تمثل محافظة كركوك العقدة الحرجة، ونقطة الفصل في معادلة السلام والصراع بين بغداد وأربيل، إذ لطالما حرصت القوى السياسية العراقية، عربية وكردية، على إبقاء مسارات التعاطي مع الحالة الكركوكية ضمن سياق التوازنات السياسية التقليدية في البلاد.
لكن ما حصل يوم الأحد الماضي، عبر فرض إرادة سياسية جديدة تمخّض عنها انتخاب محافظ جديد للمدينة، في ظل غياب إجماع بغداد، وخلافًا لرغبة أربيل، يشير إلى تحول خطير في التوزانات السياسية الجديدة، بين القوى الطامحة (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وعصائب أهل الحق، وحركة بابليون) والقوى التقليدية الشيعية والسنّية والكردية الأخرى.
إن الذي حدث يوم الأحد الماضي هو أن تحالف “تقدم” الذي يقوده رئيس مجلس النواب السابق، محمد الحلبوسي، كسر قاعدة الجمود السياسي، عندما انقسم البرلمان إلى تحالفَين: التحالف الأول هو الحزب الديمقراطي الكردستاني (مقعدان)، والجبهة التركمانية (مقعدان)، إضافة إلى 3 مقاعد من حصة العرب (تحالف السيادة والمشروع العربي والقيادة)، ليصبح المجموع 7 مقاعد.
أما التحالف الثاني هو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (5 مقاعد)، وكوتا المسيحيين -حركة بابليون- (مقعد)، ومقعدان من حصة العرب (حشود عشائرية)، ليصبح المجموع 8 مقاعد، الفارق الوحيد مقعد تحالف “تقدم” الذي انضم إلى التحالف الثاني، وجرى التصويت وفق قاعدة الأغلبية البسيطة (النصف زائد واحد)، عندما أصبح مجموع الأصوات 9 مقاعد مقابل 7 مقاعد.
انفراج بعد الجمود
بغض النظر عن الأزمات الأخرى المشابهة في محافظات ديالى ونينوى، إذ تبدو المقاربة في محافظة كركوك مختلفة إلى حدّ كبير، حيث كان الأكراد يحتكرون منصب المحافظ حتى عام 2016، لكنهم فقدوه بعد دخول الجيش العراقي إلى محافظة كركوك في عهد رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، بعد أحداث “داعش” واستفتاء استقلال إقليم كردستان عن العراق، وعودة سيطرة الجيش العراقي على محافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها، بموجب المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005.
فقد أصبح المحافظ عربيًا سنّيًا، غير أنه مؤخرًا بموجب اتفاق رفضه نصف العرب وكل التركمان في كركوك، عاد منصب المحافظ إلى الكرد، فبعد 8 أشهر من الجمود السياسي، انتخب محافظ جديد لكركوك، إذ حصل المرشح الكردي ريبوار طه من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (برئاسة بافل طالباني) على منصب المحافظ، بينما حصل مرشح تحالف “تقدم”، محمد الحافظ، على منصب رئيس مجلس المحافظة، في ظل مقاطعة الحزب الديمقراطي الكردستاني والجبهة التركمانية وأحزاب عربية أخرى لجلسة التصويت، وقد نشأ هذا القرار من تفاعل معقّد بين الجهود المحلية والإقليمية، حيث أثبتت استراتيجية اللحظة الأخيرة التي تبناها الحلبوسي إنها حاسمة.
ففي لقاء مطوّل ليلة يوم الجمعة الماضي، اجتمع الحلبوسي مع طالباني زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وريان الكلداني زعيم حركة بابليون المنضوية ضمن الحشد الشعبي، وقيس الخزعلي زعيم حركة عصائب أهل الحق، من أجل الاتفاق على تشكيل الإدارة المحلية الجديدة في محافظة كركوك.
وبموجب اتفاق تقاسم الإدارة المحلية في محافظة كركوك، سيحتفظ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بمنصب المحافظ لمدة عامين، وبعد ذلك قد يحدث تناوب محتمل للمناصب، إذ لعب فقدان حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والفصائل المسلحة الموالية لإيران في كركوك للأغلبية، دورًا محوريًا في تيسير تحقيق هذا الاختراق من قبل الحلبوسي.
كما أن الانقسام العربي في كركوك شكّل حافزًا للحلبوسي للمناورة، إذ يعكس هذا الانقسام تنافسات أعمق بين العرب في كركوك، فقد انقسم المجتمع العربي في كركوك الآن إلى 5 فصائل رئيسية، يتنافس كل منها على النفوذ:
- قبيلة الجبور (بزعامة راكان الجبوري)
- قبيلة العبيد (يمثلها الشيخ وصفي عاصي)
- عائلة محمد تميم (التابعة لحزب التقدم بزعامة الحلبوسي)
- جماعة خالد مفرجي ويمثلها حزب السيادة
- جماعة الشيخ ميسم ومهيمن الحمداني.
وتنقسم الجبهة التركمانية، باثنين من أعضائها، أيضًا بين فصيلَين يقودهما حسن توران وأرشد الصالحي.
بُعد آخر للأزمة في كركوك
إن تشكيل الحكومة المحلية الجديدة في محافظة كركوك هو نتاج لمناورات معقدة على مستويات متعددة، فقد ساهمت التنافسات المحلية، والحسابات السياسية العراقية، وصراعات القوة الإقليمية، في إنتاج الترتيب الحالي، إذ لن تعمل هذه النتيجة على إعادة تشكيل المشهد السياسي في كركوك فحسب، بل قد تنطوي أيضًا على آثار أوسع نطاقًا في سياق الديناميكيات الداخلية العراقية، والتوازن الجيوسياسي في المنطقة.
لكن ما زال من غير الواضح مدى استدامة هذا الترتيب الجديد، خاصة في ضوء اقتراح تناوب منصب المحافظ بعد عامين، وكذلك مدى صدق الفصائل المسلحة الموالية لإيران في دعم مرشح الحلبوسي لرئاسة مجلس النواب، ومن المرجّح أن تكشف الأشهر المقبلة ما إذا كان هذا القرار يمثل استقرارًا حقيقيًا للحكم المحلي في كركوك، أم أنه مجرد توازن مؤقت في صراع مستمر على السلطة في هذه المحافظة الغنية بالنفط، وذات الموقع الجغرافي الهام.
وعن الأبعاد الإقليمية لانتخاب محافظ جديد لكركوك، تشير نتائج تشكيل الحكومة المحلية إلى تحول كبير في النفوذ الإقليمي، إذ يبدو أن إيران حققت مكاسب كبيرة فيه، لأن منصب المحافظ الجديد أصبح بيد حلفائها، والحديث هنا عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
أما تركيا فقد شهدت انتكاسة كبيرة، حيث لم يشارك حلفاؤها (الجبهة التركمانية، والحزب الديمقراطي الكردستاني، و3 عرب متحالفين مع زعيم تحالف السيادة خميس الخنجر) في الحكومة الجديدة، وقد يكون لهذا التغيير في التوجهات عواقب بعيدة المدى على ديناميكيات القوة الإقليمية، ما قد يؤدي إلى تغيير توازن النفوذ في شمال العراق، خصوصًا مع سيطرة الفصائل المسلحة الموالية لإيران على أغلبية مقاعد مجلس محافظة نينوى، وهي محافظة لا تقلّ أهمية لتركيا عن محافظة كركوك، ما يجعل تركيا في وضع حرج للغاية.
حزب العمال الكردستاني.. الرابح الأكبر
إن عودة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني إلى إدارة محافظة كركوك، بدعم وإسناد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، سيشكّل قوة دفع كبيرة لحزب العمال الكردستاني، وذلك بحكم العلاقات الإيجابية التي تربط هذه الأطراف معًا.
فبالوقت الذي تسيطر فيه هذه الأطراف على الإدارة المحلية في كركوك، سيسعى حزب العمال الكردستاني إلى استثمار هذه العودة في إنتاج تموضعات جديدة داخل الجغرافيا العراقية، خصوصًا في مناطق الانتشار التقليدية في كركوك، وتحديدًا مدينة مخمور التي كانت تشهد انتشارًا كثيفًا لحزب العمال الكردستاني، قبل انتقال جزء كبير من هذا الانتشار إلى مدينة سنجار بعد تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش”.
إن المتغير السياسي الجديد في محافظة كركوك سيعطي فرصة لحزب العمال الكردستاني للبحث عن ملاذات آمنة جديدة، خصوصًا من النجاحات الميدانية التي تحققها العملية العسكرية التركية في شمال العراق، بل إن هذا المتغير قد يوفّر لحزب العمال الكردستاني فرصة تسخير مقدرات محافظة كركوك، للحصول على مزيد من الدعم الاقتصادي واللوجستي، سواء على مستوى الموارد المالية، أو على مستوى طرق النقل والمواصلات.
والحديث هنا عن مطار كركوك، الذي سيشكّل قيمة عملياتية مضافة إلى الحزب، إلى جانب مطار السليمانية الذي فرضت عليه تركيا عقوبات موسّعة، بسبب توظيف هذا المطار لتنقُّل عناصر وقيادات من حزب العمال الكردستاني داخل وخارج العراق.