سيطرة قوات الاتحاد الوطني الكردستاني على حلبجة بدعم من إيران، عندما قصفت القوات العراقية المنطقة بالأسلحة الكيماوية لمدة 5 ساعات في 16 مارس/ آذار عام 1988، ما أودى بحياة نحو 5 آلاف إنسان منهم عائلات بأكملها وبينهم أطفال رضع وفتيان ونساء ورجال شيوخ، حصد الغاز السام المميت أرواحهم بلا تمييز.
وفي ليبيا، سعى معمر القذافي للبقاء في السلطة مهما كلّفه ذلك من مذابح، وشهد عهده قصصًا ليست من وحي الخيال، إنما هو واقع من ممارسات نظامه ضد معارضيه، من بينها ما شهدته المذبحة سيّئة السمعة في سجن أبو سليم، أحد أسوأ السجون الليبية سمعة، وأكثرها رعبًا وعنفًا، والكابوس الحقيقي لسجناء الرأي والسياسيين، الذي أُطلق عليهم اسم “سجن الرعب”.
في يونيو/ حزيران عام 1996، نظّم السجناء احتجاجًا كبيرًا على الأوضاع القاسية في السجن، وانتهت مفاوضات مسؤول الاستخبارات آنذاك عبد الله السنوسي معهم إلى نقلهم من عنابرهم إلى ساحة السجن مقيدي اليدَين ومعصوبي العينَين، وفُتحت نيران الأسلحة الرشاشة عليهم لمدة ساعة كاملة، تبع ذلك عمليات تصفية استمرت ليومَين، وخلفت في النهاية 1200 من السجناء قُتلوا بدم بارد، ولم يُعثر لهم على رفات، وسط تكتُّم كبير ورعب من غضب شعبي أشعل فتيل ثورة 17 فبراير/ شباط 2011 التي أطاحت بنظام معمر القذافي.
وفي الجزائر، اندلعت الأحداث بداية تسعينيات القرن الماضي، عقب إلغاء فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات برلمانية تعددية في تاريخ البلاد، فيما بدا وقتها نهاية حكم الحزب الواحد الذي ظلّ مهيمنًا على المشهد السياسي الوطني منذ الاستقلال عام 1962، وأجبر الجيش الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة، ودخلت البلاد في أتون عنف دام عقد من الزمن، اُصطلح على تسميته في الجزائر بـ”العشرية السوداء”.
يصف الضابط السابق في القوات الخاصة للجيش الجزائري حبيب سويدية ذلك، في كتابه “الحرب القذرة”، بقوله: “رأيت زملاء لي يحرقون طفلًا في الخامسة عشرة من عمره حيًا، رأيت عسكريين يذبحون مدنيين وينسبون هذه الجرائم إلى الإرهابيين، رأيت عقلاء يقتلون أشخاصًا بدم بارد لمجرد الشبهة، رأيت ضباطًا يعذبون إسلاميين حتى الموت”.
رغم كل هذا، يعيش من تبقى من جزَّاري هذه المجازر التي اُرتكبت بحقّ مواطنين أبرياء إلى يومنا هذا طلقاء دون محاسبة، أما الناجون فما زالوا يستذكرون ويلات وفظائع ما ارتكبه النظام بحقهم وحق عائلاتهم، لكن منذ متى يمكن أن تضيع شرعية النظام إذا قتل عددًا كبيرًا من شعبه؟ فقد كانت كل الأنظمة العربية تقريبًا في العالم العربي ترتكب الجرائم ذاتها لعقود من الزمان.
ففي الأردن، احتفظ الملك حسين بعرشه في عام 1970 عندما ارتكبت قواته مذبحة ضد الفلسطينيين في أيلول الأسود، ولم يخسر حافظ الأسد أو ابنه شرعيتهما العربية عندما سوّيا المدن السورية بالأرض، ولم يتعرّض صدام حسين لعقوبات كبيرة بسبب حملة الإبادة الجماعية ضد الأكراد العراقيين في أواخر الثمانينيات، وردَّ العرب بفتور على وحشية عمر البشير في دارفور في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ووفقًا لعالم السياسة ستيفن سيدمان، تمثل الحكومة التهديد الرئيسي المحتمل لأي مجموعة، لأن الحكومات عادة ما تكون الجهات الفاعلة التي ترتكب الإبادة الجماعية، ويرى سيدمان أن “كل من يسيطر على الحكومة محمي من الإبادة، وأولئك الذين يتم استبعادهم من الحكومة معرضون للتدمير”.
يمكن رؤية ذلك بوضوح في حالة مصر، فقد وفّر السيسي للمشاركين في التخطيط لمجازره والمنفذين لها الحماية والحصانة من المحاسبة، لكنهم استبعدهم واحدًا تلو الآخر من كافة المناصب الرفيعة بعد أشهر من مجزرة رابعة، وأصبح هو المسؤول الأول عن جرائم فضّ رابعة، والمستفيد الأكبر من المجزرة التي كانت طريقه الوحيد للحصول على رتبة مشير، والوصول إلى كرسي الحكم الذي يرفض التزحزح عنه.
اليوم، يرأس السيسي مجتمعًا بلا حواجز: أحزاب معارضة مشلولة، وبرلمان لا يملك سوى التصديق على القرارات، وليس هناك حزب حاكم رسمي، ولا مؤسسات مدنية على الإطلاق تتمتع بسلطات حاكمة، وبدلًا من ذلك تفرض الأجهزة القمعية (الجيش والشرطة وجهاز المخابرات العامة) حكمًا مباشرًا، وتدير المجتمع بشكل يومي.
هوس السلطة
من الجدير أن نسأل لماذا يحكم بعض الحكام من أجل رفاهية مجتمعهم، بينما يسعى آخرون عمدًا إلى سياسات لتدمير شعبهم؟ ومتى ولماذا ينقلب الحكام ضد المدنيين ويضعون سياسات تتسبّب في موت شعبهم؟
في حين أن الأنظمة الديمقراطية نادرًا ما تقتل مواطنيها، انخرطت الأنظمة الديكتاتورية في مجازر وسجن للمواطنين، وبدت هذه الأنظمة، بغض النظر عن نوعها، أكثر ميلًا من أي نظام آخر إلى استهداف شعوبها في المقام الأول، وحتى في القرن العشرين لم يكن التهديد السائد للأمن يتمثل في مرتكبي الحروب بين الدول، بل في الحكومات التي تشنّ هجمات على سكانها المدنيين.
والواقع أن عددًا أكبر من الناس لقوا حتفهم على أيدي دولهم من عدد الذين لقوا حتفهم في حروب أهلية أو دولية، ووفقًا للتقديرات تسبّب القتل الجماعي في ظل الأنظمة الشيوعية في القضاء على أكثر من 110 ملايين شخص خلال فترة (1900-1987)، وكان أكثر من 90% منهم من مواطنيها.
وفي القرن العشرين، قتلت الأنظمة السياسية والحكومات والدول وأشباه الدول والجماعات المسلحة ما يقرب من 170 مليون شخص من مواطنيها المحليين والأجانب، في عمليات إبادة جماعية ومذابح وإعدامات خارج نطاق القضاء وما شابه ذلك، وهو ما يزيد بنحو 4 أمثال عن عدد القتلى في كل الحروب والثورات الدولية والمحلية.
ولفهم أصول المذابح وعمليات القتل الجماعي التي ينظمها الزعماء السياسيون، نركز على الحكام المستبدين الذين يتمثل هدفهم الاستراتيجي في البقاء في السلطة، والذين يستخدمون انعدام الأمن كأداة سياسية لتعزيز مكانتهم السياسية المحلية.
تشمل القائمة المروعة لحالات الإبادة الجماعية والقتل السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين إندونيسيا في عهد سوهارتو عام 1965، وغواتيمالا في عهد ريوس مونت في فترة 1981-1983، والصين في عهد ماو، وكمبوديا في عهد بول بوت، والسودان في عهد عمر البشير، كما أخضع الحكام في كوريا الشمالية مواطنيهم للإعدام الجماعي ومعسكرات العمل القسري.
لكن ما الذي يدفع هؤلاء وغيرهم إلى ذلك؟ الافتراض القائل إن هدف الحاكم هو البقاء في السلطة أمر لا يمكن الاعتراض عليه، فقد كان هدف البلاشفة هو الحفاظ على “ديكتاتورية البروليتاريا” بعد انتصارهم غير المتوقع في ثورة 1917، ويتقاسم كيم يونغ أون في كوريا الشمالية وملالي إيران الهدف نفسه، وقد وصف أحد المقربين وظيفة جوزيف ستالين باختصار: “لم يكن لديه سوى شغف واحد: الرغبة في السلطة”.
وغالبًا ما يُعزى العنف الذي يمارسه الحكام ضد مواطنيهم إلى شخصيات مشوَّهة وأمراض نفسية وأجندة خارجية وجهات أجنبية مشبوهة، ولكن تكرار هذا العنف عبر الزمان والمكان يجعل هذا التفسير غير مرضٍ لأنه يركز على الدوافع الفردية، وليس الدوافع العامة التي تفسر كيف يحافظ الحاكم المستبد على سلطته، من خلال القضاء على المعارضين عن طريق الإعدام أو السجن أو النفي، ولماذا لا يتردد في اضطهاد الأبرياء.
وقد توفر الانقسامات المجتمعية حوافز للحكام لتسييس القضايا من أجل السعي وراء السلطة السياسية. ومن هنا، من المتوقع أن تكون الزعامات السياسية في المجتمعات المنقسمة عرقيًا أكثر ميلًا إلى استهداف الجماعات المدنية، إذ يستطيع الحاكم أن يستخدم الدولة كأداة للسيطرة على شريحة معيّنة وقمعها، من أجل تعبئة عامة الناس على نطاق أوسع.
ومن المثير للاهتمام أن هذا قد يحدث أيضًا في الديمقراطيات، فقد تزيد المشاركة السياسية الجماعية الواسعة في الانتخابات من القدرة التنافسية في الوصول إلى السلطة السياسية، لكنها لن تحمي في حد ذاتها الحريات المدنية والسياسية للفرد، بل على العكس من ذلك، قد تزيد المنافسة الانتخابية من احتمال استهداف المدنيين من قبل حكومتهم.
وفي حين أن هذه النتائج هامة، إلا أنها لا تفسر بشكل كافٍ ما يدور داخل عقول هؤلاء الحكام، وسبب استهدافهم لشعوبهم وقتلهم في المقام الأول. وأمام هوس الحكام بالسلطة، لا يبقى أمام مواطنيهم إلا الأمل في مستقبل أقل عنفًا، سينال فيه الطغاة لا محالة المصير نفسه الذي أنزلوه بالعديد من الأبرياء.