كتب واحد من أعظم مفكري الاقتصاد السياسي في العالم كتابًا بعنوان “الأخلاق البروتستانتينية وروح الرأسمالية” لاعتقاده بأن الأخلاق البروتستانتينية كان لها دور أساسي في قيام الرأسمالية الحديثة، أو هكذا شُرح كتابه على مر العقود التالية لنشره، كان هذا الرجل هو عالم الاقتصاد والاجتماع الألماني المعروف “ماكس فيبر” الذي كانت له أبحاث خاصة عن علاقة الدين بتكوين المجتمعات الاقتصادية الحديثة، وعلى وجه الخصوص الدين المسيحي.
لماذا لم تحدث الثورة الصناعية في أي مكان في العالم سوى أوروبا؟ لم لم تحدث في الصين مثلًا أو الهند؟ آمن ماكس فيبر أن ما جعل الرأسمالية فكرة قابلة للحدوث والتأثير في محاور العالم الحديث من بعد الثورة الصناعية التي كان مكانها أوروبا، هو مجموعة من الأفكار التي لازمت الأوروبيين في ذلك الوقت، وهي الأفكار التي عُرفت بالأفكار والقواعد أو الأخلاق البروتستانتينية وعلى وجه الخصوص الأفكار “الكالفينية” وهي جزء من المسيحية البروتستانتينية.
عاش فيبر سنواته الأولى في ألمانيا بعد الثورة الصناعية، حينما حلت الطبقة الغنية التي تدير الأعمال محل الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية، ولهذا قضى الأخير حياته – من خلال علمه وفكره في مجال الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع – في تحليل مبادئ الرأسمالية وعلاقتها بتكوين المجتمعات، خرج من تحليلاته تلك بمبادئ مهمة للغاية عن الرأسمالية، أولها أن الأفكار الدينية المسيحية هي ما شكلت البيئة الخصبة لوجود الرأسمالية، وذلك لأسباب عدة أولها أن المسيحية خاصة “الكالفينية” تُشعر الإنسان بالذنب لمعظم الوقت.
الرأسمالية تُشعر المرء بأن كل ما يفعله ليس كافيًا أبدًا، وذلك كاف لإشعاره بالذنب تجاه نفسه من أجل أن يعمل أكثر، وهذا يُفسر المبدأ الثاني الذي خرج به فيبر من تحليله للرأسمالية التي خرجت من رحم المبادئ المسيحية، وهو أن الله يحب كل من يعمل أكثر، ولهذا لم يجد العامة مشكلة في العمل لساعات طويلة على الرغم من التعب والإذلال لخدمة قلة قليلة من النخبة تتحكم في ثرواتهم وتملكها، فبالنسبة لفكر فيبر فهو يجد أن المسيحية تهيئ للإنسان أن الطريق الوحيد لغفر الذنوب هو الكدح في الحياة والعمل، ولهذا لا يوجد ما يُعرف بالراحة أو الأعياد الكثيرة في البروتستانتينية، كما هو الحال في الرأسمالية أيضًا من حيث أوجه التشابه التي عرضها فيبر في كتابه “الأخلاق البروتستانتينية وروح الرأسمالية”.
“أي عمل هو عمل من أجل الله”؟
إلى اليمين “ماكس فيبر” وإلى اليسار “كارل ماركس”
كان هذا هو المبدأ الثالث الذي شرح فيه فيبر وجه التشابه بين الرأسمالية والأخلاق البروتستانتينية، فالعمل مهما كان مُجهدًا أو حتى مُذلًا فهو من أجل الله، ولهذا لا يجب أن يكون من أجل النفس، أي يصب في مصلحة الشخص الذي يعمل فحسب، ولا حتى أن يصب في مصلحة عائلته التي تجد كل من الرأسمالية والبروتستانتينية أنه من الأنانية أن يعمل المرء لخدمتهم، بل يجب العمل لصالح الجميع أي المجتمع لا الفرد، وظفت الرأسمالية تلك القاعدة لخدمة مصالح النخبة التي تملك الثروات أكثر منها خدمة المجتمع كما هو الحال في البروتستانتينية.
لا تعتبر الرأسمالية أو البروتستانتينية أن الرفاهية في الحياة والمستوى المادي المرتفع أو الرغد بشكل عام هبة من الله، بل تعتبره نتيجة حتمية لكل من يعمل بجد واجتهاد، حتى لو تحمل في سبيل ذلك ظروف غير إنسانية، وحتى لو كان ذلك غير موجود على أرض الواقع، إلا أن هذه فكرة متأصلة في الفكر النيوليبرالي الذي يحكم كثير من الدول المتقدمة حاليًّا، حيث يُقسّم المجتمع إلى فئتين، فائزين وخاسرين، الفائزون استحقوا المكانة التي يحتلونها في المجتمع كونهم النخبة مالكة الثروة والمسيطرة على الفئة الأخرى الخاسرة التي يُزعم أنها استحقت الفقر الذي تعيش فيه.
“البيروقراطية الوسيلة الأكثر عقلانية التي نعرفها للسيطرة الحتمية على الإنسان”
– ماكس فيبر
لقد كانت هذه المبادئ “الأخلاق البروتستانتينية” كافية بالنسبة للمفكر الاقتصادي ماكس فيبر ليجعلها المكون الأساسي والسبب الرئيسي لوجود الرأسمالية بصورتها التي نعيشها بشكل يومي في الاقتصاد الحديث في أيامنا الحاليّة، وبهذا يختلف المفكر فيبر عن كارل ماركس بشكل جذري، لقد رأى الأخير أن الدين هو ما يجعل الناس يحتملون الرأسمالية ويتعايشون معها والسبب في جعلهم فقراء حسبما ورد في كتبه، أما الأول فيرى أن الدين ما هو إلا الشيء الذي أنتج الرأسمالية.
لماذا يُساء فهم فكر فيبر أحيانًا؟
ربما قد يُساء فهم فكر فيبر أحيانًا على أنه قدس العمل الشاق وقدس العمالة الكادحة في إطار العمل في المؤسسات والمنظمات الرأسمالية، ربما كانت لديه مشكلة خاصة مع الدين مثل كارل ماركس الذي وجد في الدين “أفيون” الشعوب الذي يخدرهم عن الواقع الذي يكونون فيه الفقراء الكادحين والذي تجعلهم فيه الوظيفة أكثر فقرًا لخدمة رؤساء المؤسسات الكبرى والضخمة التي تتحكم في وسائل الإنتاج، بينما يجعل الأغنياء أكثر ثروة ورغدًا، إلا أنه على العكس تمامًا كان هناك جانب من تفكير فيبر لم يكن مفهومًا حتى لدى كثير من دارسي علمه، ألا وهو أن فيبر لم يكن لديه أي تأييد للعمل الكادح في النظام الرأسمالي، ولم يؤمن أن الأخلاق المسيحية الأخلاق الوحيدة التي سوف تستمر مع الرأسمالية المعاصرة التي نعيشها نحن الآن.
لقد وجد فيبر في المسيحية البروتستانتينية روحًا للرأسمالية، إلا أنه تنبأ أيضًا بوجود نظام أخلاقي خاص بالرأسمالية الحديثة سوف ينجح في استبدال النظام الأخلاقي الذي كان يحدد للبشر الصح من الخطأ، ويُحدد لهم أهمية ما يفعلونه والسبب الرئيسي الذي يدفعهم لفعل ما يفعلونه أو لعمل الوظيفة التي يعملون بها، تنبأ فيبر بأنه سيكون للرأسمالية قواعد ونظام أخلاقي خاص بها، سوف يجعل الناس في حيرة من أمرهم بخصوص المبادئ التي آمنوا بها في يوم من الأيام، وستتدخل في قرارتهم العاطفية والاجتماعية حينما يتخذون قرارًا بخصوص الحب أو حتى اختيار شريك الحياة، حيث سيبدو أن القرار الصحيح الوحيد هو القرار العقلاني، وستكون فيه الوظيفة غاية لا وسيلة، بل تكون غاية في المطلق في حد ذاتها.
تنبأ فكر ماكس فيبر بأن الناس سوف يتعلقون بشدة بوظيفتهم أو بعملهم دون التعلق بأي شيء آخر مثل القيم أو الدين
إذا نظرنا إلى جانب واحد بسيط من منظومة الأخلاق الرأسمالية الحديثة وهو العلاقات العاطفية مثلًا، انتقل الأمر تدريجيًا من الحياة البسيطة بين الجنسين في الماضي إلى ارتباط وثيق بإنفاق الأموال، وفي بعض الأحيان الكثير والكثير من الأموال، من أجل أن يتعارف الرجل على المرأة وأن يجمعهما رباط الزواج في المدن الكبيرة، ومن هنا ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد، حيث كان على الرجل إبهار المرأة بقدرته على إسعادها ورضاها من خلال شراء الهدايا ودعوتها للأماكن العامة مثل المطاعم والمقاهي ودور السينما.
يقول البعض إن أردت وضع سعر للحب فسيكون هذا السعر هو الزواج، وبغض النظر عن صحة هذه المقولة من عدمها، استنتج كثير من علماء الاقتصاد دراسات تربط العوامل الاقتصادية بالعوامل النفسية في اتخاذ قرارات بشأن الزواج والحب في كثير من الحالات المختلفة، كان من بينها تزايد تأخير زواج أرامل الحروب ممن راح أزواجهم ضحايا في الحرب العالمية الأولى والثانية بالتزامن مع زيادة مقدار المعاش الممنوح لأرملة الحرب، فكلما زاد المبلغ زادت قدرة المرأة الأرملة على الاعتماد على نفسها دون الحاجة للاعتماد على زوج، لتقل بالتبعية معدلات الزواج.
كان ذلك كله جزءًا من نظرية ماكس فيبر عن المجتمع الصناعي الحديث الذي نعد نحن منه جزءًا مهمًا، أسمى فيبر النظرية بنظرية “المجتمع البيروقراطي العاقل” من خلال تحليلاته للتغيرات والتحولات الجذرية ما بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث في إطار الرأسمالية الحديثة التي ستُشكل مستقبلنا الذي قال عنه إنه سُتحدده العقلانية والاستذهان وخيبة أملنا في العالم.