ترجمة وتحرير : نون بوست
أصبح تشخيص الإصابة بمرض التوحد منتشرا في صفوف الأطفال. ويعتقد الخبراء أن السبب يعود ربما لتقدم الآباء في السن، أو بسبب تلوث الهواء، وهناك حديث حول علاقة الأرقام المرتفعة بالمعايير المعتمدة لتشخيص الإصابة بهذا المرض.
في الفيلم الوثائقي بعنوان “الحياة مفعمة بالحيوية”، يظهر طفل صغير بشعر مجعد وأسود، وهو يقفز في حديقة منزله، ويرفع لعبة في شكل سيف، ويقول لوالده: “أنت الكابتن هوك وأنا بيتر بان”. هكذا يتخاطب الطفل أوين مع والده سون ساسكيند، في هذا المقطع من الفيلم الوثائقي، حيث ظهر الطفل أوين البالغ من العمر ثلاث سنوات، الذي كان منذ ولادته يتطور بشكل عادي، ثم توقف فجأة عن التواصل مع المحيطين به.
سرعان ما فهم والدا أوين أنه يعاني من التوحد، وهو اضطراب في النمو العصبي والذهني لدماغ الطفل، يمكن ملاحظته منذ مراحل مبكرة. ولكن هناك العديد من الاختلافات حول كيفية تعامل الأطفال مع هذا المرض؛ فبعضهم يتمكنون من العيش بشكل طبيعي، بينما يواصل البعض الآخر الاعتماد على مساعدة الغير طيلة حياتهم.
لقد ساهمت بعض الأفلام مثل “الحياة مفعمة بالحيوية”، والتقارير الإعلامية، في تسليط الضوء على ظاهرة التوحد ورفع الوعي الاجتماعي بها خلال السنوات الأخيرة. وفي نفس الوقت، ارتفع عدد حالات تشخيص الإصابة بالتوحد بسرعة في شتى أنحاء العالم.
كرر الطفل أوين ساسكيند مشاهدة أحد أفلام ديزني في سنوات طفولته، مرات ومرات عديدة، وقد استخدم والده حيلة ذكية للتواصل معه.
سنة 1966، أظهرت دراسة بريطانية أن 4.5 من كل 10 آلاف طفل تتراوح أعمارهم بين 8 و10 سنوات، مصابون بأعراض التوحد، وقد ارتفعت هذه الأرقام بشكل مهول لتبلغ سنة 2006 أكثر من 90 طفلا مصابا من بين كل 10 آلاف. وتدعم هذه التقديرات البيانات الصادرة عن المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها في أتلانتا، وهو يعتبر وكالة فيدرالية تابعة لوزارة الصحة.
في الواقع، تشير أرقام هذا المركز إلى أنه خلال سنة 2014، تم تشخيص إصابة 168 طفلا من بين كل 10 آلاف طفل تتراوح أعمارهم بين 8 و10 سنوات بهذا الاختلال، أي حوالي 1.7 في المائة من الأطفال الخاضعين لهذا الفحص. وفي ألمانيا، شهدت الأرقام ارتفاعا ولكن بوتيرة أقل، إذ أن النسبة ارتفعت بين 2006 و2010 من 0.22 بالمائة إلى 0.38 بالمائة.
احتمال عدم خضوع هؤلاء الأطفال لتشخيص طبي دقيق
يبدو أن مشكلة مرض التوحد في تفاقم، ولكن يرى العديد من الخبراء أنه يجب طرح تساؤلات جدية، حول ما إذا كان تزايد تشخيص حالات الإصابة بالتوحد يعني فعلا مزيد انتشار هذا المرض، أم أن الأمر مرتبط فقط بتغير النظرة والمعايير التي تجعل الناس يعتقدون بإصابة الطفل به.
مرض التوحد هو في الحقيقة متعدد من حيث أنواعه ودرجة حدته
في هذا السياق، ترى عالمة النفس إينجي كامب إيكر من قسم علم نفس الطفل والمراهقة في جامعة ماريبورغ، أن الأرقام المفزعة التي نشرتها مراكز البحث في الولايات المتحدة يجب أن تخضع هي بدورها للتدقيق والمراجعة. ففي الحقيقة، كانت هذه التقديرات مبنية على الملفات الشخصية، التي أنشأها المدرسون حول الأطفال في المدارس والحضانات. ويكتفي الخبراء بالنظر فيما إذا كان الطفل مصابا بالمرض أم لا بناء على ما ورد في هذه الملفات، دون فحص الطفل بشكل مباشر.
من هذا المنطلق، قالت كامب إيكر إن “هذا يعني أن هؤلاء الأطفال لم يتم فحصهم بشكل فعلي في الحياة الواقعية. ومن المؤكد طبعا أنهم يحملون بعض علامات التوحد، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم يعانون من خلل عميق في نمو قدراتهم العقلية”. كما تشكك خبيرة علم النفس في صدق هذه النتائج، وتتساءل عما ما إذا كان هؤلاء الأطفال قد تلقوا فعلا تشخيصا علميا على يد أطباء مختصين.
مما لا شكل فيه، تكتسي هذه الملاحظات أهمية كبرى، لأن مرض التوحد هو في الحقيقة متعدد من حيث أنواعه ودرجة حدته، لذلك يفضل الباحثون في هذا المجال الحديث عن طيف كامل من اختلالات التوحد. ولكن في نفس الوقت، هناك بعض الأعراض التي يعاني منها جميع الأطفال المصابين، وهي تعتبر بمثابة التعريف الأساسي للمرض، وأي طفل تظهر عليه هذه الأعراض، يجب مباشرة أخذه للطبيب.
تتضمن هذه الأعراض الأساسية العلامات التي عانى منها الطفل أوين ساسكيند، مثل العجز عن التواصل ومواجهة مشاكل في التخاطب مع الآخرين. ويمكن أن يواجه الطفل مشكلة في عدم تحمل التعرض للعديد من المحفزات الخارجية، لأن الطفل المصاب بالتوحد لا ينجح في التعامل مع المؤثرات المحيطة به، ويعجز عن تحملها. ومن أجل التأقلم مع الأصوات القوية والحياة الواقعية من حوله بكل أحداثها، التي لا يمكن توقعها، يطور الطفل المصاب بالتوحد استراتيجية خاصة به، تتمثل في سلوك محدد يقوم بتكراره بشكل منتظم.
بالنسبة لحالة الطفل أوين، فإن أهم أعراض التوحد متوفرة، لذلك فإن إصابته بهذا المرض هي أمر لا جدال فيه
تطور معايير التشخيص
إن هوس الطفل أوين كان مرتبطا بأفلام الرسوم المتحركة من ديزني، على غرار فيلم بيتر بان، حيث يقوم بإعادة بعض المقاطع من الفيلم وتكرار مشاهدتها مرة بعد أخرى. وقد قدم هذا الفيلم للطفل أوين نافذة سحرية، لرؤية العالم الذي كان معقدا جدا بالنسبة لطفل يعاني من التوحد.
من خلال المشاعر التي يتم التعبير عنها في الفيلم، التي قد يبدو مبالغا فيها بالنسبة لشخص عادي، أمكن لأوين فهمها وإيجاد تعريف لمشاعره الخاصة. وقد بدأت عائلته تتواصل معه باستخدام مقاطع وحوارات وردت في فيلم بيتر بان، الذي حفظه الطفل عن ظهر قلب، وذلك بعد أن فشلت كل محاولات مقدمي الرعاية الصحية للتواصل معه بالطرق العادية.
بالنسبة لحالة الطفل أوين، فإن أهم أعراض التوحد متوفرة، لذلك فإن إصابته بهذا المرض هي أمر لا جدال فيه. ولكن المعايير المعتمدة لتشخيص التوحد تطورت مع مرور الزمن، فمنذ أن وصف عالم النفس النمساوي الأمريكي ليو كانر مرض التوحد للمرة الأولى سنة 1943، شهدت معايير التشخيص تغييرات وتطورات مع مرور الزمن، حتى أن البعض يصفونها بأنها باتت أكثر تساهلا في تشخيص التوحد.
في الحقيقة، يستند التشخيص على عدد من الدراسات حول هذه المعايير، الواردة في النسخة الرابعة من كتيب “تشخيص وإحصائيات الاختلالات العقلية”، الذي يعد بمثابة إنجيل علم النفس في الولايات المتحدة. وقد تواصل التزام العديد من الباحثين والأطباء وعلماء النفس بهذه النسخة الرابعة، إلى حدود سنة 2013.
لكن تقول الدكتور إينجي كامب إيكر إنه “لا تزال هنالك العديد من التصنيفات غير الدقيقة، والمعايير غير المنطقية، مثل اعتبار أن مشكلة واحدة مثل صعوبات الاتصال تعد كافية لتشخيص الإصابة بالتوحد. وربما يكون هذا الأمر من الأسباب التي أدت لتزايد عدد الذين يعتبرون مصابين بهذا المرض”.
في دراسة شاملة، تبين أن 62 من بين كل 10 آلاف شخص في العالم يعانون من التوحد
بناء على ذلك، كانت النسخة الخامسة من كتيب “تشخيص وإحصائيات الاختلالات العقلية” أكثر تشددا حول شروط الإقرار بالإصابة بالتوحد. فعلى سبيل المثال، من أجل تشخيص الإصابة المرض، يجب أن يكون هنالك ما لا يقل عن اثنين من الأنماط السلوكية المتكررة والمرتبطة بهذا المرض. وربما ستساعد هذه التغييرات مستقبلا على إصدار بيانات أكثر دقة حول مدى انتشار التوحد.
إن التحليلات التي أجريت مؤخرا، أثبتت أنه في صفوف الأطفال الخاضعين للفحوصات والدراسات، بات يتم تشخيص نسبة أقل من المصابين بالتوحد منذ الشروع في الاعتماد على هذه النسخة الخامسة. وفي دراسة شاملة، تبين أن 62 من بين كل 10 آلاف شخص في العالم يعانون من التوحد، وهو رقم أقل بكثير من رقم 168 الذي تم إصداره سنة 2014، بناء على دراسة شملت فقط تلاميذ المدارس الابتدائية.
أما حقيقة كون نسب الإصابة بالتوحد في الولايات المتحدة لا تزال مرتفعة أكثر من أوروبا، فهو يعزى إلى سبب آخر. حسب الدكتورة كامب إيكر “تنص القوانين في الولايات المتحدة على أن الأطفال المصابين بنوع من الإعاقة يمكنهم الحصول على دعم اجتماعي وصحي بحسب احتياجاتهم. لذلك، تسعى الكثير من العائلات الأمريكية التي لا تمتلك تأمينا طبيا، للحصول على تشخيص لأطفالها بمرض التوحد، حتى تضمن لهم الدعم والرعاية من قبل الدولة”.
في بعض الولايات الأمريكية، يكفي أن يكتب أحد المدرسين في الملف الطبي للطفل أنه مصاب بالتوحد، حتى يحصل هذا الطفل على امتيازات خاصة. وبشكل عام، إن احتمالات تشخيص الإصابة بالتوحد تتزايد في البلدان التي تقدم الرعاية الطبية المناسبة لهذا المرض.
يتناسى الكثيرون أن 45 في المائة من المصابين بالتوحد يعانون فعليا من قصور عقلي واختلالات، تؤدي إلى عجزهم عن عيش حياتهم اليومية بشكل عادي أو مزاولة العمل.
الجانب الإيجابي
يرى بعض الخبراء، مثل عالم النفس ستيفان روبكي من مؤسسة شاريتي في برلين، أن تغير النظرة حول التوحد لم يشمل فقط الخبراء، بل إن آراء الناس العاديين أيضا تغيرت بمرور الوقت، حيث بات هؤلاء ينظرون لاختلالات التطور المسماة توحدا بطريقة مختلفة عن الماضي.
حيال هذا الشأن، قال الدكتور روبكي إنه “خلال السنوات والعقود الأخيرة، طرأت على صورة مرض التوحد في المجتمع تغييرات كبيرة. وعلى عكس المشاكل الأخرى مثل انفصام الشخصية، التي لا تزال ينظر إليها على أنها مرض خطير، فإن الأحكام المسبقة حول مرض التوحد تراجعت بشكل كبير، والفضل في ذلك يعزى إلى بعض الأعمال السينمائية مثل فيلم “رجل المطر”، الذي يظهر عبقرية شخص مصاب التوحد”.
في فيلم “رجل المطر”، الذي يظهر فيه الممثلان داستن هوفمان (مصاب بالتوحد) وتوم كروز، تم تسليط الضوء على من يعانون من هذه الاختلالات
أصبح الناس أكثر وعيا بشأن أعراض التوحد، وأكثر استعدادا وتقبلا لفكرة التوجه بالأطفال إلى الطبيب، من أجل الحصول على تشخيص علمي. ولكن يتناسى الكثيرون أن 45 في المائة من المصابين بالتوحد يعانون فعليا من قصور عقلي واختلالات، تؤدي إلى عجزهم عن عيش حياتهم اليومية بشكل عادي أو مزاولة العمل.
مع ذلك، إن تصوير المصابين بالمرض على أنهم أذكياء وعباقرة، رغم ما يحمله ذلك من صورة مشرقة ومتفائلة، هو أمر يزعج علماء النفس من أمثال الدكتورة إينجي كامب إيكر، التي تقول إنه “خلال دراسة أجريت مؤخرا، تبين أن الطلبة باتوا يربطون بين التوحد والقدرات الذهنية العالية، أكثر من أشكال العجز والإعاقة”.
تلوث البيئة وتلوث الهواء بمواد مثل المبيدات الحشرية والمعادن الثقيلة، كلها عوامل إذا تعرضت لها الأم في مرحلة الحمل أو تعرض لها الطفل إثر الولادة، تزيد من خطر الإصابة بالتوحد
معايير أكثر تشددا حول تشخيص التوحد
هل يمكن أن نعزو ازدياد حالات الإصابة بالتوحد إلى تغير الوعي وتطور معايير التشخيص؟ هذا ليس بالأمر السهل، إذ أن بعض العوامل والتأثيرات البيئية، يمكن أن تكون هي السبب الأقوى وراء ارتفاع معدلات الإصابة بالتوحد. وعلى الرغم من أن البيانات الرسمية لا تزال غير دقيقة في هذا الشأن، فإن الدكتور ستيفان روبكي يشير إلى وجود أدلة على أن إصابة الأم بنوع من العدوى أو الالتهابات في فترة الحمل يزيد من احتمالات الإصابة بالتوحد، إلى جانب دور مشكلة نقص الفيتامين “دي” والأحماض الدهنية “أوميغا3”.
بالإضافة إلى ذلك، إن تلوث البيئة وتلوث الهواء بمواد مثل المبيدات الحشرية والمعادن الثقيلة، كلها عوامل إذا تعرضت لها الأم في مرحلة الحمل أو تعرض لها الطفل إثر الولادة، تزيد من خطر الإصابة بالتوحد. ومن جهة أخرى، هناك أيضا أدلة موثقة حول التأثير المباشر لعمر الوالدين على احتمالات إصابة الطفل. وبشكل خاص، إن عمر الأب العامل الأكثر تأثيرا، حسب دراسة شملت الآلاف من الآباء. لذلك، إن احتمالات ظهور التوحد لدى الطفل الذكر تزيد من 0.6 بالألف، إلى 3.2 بالألف إذا تجاوز عمر الوالد 50 سنة.
الابن أوين رفقة والديه روين وكورنيليا ساسكيند في أحد مهرجانات الأفلام. الطفل البالغ من العمر ثلاث سنوات أصبح الآن شابا.
تبين الإحصاءات التي أجريت على المولودين من آباء كبار في السن، أن واحدا من بين كل 300 طفل يصاب بالمرض. وفي الواقع، إن عمر الوالدين، وزيادة معدلات تلوث الهواء، هي العوامل التي ازداد حضورها بشكل قوي في العقود الأخيرة، وبالتالي يمكن أن تفسر الطفرة في انتشار المرض. كما يقول الدكتور روبكي إنه في المجتمعات الصناعية، ارتفع سن الزواج وإنجاب الأطفال، وانتشر تلوث الهواء بسبب الأنشطة الصناعية والازدحام الحضري.
لكن مثلما هو الحال مع كل الأمراض العقلية، تعزز هذه العوامل البيئية الاستعداد الجيني الموجود أصلا لدى الطفل للإصابة بالمرض. كما بين الدكتور روبكي “بالتأكيد لن تجد جينا واحدا يسبب الاختلالات العقلية، بل إن هنالك المئات وربما الآلاف من الجينات التي يجب أن تجتمع كلها لتسبب التوحد، وهذا الأمر يمكن أن يبدأ منذ لحظة اندماج البويضة مع الحيوان المنوي”.
من المؤكد أن هذه الظروف هي التي اجتمعت حتى يصاب الطفل أوين ساسكيند بمرض التوحد، إلا أن أوين الذي ظهر في فيلم “الحياة مفعمة بالحيوية”، أصر على مواجهة مشاكله، والمضي قدما، على الرغم من اكتشافه شيئا فشيئا أن الحياة الحقيقية ليست بسيطة مثل أفلام ديزني. ورغم هذه الصعوبات، تطورت قدرات أوين ليصبح شابا ناضجا وتمكن من إيجاد مكان له في الحياة. وهو يعتبر طفلا محظوظا، مقارنة بآخرين يعانون من التوحد ولم تتح لهم نفس هذه الظروف.
المصدر: فيلت