بعد اندلاع الثورة السورية، تعرضت السويداء إلى تهميش مقصود، ما اضطر الآلاف من أبنائها الرافضين للخدمة في جيش النظام البقاء في المحافظة، ومع سوء الأحوال الاقتصادية العامة والبطالة في سوريا، كان لمناطق الدروز حصة كبيرة من التفقير والحصار الاقتصادي.
وتراجعت إمدادات المحافظة من المحروقات وغابت الكهرباء لأكثر من 20 ساعة في اليوم، وجُرّدت الغابات من أشجارها، وعجز الكثير من الشباب عن إيجاد عمل مناسب، فاشتغل بعضهم بالمخدرات والتهريب، وبعضهم الآخر هرب بطرق غير نظامية إلى الدول المجاورة، فيما استغلت مكاتب الوساطة آخرين لتجنيدهم في الميليشيات الروسية.
تحولت السويداء إلى مرتع لجرائم الخطف وطلب الفدية ومكانًا للعصابات المنظَّمة، وتحولت أراضيها إلى محطة مهمة على طريق تهريب المخدرات إلى الأردن، ما أثر كثيرًا على البنية القيمية والأخلاقية لمجتمع الدروز.
وحلَّ مغتربو السويداء مقام الدولة من حيث تأمين لقمة العيش لذويهم في الداخل، ما شكّل أعباء جديدة على المغتربين، ومع استمرار صدور قرارات النظام برفع الأسعار وفصل بعض الموظفين نتيجة مواقفهم السياسية، وزيادة معدل الجرائم وحالات الانتحار وانتشار المخدرات في المدارس وغيرها من الأسباب، كان من الحتمي قيام حراك ثوري مستمر ضد السلطة يشمل معظم مدن وقرى المحافظة.
لماذا استمر الحراك؟
تشهد السويداء منذ عام مظاهرات مستمرة تعكس الغضب الشعبي المتصاعد من الوضع الراهن، حيث بدأت الاحتجاجات بمطالب اقتصادية وسياسية، وسرعان ما تطورت لتشمل مختلف شرائح المجتمع.
ومع مرور الوقت، استمر تدفق أعداد كبيرة من المتظاهرين إلى ساحة الكرامة، قادمين من القرى والمدن المحيطة، ليعبّروا عن تضامنهم ورفضهم لسياسات النظام منذ أكثر من عام.
ويعود السبب في استمرارية حراك السويداء إلى توافر عناصر الثالوث الثوري، الأول “الشارع الثائر” من المعارضين القدامى والجدد وبعض الحياديين المتضررين من قرارات سلطات النظام وشرائح أخرى.
والعنصر الثاني هو فصائل محلية داعمة للحراك، وتتكون من الفصائل المعارضة وفصائل حيادية تهدف إلى حماية المتظاهرين، وهذه الحالة تطورت منذ العام 2013 وأصبحت قوة محلية لا يستهان بها.
أما العنصر الثالث هو مؤسسة دينية مبارِكة للحراك، تمثلت في الرئاسة الروحية للدروز من خلال شيخَي العقل حكمت الهجري وحمود الحناوي، وهي المرة الأولى منذ انطلاق ثورة 2011 التي يعلن فيها بعض الزعماء الروحيين الدروز مباركتهم لساحات التظاهر في السويداء وسوريا، ما يعتبر أحد أهم أسباب استمرارية الحراك الثوري في السويداء.
بداية الحراك وتطوُّره
يحمل الأسبوع الأول أهمية كبيرة في التأسيس للحراك الثوري المستمر منذ حوالي عام كامل، فقد أرسى هذا الأسبوع أساسًا قويًا لحراك طويل الأمد.
كانت الظروف الاقتصادية والأمنية والسياسية لمعظم فئات المجتمع في محافظة السويداء على وشك الانفجار في أي لحظة، وتحتاج فقط للشرارة التي تحوِّل غضبهم إلى فعل حقيقي، وهو ما حصل في 15 أغسطس/ آب 2023، حين أصدرت حكومة النظام قرارًا برفع أسعار المازوت والبنزين بنسبة تزيد عن 200%، ما أدّى إلى انهيار قيمة الليرة السورية وتراجعت لأول مرة في تاريخها، ليصل سعر الصرف إلى أكثر من 15 ألف ليرة، ما انعكس بشكل فوري على الأسواق.
في اليوم التالي، أعلن سائقو الحافلات العامة في السويداء وشهبا وصلخد إضرابهم عن العمل، كما انتشرت الدعوات للإضراب العام في المحافظة، وسارعت العديد من القرى لإعلان قطع الطريق وعدم السماح بمرور الموظفين.
17 أغسطس/ آب كان يوم الغضب، حيث سُجّل عدد كبير من النقاط الاحتجاجية، تضمنت قطع طرقات، مع السماح بمرور الطلاب والحالات الإسعافية والكادر الطبي، ووقفات احتجاجية وتضامنية.
وشملت النقاط الاحتجاجية كلًّا من السويداء المدينة، القريّا، شهبا، نمرة شهبا، عريقة، الغارية، أم الرمان، دوما، تيما، أم ضبيب، المجادل، مجدل، قنوات، الثعلة، المتونة، الخالدية، وقفة تضامنية صغيرة في ساحة السيوف في جرمانا.
وتزامن ذلك مع كتابات على جدران المدارس كما حصل في قرية الخرسا، حيث حملت الكتابات شعارات سياسية في يومها الأول منها “يسقط أسد الكبتاغون”.
تجمّع المحتجّون في مدينة السويداء، ورددوا هتاف “سوريا لينا وما هي لبيت الأسد”، و”واحد واحد الشعب السوري واحد”، في إشارة واضحة إلى عودة روح ثورة 2011، إلى جانب الدعوة إلى إضراب عام يشمل كافة مناطق المحافظة بعد 3 أيام.
في اليوم التالي خرج بعض أهالي مدينة جرمانا في ريف دمشق التي تقطنها شريحة واسعة من الدروز، في وقفة احتجاجية اعتراضًا على القرارات الحكومية الأخيرة، كما سُجّل أيضًا خروج احتجاجات في محافظة درعا المجاورة في كل من بلدتَي الحراك ونوى وانخل، رفضًا لسياسات النظام وقراراته.
19 أغسطس/ آب كان يومًا فاصلًا عندما أصدرت الرئاسة الروحية الممثلة بالشيخ حكمت الهجري، بيانًا أكد فيه تأييد الحراك، وحثّ الناس على الاستيقاظ من سباتهم والاهتمام بكرامتهم وكرامة أهلهم، كما أكّد على وجود غرباء استباحوا مقدرات الشعب وخيراته، ولم يبقَ في مواقع المسؤولية أشخاص صادقون، وأن هناك أشخاصًا موتورين يخالفون الدستور.
وفي اليوم نفسه أعلنت عشائر السويداء انضمامها إلى الإضراب العام، كما انتشرت الدعوات بشكل مكثّف للإضراب العام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال الكتابة على الجدران، ووضع ملصقات على المحال التجارية في جميع أنحاء مدينة السويداء.
الإضراب الكبير
عمَّ الإضراب كل مناطق المحافظة، بعد أن أعلنت أكثر من 30 قرية ومدينة نيّتها المشاركة في 20 أغسطس/ آب، فأُغلقت معظم المحال التجارية، وتوقف عمل المؤسسات، وأجّلت الجامعات مواعيد الامتحانات، وقُطعت الطرقات وغاب الموظفون عن عملهم، ومنع أهل القريّا أمين فرع الحزب فوزات شقير من التوجه إلى عمله بعد توبيخه.
توافد عدد كبير من أبناء القرى إلى ساحة الكرامة في السويداء، ووجّهوا هتافات لكل المحافظات السورية ورددوا شعارات ثورة 2011، ورفعوا لافتات تطالب بالمعتقلين وبتطبيق القرار الأممي 2254، في دلالة واضحة على تبنّي المتظاهرين للقرارات الدولية التي تهدف إلى انتقال سلمي للسلطة.
ولأول مرة تمّ قفل مقرّ الفرقة الحزبية ومبنى البلدية في قرية سميع، ليتحول هذا اليوم إلى يوم تاريخي في السويداء، بعد تسجيل ما يزيد عن 40 نقطة احتجاجية شملت كل مناطق وقرى المحافظة.
في اليوم التالي أعلنت حركة رجال الكرامة تأييدها للحراك الشعبي والبيان الصادر عن الرئاسة الروحية، من خلال توجُّه وفد منها إلى مقر الشيخ الهجري في بلدة قنوات، كما اشترك رجال دين لأول مرة في مظاهرات الساحة، وهو ما أعطى زخمًا كبيرًا للمتظاهرين، وشجّع الكثير من أبناء المحافظة على الانخراط في التظاهرات.
ووجّه الشيخ حكمت الهجري رسائل مهمة للسوريين، حيث أكّد أن أهالي السويداء يتكلمون بلسان حال الشعب السوري كما تكلم الشعب السوري بلسان حال السويداء سابقًا، في دلالة على استمرار الحالة الثورية التي بدأت عام 2011.
في 22 أغسطس/ آب انضم شيخ العقل حمود الحناوي إلى جموع المحتجين في بلدة القريا، وأكد على أحقية مطالبهم، فاكتسب الحراك مرجعية جديدة أعطته دافعًا جديدًا للاستمرار، كما انضمت قرى جديدة إلى الحراك، وتميزت كل قرية بطريقتها الخاصة في التعبير عن احتجاجها.
في هذا اليوم تمّ إغلاق العديد من مقرات الفرق الحزبية، في إعلان واضح لرفض وجود حزب البعث في حياة الناس في المحافظة، كما حصل في بلدات شهبا وريمة حازم والحريسة.
محطات إيجابية
مرّت المظاهرات في السويداء بالعديد من المحطات الإيجابية التي ساهمت بشكل كبير في تعزيز حراكها الثوري، وجعلتها قادرة على مواجهة التحديات المستمرة في ظل الظروف الصعبة.
ومن أبرز هذه المحطات كان انضمام عشائر البدو إلى ساحة الكرامة منذ الأيام الأولى، من خلال وفد تجمع عشائر الجنوب، في تأكيد على أن الثورة في السويداء لا تحمل صبغة طائفية.
كما تميّز الحراك الثوري في السويداء بمشاركة واسعة للنساء منذ اليوم الأول، وشملت هذه المشاركة كل الشرائح العمرية من ناشطات ومتدينات، اللواتي أسّسن حراكًا نسويًا سياسيًا تحت اسم “طالعات سوريات”، بهدف المشاركة في صنع التغيير الديمقراطي والسياسي في سوريا، وتشجيع النساء في مختلف المناطق السورية على المشاركة في أي تغيير سياسي، إن كان على الأرض أو من خلال المنصات الرقمية.
ومن المحطات الإيجابية كان إغلاق المقرات والفرق الحزبية في المدن والقرى وتحويل بعضها إلى مراكز خدمية، وإزالة صور وتماثيل رموز النظام من واجهات مباني البلدية والحزبية ومداخل القرى، ورفع صور لزعماء الثورة السوريين ضد الاستعمار الفرنسي (سلطان باشا الأطرش، إبراهيم هنانو، يوسف العظمة) وغيرهم.
وكان اختيار يوم الجمعة للخروج في مظاهرة المركزية تأكيدًا على رمزية أيام الجمع التي كانت تنطلق فيها المظاهرات في معظم المحافظات السورية منذ العام 2011، إلى جانب الشعارات المرفوعة ورفض الانفصال واعتماد خطاب سوري جامع، حيث رُفعت مجموعة من اللافتات التي تحمل شعارات سياسية ومطالب محددة للحراك، مثل “الدين لله والوطن للجميع”، “من السويداء، هنا سوريا”، “دم السوري على السوري حرام”، “لا للهويات القاتلة، نعم للهوية السورية”، “لا للحكم الذاتي، لا للانفصال”.
كما حمل المتظاهرون العديد من اللوحات التي تحيي المحافظات السورية جميعها، إلى جانب شعارات فكاهية حملت أفكارًا سياسية موجّهة لمؤيدي النظام، مثل “بس تشبعوا شَبْحوا”، “إلي مكفيه راتبه.. حرامي” والكثير من الرسائل ذات الطابع السياسي.
ومن أكثر الإيجابيات في حراك السويداء كان سلمية الحراك، فقد حافظ المتظاهرون خلال عام كامل على سلمية حراكهم، رغم الاستفزازات المتكررة من عناصر النظام، وإطلاق النار في عدة مناسبات بدءًا من الأيام الأولى.
وسُجّلت أول حادثة عند حاجز أمني بالقرب من مدينة شهبا في 28 أغسطس/ آب الماضي، حيث أطلق عناصر النظام النار في الهواء أثناء تقدُّم المتظاهرين لإزالة صورة بشار الأسد بالقرب من الحاجز، وفي حادثة ثانية تمّ إطلاق النار على المتظاهرين أمام مقر قيادة فرع الحزب في 13 سبتمبر/ أيلول الماضي، ما أدّى إلى إصابة 3 منهم.
وفي 28 فبراير/ شباط الماضي، قُتل جواد الباروكي كأول متظاهر يسقط في الحراك الثوري أمام مقرّ صالة السابع من نيسان في السويداء، التي اتخذتها سلطات النظام مقرًا للتسويات الأمنية، وذلك بعد إطلاق النار من بناء قيادة الشرطة أثناء تواجد المتظاهرين في ساحة الكرامة.
كما قُتل قبل أسبوعين مرهج الجرماني قائد فصيل “لواء الجبل”، وهو فصيل نشط خلال السنوات الماضية، وكان له دور بارز في محاربة العصابات والدفاع عن السويداء، وما زالت الكثير من إشارات الاستفهام حول مدى صحة مقتله على يد زوجته وابنته أثناء نومه في بيته.
توظيف العادات المعروفية
تظاهر أهالي السويداء وفقًا لعاداتهم الاجتماعية المتأصّلة في المناسبات الاجتماعية سواء في الأفراح أو الأتراح، فالعادات الاجتماعية تقضي بتوجُّه وفود بالعشرات من قرى أو بلدات أو مدن معيّنة إلى إحدى القرى التي تشهد مناسبة فرح أو عزاء، للتكاتف مع أبناء تلك القرية.
هذه العادات امتدت إلى الحراك الثوري، فكانت بعض القرى تنظّم وقفة تظاهر وتدعو القرى المحيطة إلى مؤازرتها في تلك الوقفة، وينطبق الأمر على توجُّه وفود من أغلب قرى الجبل باتجاه ساحة الكرامة كل يوم جمعة، للمشاركة في المظاهرة المركزية التي تستضيفها مدينة السويداء أسبوعيًا.
وتميز الحراك الثوري بتوظيف الفنون الشعبية بشكل سياسي، فكان فن الجوفية (فن شعري من الفنون البدوية) حاضرًا، على سبيل المثال: “صاح الصايح وطب الأسد خوف”، إضافة إلى استخدام ألحان شعبية مشهورة مع كلمات جديدة تحمل رسائل سياسية، مثل ” لاكتب ورق وأرسلك.. ابعد عنا أحسنلك”، “يا أسماء ما منعوزك.. ضبي غراضك مع جوزك”، وتميزت بهذه الألوان أثناء الحراك بعض القرى مثل قرية امتان وغيرها.
كما تميز بحضور الشعراء في ساحة الكرامة الذي شكّل زخمًا كبيرًا من خلال الألوان الشعرية الشعبية المعروفة، فحضر كل من الشاعر أبو سلمان ماجد رضوان والشاعر حازم النجم ليعطيا حماسة لساحة الكرامة، أما في الخارج كانت قصائد الشاعر ثاني عرابي مواكبة للحراك وتطوراته.
رافق الحراك الثوري في السويداء العديد من الأغاني التي أكدت على الطابع الثوري أو السلمي للحراك، في البداية عُزفت أغانٍ قديمة مثل “يا السويدا حنا معاكي كل الثوار” لعبد الرحمن قباني، و”قامت حقًا قامت” لسميح شقير، ومع تطور الحراك ظهرت أغانٍ جديدة مثل “يا محلا السويدا والنسمة الجبلية” لعتاب أبو سعدى، وأوبريت “صهيل الأصايل”، ما ساهم في تعزيز الروح الثورية.
كما قام بعض السوريين في الخارج بتحويل بعض القصائد إلى أعمال غنائية، مثل قصيدة “هذا جبلنا يا ولد.. حذراك تحرث نارنا” وأدّتها أوركسترا أورنينا بقيادة شفيع بدر الدين، وأغنية “ساحة كرامة” وأدّاها كل من سميح شقير ولبانة القنطار، وغيرها من الأغاني.
وظهرت الرسوم الكاريكاتورية واللوحات الفنية التعبيرية في الحراك، فتميزت رسومات فادي الحلبي الكاريكاتورية بعمق الطرح السياسي، وتميزت باستمراريتها ومواكبتها للتطورات، إلى جانب لافتات الشاب مفيد العقباني تحت اسم “مؤامرة كرتونية مش كونية”، يكتب خلالها رسائله الثورية على قطعة من الكرتون وتحضر بشكل دائم في ساحة الكرامة.
وتخللت المظاهرات والاحتجاجات الكثير من الفقرات الفنية والعروض الجميلة، منها عرض باللباس الروماني القديم، مع لوحات تتحدث عن الآثار الرومانية المنهوبة من سوريا.
وأنتج الحراك الثوري هامش من الحريات التي افتقدها السوريون خلال حكم عائلة الأسد، فاستطاع شباب وشابات السويداء تنظيم سهرات فنية وأدبية وعروض موسيقية في بعض الشوارع والساحات، ومنتديات عفوية وعروض سينمائية بعيدًا عن الموافقات والرقابة الأمنية.
كما التحق بالحراك الثوري الكثير من الأفراد العاملين في مختلف القطاعات، وأحدثوا تجمعات حرة شاركت بشكل دوري في التظاهرات، مثل تجمع معلمي السويداء، وتجمع عمال وحرفي السويداء، وتجمع القطاع الصحي في السويداء، وتجمع مهندسي السويداء، وتجمع المهندسين الزراعيين، وتجمع كتّاب السويداء، وتجمع محامي السويداء.
وأخيرًا ظهر جسم سياسي موحّد يمثل ساحة الكرامة، تم انتخابه بعيدًا عن سيطرة العائلات الكبيرة في الجبل، وهي أول تجربة ديمقراطية أنتجها الحراك بعد 11 شهرًا من انطلاقته.
محطات سلبية
تعرّض حراك السويداء منذ بدايته إلى محاربة وتشويه من قبل سلطات نظام الأسد لإبعاد الناس عن دعمه، ولم تلجأ تلك السلطات إلى الخيار الأمني، بسبب حساسية ملف الأقليات أمام الرأي العام العالمي، فأي قمع لحراك السويداء سيُسقط دعاية النظام بأنه حامي الأقليات، لذلك لجأ إلى خلخلة الحراك الثوري بعدة وسائل.
الوسيلة الأولى كانت اتخاذ القطب الثالث من مشيخة العقل خيار التأييد للسلطة، فقد اتخذ شيخ العقل الثالث يوسف جربوع موقفًا ضبابيًا في البدايات، وسرعان ما أصبح موقفه معاديًا للحراك ومؤيدًا للسلطة، فاستقبل مبعوثًا من الأسد وأكد من خلال مقطع فيديو على تبعيته لسلطة الأسد وأجندتها.
كما عمل النظام على ابتكار مرجعيات دينية جديدة في سوريا لخلط الأوراق، فابتكر شيخ عقل جديد خارج الحدود الإدارية للسويداء، وتحديدًا في دمشق وغوطتها وقرى جبل الشيخ والقنيطرة، حيث استقدم أحد الأشخاص معن صافي، وهو من المتعاونين معه، من الدروز وألبسه زي الدين الدرزي ونصّبه شيخ عقل وقام بتداول مقاطع فيديو له ولبياناته، يؤكد من خلالها على تبعية الدروز للسلطة، بهدف تحجيم موقف قطبَي مشيخة العقل الحناوي والهجري الداعم للحراك.
وقام نظام الأسد باستغلال سطوة بعض العصابات الأمنية لمنع الناس من التظاهر، فقد شهدت مدينة صلخد منذ بداية الحراك تهديدات للأشخاص الراغبين في التظاهر من قبل عصابة تتبع للأمن العسكري وتمتهن تهريب وترويج المخدرات، ما أدّى إلى وقفات صغيرة في ساحة صلخد بشكل دوري، بالإضافة إلى مظاهرة مركزية نادرة بدعم من أبناء المحافظة في ساحة المدينة الرئيسية في الأيام الأولى للحراك.
وإلى جانب ذلك، عمل النظام على تشغيل ماكينة إعلامية مؤيدة لتشويه الحراك والإساءة للنساء المشاركات، فمنذ البدايات أطلق النظام العنان لأذرعه الإعلامية لمحاربة الحراك، من خلال إعلامه الرسمي ومن خلال ناشطي السوشال ميديا، مثل بشار برهوم ورفيق لطف، حيث سعى دائمًا إلى التحريض ضد الحراك عبر إدارته لمجموعات هدفها الإساءة للمتظاهرين وخاصة النساء، عبر ترويج أخبار وصور مشاركتهن في الحراك.
كما وُجّهت اتهامات للمتظاهرين بالحصول على مبالغ مالية بين 25 و30 دولارًا لكل متظاهر من قبل قطر، كما تمّ تحريك مجموعة في ساحة الكرامة لتوجيه شكر لدروز “إسرائيل” وطلب مساعدات منهم وتصويرهم، أعقبته إشاعة أخبار عن نية الدروز الانفصال والدخول تحت حماية إسرائيلية، وتعاونهم مع جهات خارجية.
وحرص النظام على استقدام تعزيزات عسكرية بين الحين والآخر إلى المحافظة، وإقامة حواجز أمنية لإخافة المتظاهرين وحثهم على عدم التظاهر، كان آخرها في يونيو/ حزيران الماضي حين قرر النظام إنشاء حاجز أمني على مدخل مدينة السويداء الشمالي، ما دفع الفصائل المحلية إلى الاستنفار وحدثت اشتباكات قبل إزالته نهائيًا.
من بين الأسباب التي أضعفت الحراك في السويداء كانت الأصوات المعارضة التي حاولت تقزيمه ووصفه بالطائفي، مدعيةً أنه ثورة جياع وليس ثورة كرامة، ما دفع ببعض المتظاهرين إلى تقديم المناسف والفواكه للمتظاهرين ولعناصر الشرطة، والقيام بقطع طريق دمشق السويداء عندما تم الترويج لقدوم مساعدات غذائية من القوات الروسية.
وساهمت الضبابية في التوجهات السياسية لبعض التنظيمات داخل الحراك، وصدور بيانات متنوعة عن ساحة الكرامة لا تمثل الجميع، في إضعاف الحراك، كما ظهرت بعض التنظيمات السياسية تدعو إلى فكرة الإدارة الذاتية للجبل، ومشاريع أخرى قوبلت برفض كبير من الساحة.
وكانت قضية رفع الأعلام قضية محورية مع انطلاق الحراك، ولم يكن هناك إجماع على اعتماد راية واحدة، فتم رفع الراية الدينية “الخمس حدود” وعلم ذي النجمتَين (النظام) وعلم ذي الثلاثة نجوم (الثورة)، فحصلت ردود فعل كبيرة داخل ساحة الكرامة وخارجها، وتشبثت كل فئة بأحقيتها برفع العلم الذي يناسبها، وحدثت خلافات أدت إلى اعتكاف عدد من المتظاهرين عن الحضور للمشاركة.
ختامًا تضمن الحراك الثوري في السويداء آلاف التفاصيل الدقيقة التي رسمت الشكل النهائي للنتائج اليوم، ورغم تراجع زخمه وقلة عدد المشاركين بالمقارنة بالأشهر الأولى من الحراك، إلا أنه حقق الكثير من النتائج الجزئية، ومنها ترسيخ فكرة رفض حزب البعث كحزب حاكم أو متحكم بالناس، ومصادرة بعض مبانيه وتحويلها إلى مراكز خدمية.
وعلى صعيد الحريات الفكرية والسياسية، أسّس الحراك لسقف حريات عالٍ، بعيدًا عن تحكم النظام وأجهزته الأمنية، وانعكس ذلك على ظهور الفعاليات الفنية والأدبية والحوارات السياسية المفتوحة، وتعدّى ذلك حدود المحافظة من خلال التأسيس لما يُسمّى وثيقة المناطق الثلاث (السويداء-درعا-حلب) التي تؤكد على المبادئ العامة لثورة 2011، وانضمت لاحقًا إلى هذه الوثيقة مناطق أخرى.
وفي المقابل لم يستطع الحراك حتى اللحظة إيقاف نفوذ حزب البعث أو الحصول على مزيد من تأييد الشارع نتيجة المحطات السلبية التي مرَّ بها، ونتيجة عدم وجود حراكات ثورية داعمة في مناطق سيطرة النظام السوري، وهجمة التشويه المستمرة من مختلف الأطراف، وأيضًا نتيجة استمرار الوضع الاقتصادي دون تغيير، ما أدّى إلى تملمُل الكثيرين ممّن اشتركوا سابقًا في الحراك، ورغم هذا ظل الحراك محافظًا على استمراريته، خاصة مظاهرات أيام الجمع التي تشهد أعدادًا كبيرة تتفاوت بين المئات والآلاف.