“لم أعرفك حين صافحتني، سامحني عرفتك وهم يجرُّونك، هل تذكر قصة أم محمد ورقصها أمام المقاتل العائد؟ تذكرت القصة وخجلت منك...”.. قال زياد خداش وهو يرد على صديقه مهند أبو غوش الذي اُعتقل وسُحل من الأجهزة الأمنية ورجال بلباس مدني قمعوا مسيرة التضامن مع غزة التي حملت شعار “ارفعوا العقوبات عن غزة”، والتي عقدت على دوار المنارة في مدينة رام الله مساء أمس الأربعاء 13 من يونيو/حزيران 2018.
سرعان ما اتهم الحراك على دوار المنارة بأنه مسيس من حركة حماس في الضفة، لكن الحاضرين كان أكثرهم ناشطون يساريون وصحفيون وآخرون غير محسوين على أحد. اليسار الفلسطيني اليوم في الضفة الغربية بدأ نهجًا مختلفًا تمامًا عن سياسات السلطة، وليس اليسار بكليته، فهو منقسم على نفسه، لكن التيار الأقرب للجبهة الشعبية التي انسحبت من حضور اجتماعات المجلس الوطني الأخير، هم من يقودون جزءًا من الحراك هناك، ولا ننسى أن كان لهم أكثر من حراك سابق ضد بعض سياسات حماس في غزة أيَضا.
لماذا كل هذا الرعب من أي حراك في الضفة الغربية؟
تتخوف السلطة من أي حراك في الضفة الغربية يؤدي إلى تفجر الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي الهش أمنيًا عبر اتفاقيات التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلالها ينفذ الاحتلال حملات اعتقال يوميًا للمواطنين في الضفة دون الشعور بأي أمان، فقد تزامن اعتقال أجهزة السلطة الأمنية للمتظاهرين على دوار المنارة اعتقال قوات الاحتلال لـ9 مواطنين ليلًا في مناطق متفرقة صبيحة اليوم هذا اليوم.
غالبًا ما يتهم أي حراك يختلف مع نهج فتح والسلطة تاريخيًا في الضفة الغربية بمختلف القضايا البعيدة عن سياقاتها الوطنية
وإضافة لتقسيم مدن الضفة لمناطق متفرقة ترتبط فيما بينها عبر حواجز تفتيش لجنود الاحتلال، لم تستطع السلطة أيضًا أن توقف التمدد الجغرافي الكبير للاستيطان في الضفة، وأما سياسيًا عبر تفرد جزء من حركة فتح بالقرار السياسي الفلسطيني بالكامل بعيدًا عن مؤسسات السلطة التشريعية أو غياب للانتخابات الديمقراطية، واقتصاديًا عبر تنامي حالة الديون الكبيرة بعد سياسة رئيس الوزراء السابق سلام فياض في الخصخصة وتوفير قروض ميسرة لأهل الضفة.
لذلك غالبًا ما يتهم أي حراك يختلف مع نهج فتح والسلطة تاريخيًا في الضفة الغربية بمختلف القضايا البعيدة عن سياقاتها الوطنية، إذ كان من الطبيعي قمع أي مسيرة تخالف سياسات السلطة حتى ولو كانت ضد المدنيين في غزة بعيدًا عن موقفها السياسي ضد حركة حماس، لكن الإجراءات العقابية الأخيرة التي اتخذها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بحق موظفي السلطة الفلسطينية الذين جلسوا في البيت بأوامر شخصيه منه، وكذلك بحق سكان غزة لا تختلف عن أي إجراء للاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة بحجة محاربة حماس.
عنف بشكل جديد.. هل قمعت منظمات أمنية خاصة المسيرة؟
الضفة التي لم تتحرك طيلة ثلاثة حروب متتالية على غزة ووقفت موقف المتفرج حتى في مسيرات العودة السلمية التي وافقت نهج السلطة الفلسطينية في مسيرات العودة، بدت تتخذ شكلًا تقليديًا لأي حراك تضامني، لكن وصف العديد من السياسيين الفلسطينيين وداخل الاحتلال الإسرائيلي أن الضفة تجلس على برميل بارود يتوافق عكسيًا مع قوة القبضة الأمنية المفروضة على المؤسسات كافة بأشكالها الصحفية والاقتصادية كذلك كل الشخصيات بمراقبتهم التامة.
شركات أو منظمات أمنية خاصة هي التي قمعت مسيرة التضامن مع غزة على دوار المنارة للحفاظ على شكل السلطة الوهمي في الضفة من عدم الانهيار، كان واضحًا نظرًا لأن أغلب الذين شاركوا في قمع المسيرة من رجال الأمن بزي مدني، وفق مشاهد الفيديو الكثيرة التي عرضتها الشبكات الاجتماعية في فلسطين، وتظهر استخدام العنف من رجال أمن مدنيين ضد المشاركين في المسيرة، وعلى شاكلة المستعربين الذين يستخدمهم الاحتلال الإسرائيلي في خطف وقتل واعتقال الفلسطينيين ظهر كثير من الرجال بزي مدني.
في هذا السياق قالت الصحفية ريهام المقادمة إحدى المشاركات في مسيرة دوار المنارة: “تعرضنا للضرب والسب والتهديد بسحب التليفونات، اعتقالات وقنابل غاز وصوت وضرب بالكهرباء، قوات شغب ملأت المنارة، ليش، مشان أجواء العيد ما تتعكر”.
وقد انتشرت منذ الانقسام الفلسطيني عام 2006 في الضفة الغربية شركات أمنية قتالية فلسطينية خاصة تم تدريبها على أيدي محترفين أمريكان أو شركات أمنية أمريكية قتالية مثل بلاك ووتر، مجهزة لإدارة الملفات الأمنية المتعلقة بالجامعات الفلسطينية في الضفة أو قمع أي حراك سياسي أو القيام بعمليات مداهمة واعتقال خاصة.
حركة فتح: لا يوجد عقوبات والمسيرات مدبرة!
ردت السلطة على مسيرات المنارة بالتخوين وفق ما صرح به عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد في تصريح لإذاعة فلسطين الرسمية صباح الخميس 14 من يونيو 2018 قائلًا: “آن الأوان لرفض أي كلام يتحدث عن وجود عقوبات على قطاع غزة، واصفًا ذلك بالافتراءات”.
وأشار عضو تنفيذية منظمة التحرير إلى أن بعض الفصائل تتخذ من شعار مشكلة الرواتب في قطاع غزة هدفًا لتحقيق مطالب ذاتية لها ولتشويه صورة الوضع الفلسطيني وتمزيقه، قائلاً “بعد الآن لن نصمت وسنتصدى لكل الانقساميين في الساحة الفلسطينية”.
ورغم نفي الأحمد وجود عقوبات على غزة قطعيًا، أكد في لقاءات تليفزيونية سابقة وجود عقوبات تتخذها السلطة ضد غزة أهمها قطع رواتب الشؤون الاجتماعية للفقراء، وعدم تحويل المستحقات المالية لـ75 ألف أسرة في قطاع غزة تحت خط الفقر الشديد، وحملات تقاعد مبكرة طالت 7 آلاف موظف من السلطة، وخصومات على موظفي السلطة في غزة، إضافة إلى وقف التحويلات الطبية للمرضى في غزة ووقف إمدادات الدواء على القطاع الصحي، وإغلاق مئات الحسابات البنكية لشخصيات ومؤسسات وشركات في غزة، ووقف دفع فاتورة الكهرباء، وكلها إجراءات تمس المواطن في قطاع غزة بالدرجة الأولى.
كذلك كشفت تصريحات سابقة للرئيس الفلسطيني محمود عباس بدأت في يوليو 2017 قائلًا: “على قيادات حركة حماس في غزة أن تعلم أننا قد نلجأ إلى فرض عقوبات مالية وفورية في حال إصرارها على الانقلاب على مؤسسات الدولة الفلسطينية في رام الله”.
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس في نهاية كلمته بعد اتهام حماس بتدبير تفجير موكب رئيس الوزراء رامي الحمد الله في غزة قد قال: “قررت اتخاذ الإجراءات الوطنية والقانونية والمالية كافة من أجل المحافظة على المشروع الوطني”.
تعليقًا على تصريحات الأحمد بعدم وجود عقوبات على غزة، ردت حماس في بيان على لسان الناطق باسمها فوزي برهوم قائلًا: “استمرار عزام الأحمد في لغة التكذيب والتخوين لشعبنا ولفصائله الوطنية لن تعفي سلطة وحكومة المقاطعة من مسؤولياتها عن قمع واختطاف المتظاهرين السلميين في الضفة، ودورها المشين في تجويع أهلنا في غزة وقطع رواتبهم ومخصصاتهم ومحاربتهم في قوت أولادهم”.
ودعت حماس في بيان آخر سابق قيادة السلطة الفلسطينية للإنصات لصوت الشارع الفلسطيني ووقف العقوبات المفروضة على غزة فورًا ومراجعة سياسات التفرد والهيمنة على القرار السياسي والعودة لمسار المصالحة والإفراج الفوري عن كل المختطفين في مسيرة دوار المنارة، مطالبة المؤسسات الحقوقية والفصائل الفلسطينية ولجنة الحريات لتحمل مسؤولياتها أمام ما يجري.
الحقوقيون يدينون والسلطة تتخوف
عشرات المؤسسات الحقوقية أدانت القمع والعنف المستخدم ضد المتظاهرين في مسيرة دوار المنارة برام الله، فقد قالت نقابة المحامين الفلسطينيين: “ندين فض الأجهزة الأمنية لحراك #ارفعوا_العقوبات باستخدام القوة بما فيه من اعتداء على الحريات والحقوق، ونؤكد ضرورة تنفيذ مقررات المجلس الوطني برفع العقوبات عن قطاع غزة”.
خروج مسؤولي السلطة لتخوين المشاركين ونفي وجود العقوبات قد يجعل الحراك يتجه نحو المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية وهو ما تخشاه السلطة ليس للثورة ضدها فقط بل لإشعال الضفة كاملة مرة ثانية
في حين قال الرئيس السابق للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده: “من يتحمل مسؤولية الاعتداءات على مسيرة رام الله اليوم رامي الحمد الله بصفته وزيرًا للداخلية ورئيسًا للوزراء ومحافظة رام الله ليلى غنام التي نسقت وهندست مع الأجهزة الأمنية والزعران عملية القمع الوحشية للمتظاهرين”.
يتخذ حراك مسيرة دوار المنارة بالأمس شكلًا أكثر قوة من سابقه نظرًا لنوعية المشاركين فيه من اليسار الذين هاجموا سياسة السلطة بقوة في الفترة الأخيرة، وأدى نزولهم المتكرر للميدان تجربة أكثر تطورًا للتعامل مع أساليب القمع التي تنتهجها السلطة، وخروج مسؤولي السلطة لتخوين المشاركين ونفي وجود العقوبات قد يجعل الحراك يتجه نحو المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية وهو ما تخشاه السلطة ليس للثورة ضدها فقط بل لإشعال الضفة كاملة مرة ثانية.