أصبح التحالف بين أنقرة والدوحة في السنوات الأخيرة موضع تركيز متجدد، خاصة مع الحملة التي تقودها المملكة العربية السعودية، فقد أدى الحصار الدبلوماسي لقطر من دول الخليج العربي التي تقودها السعودية إلى ترسيخ العلاقات بين دولة السياحة المزدهرة ودولة البتروكيماويات الصغيرة، حتى أصبح لدى البلدين علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية متينة بشكل متزايد، غالبًا ما تضعهما على خلاف مع دول الخليج المجاورة.
المشهد ما بعد الـ11 من سبتمبر
تمكنت تركيا وقطر من أن يصبحا أكثر تأثيرًا وسط الجعرافية السياسية المعقدة للشرق الأوسط، مستفيدين من التنافس الطائفي المتصاعد بين المملكة العربية السعودية وإيران، محذرين في الوقت نفسه من النفوذ الشيعي الإيراني، لكنهما فضَّلا أيضًا عدم الوقوع تمامًا في فلك السعودية.
ورغم الفراغ الجيوسياسي الذي ظهر بإزاحة أمريكا لنظاميْ الحكم في أفغانستان والعراق عقب هجمات 11 من سبتمبر/أيلول 2001، فإن الدولتين تجنبتا الانخراط في التنافس السعودي الإيراني الذي أُعيد إحياؤه وتكثيفه في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الـ21، حيث ظهرت إيران كدولة مهيمنة في الإقليم بعد هدم اثنين (أفغانستان والعراق) من أشد أعداءها.
مهد السياق الإقليمي في أعقاب 11 سبتمبر الطريق أمام تركيا وقطر كي تلعبا دورًا نشطًا، واتخذت البلدان سياسات وأدوات مماثلة حين وسّعتا نطاق نشاطهما في المنطقة، في وقت كانت البلدان الخليجية ذات الكثافة الشيعية الكبيرة – مثل السعودية والبحرين – تشعر بالرعب من محاولة إيران خلق هلال شيعي، يمتد عبر العراق وسوريا ولبنان ويصل أراضيهم.
ورغم أن الخطاب الأمريكي وتحركاته تجاه إيران قد دفع الأخيرة لاتخاذ موقف دفاعي عدواني تجاه المنطقة، وأضر بدول المنطقة، إلا أنه لم يُلحق الأذى بالدولتين، بل ساعد على تعزيز قوتهما، وكان المشهد في المنطقة مواتيًا لكلا البلدين، وقد سعت السعودية إلى صداقتهما لمواجهة تصاعد إيران.
في التسعينيات، واجهت قطر تحديات غاية في الصعوبة، جعلت من التقارب مع تركيا وغيرها من الدول الإقليمية والدولية أمرًا حتميًا
وفي التسعينيات، واجهت قطر تحديات غاية في الصعوبة، جعلت من التقارب مع تركيا وغيرها من الدول الإقليمية والدولية أمرًا حتميًا، ففي مطلع 1996 واجه أمير قطر آنذاك الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني محاولة انقلاب فاشلة بعد أشهر تقريبًا من توليه السلطة، سبقها انسحاب قطر من المناورات العسكرية الجارية في دول الخليج على خلفية معركة حدودية بين قطر والسعودية، ثم في 1994 وقعت مناوشات حدودية ثانية بين البلدين.
هذا الخلل في القوة العسكرية لم يدع لقطر أي خيار سوى اتباع خليط من سياسات الموازنة، والاعتماد على حماية قوة إقليمية أو دولية، وهكذا كان عام 1992 حاسمًا حين وقعت قطر مع الولايات المتحدة اتفاقية تعاون دفاعي، تُمكّن الجيش الأمريكي من الوصول إلى القواعد العسكرية في قطر، ولكن يبدو أن سياسة قطر الناجحة أثارت غضب السعودية عليها.
وفيما بدا جزءًا من استخلاصات أزمة سحب السفراء الخليجيين في مارس/آذار 2014، وقّعت قطر مع تركيا اتفاقية التعاون العسكري والصناعات الدفاعية التي تتضمن إنشاء قاعدة عسكرية تركية على أراضيها في نهاية عام 2014، ونصت الاتفاقية على إمكانية نشر متبادل لقوات تركية على الأراضي القطرية وقطرية على الأراضي التركية.
تحالفات ما بعد الربيع العربي
ومع مرور الوقت، ظهرت تركيا وقطر كلاعبين استباقيين في الشرق الأوسط، وقد رفعتا صورتهما بين الدول من خلال جهود الوساطة في عدد من الصراعات، بما في ذلك محاولة الشروع في المبادرة مع البرازيل بشأن البرنامج النووي الإيراني عام 2010، وجهود الوساطة بين “إسرائيل” وحماس.
ومع الظهور المتصاعد لتركيا وقطر خلال العقد الأول من القرن الحاليّ، كانت السعودية والإمارات حذرتين، لكنهما لم يكونا متسامحتين مع هذا التقارب، فقطر وتركيا أقامتا علاقات قوية مع جميع الأطراف، وبحلول الربيع العربي أصبح البلدان أكثر اللاعبين الإقليميين نشاطًا داخل الشرق الأوسط وخارجه.
ومع احتدام الاحتجاجات ضد الأنظمة الأوتوقراطية في المنطقة، بالتزامن مع ثورات الربيع العربي عام 2011، شكّل دعم أنقرة والدوحة للقوى المرتبطة بجماعة “الإخوان المسلمين” تحديًا لأمن الخليج العربي، حتى أصبح هذا الدعم أكثر نشاطًا مع ثورات الربيع العربي، لمواجهة أنظمة قلقة أرادت الحفاظ على الوضع الراهن.
وعلى عكس دول الشرق الأوسط الأخرى، لم تشهد تركيا وقطر تهديدًا كبيرًا على خلفية صعود جماعة الإخوان المسلمين، حيث طور كلاهما علاقاته معها طوال العقد الأول من القرن الحاليّ، ففي مصر، بعد عزل حسني مبارك، أصبحت أنقرة والدوحة من المؤيدين الرئيسيين للرئيس المعزول محمد مرسي المدعوم من الإخوان، وعندما أُطيح بمرسي نفسه عام 2013 بعد مرور عام على توليه منصبه، أصبحت تركيا وقطر معزولتين، وواجهتا رد فعل إقليمي، الأمر الذي دفعهما إلى التقارب.
تحرك تركيا وقطر تجاه الربيع العربي وخاصة في سوريا ومصر وتونس وليبيا، أورثهما عداءً خفيًا من الأطراف العربية التي أحست بالزلزال يهز عروشها
ورغم أن انطلاق الربيع العربي ألقى بالمنطقة في اضطراب جديد، فإن قطر وتركيا تموضعتا واستجابتا لتلك التطورات، فبعد أن تأكدا من جدية التحرك الشعبي، وكثف البلدان جهودهما لتطوير علاقات اقتصادية وسياسية أقوى مع الحكومات التي جاء بها الربيع العربي في تونس ومصر.
كانت قطر أول من هنأ الشعب التونسي بعد مغادرة بن علي للبلاد، وعبرت عن “احترامها لإرادة واختيار الشعب”، وقبلها كانت قناة “الجزيرة “أول من أذاع شريطًا لتضحية محمد البوعزيزي بنفسه أواخر 2010، وقدمت صوت الشارع التونسي للعالم، ثم تبعتها تركيا في يناير/كانون الثاني 2011 عندما أعلنت رسميًا تأييدها لمطالب التونسيين بالحرية والديمقراطية.
وعن الحرب في سوريا، حيث كانت تركيا وقطر والسعودية – سواء من خلال الدول أو من خلال المبادرات الخاصة – قد دعموا مجموعة من المعارضة والفصائل المسلحة، لكن الرياض كانت على موعد مع تغيير سياستها تجاه سوريا مرة أخرى بعد الربيع العربي، فبمجرد أن أدركت السعودية أن هذه الإستراتيجية فشلت، حاولت التقارب مع سوريا على أمل إضعاف علاقاتها مع إيران.
وفي مقابل موقف تركيا وقطر الثابت من الأزمة السورية، فشلت السعودية، فلم تبتعد حماس ولا حزب الله ولا نظام الأسد في سوريا عن إيران، ولم تتم هزيمة الحوثيين في اليمن التي اعتبرتها السعودية تقدمًا آخر من جانب إيران، وأصبحت هناك حكومات مؤيدة لإيران تمسك زمام السلطة بقوة في بغداد بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
المحن تصنع حلفاءً جددًا
تحرك تركيا وقطر تجاه الربيع العربي وخاصة في سوريا ومصر وتونس وليبيا، أورثهما عداءً خفيًا من الأطراف العربية التي أحست بالزلزال يهز عروشها، بدا هذا العداء أكثر في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا ومحاولات الضغط على قطر التي انبثقت عنها الأزمة الخليجية الحاليّة؛ فما ذلك إلا إجراءات انتقامية لموقف البلدين من ثورات الشعوب، وموقف “الجزيرة” المهني بصفة خاصة.
وبعد سنوات الفشل في ضم حلفاء جدد، لم تجد السعودية أمامها سوى دول الخليج لتصنع منها هيكلًا تقوده نحو تحقيق ما تصبو إليه من منافسة لإيران، حتى ولو استلزم الأمر استخدام وسائل ضغط وتهديد تنافي مبادئ مجلس التعاون الخليجي، وهو ما حدث بعد رفض قطر للسياسيات الخليجية التي تقودها الرياض وأبو ظبي.
ولم تكن أزمة الخليج الحاليّة وليدة اللحظة، بل نتاج تاريخ ممتد من محاولات لم تتوقف للسيطرة على مجريات الأمور في منطقة الخليج من جانب بعض الأطراف العربية، فالاتهامات والعقوبات وإن بدا أنها نتيجة ضغط أمريكي، إلا أنها وافقت هوى ورغبة دفينة لدى فاعلين في الخليج.
ويمكن اعتبار الحملة الأخيرة ضد قطر تتويجًا لعاصفة طويلة المدى، تدفع الدوحة ثمن تحديها الوضع الراهن باكتسابها حلفاء جدد، فقد عبّر المسؤولون الأتراك عن جهودهم كوسطاء، لكن الوساطة لم تُجدِ نفعًا، فتعزز الأزمة التحالف التركي القطري عن طريق الشدائد، وقد كان عام من الحصار كافيًا لمواجهة العاصفة.
يمكن اعتبار الحملة الأخيرة ضد قطر تتويجًا لعاصفة طويلة المدى، تدفع الدوحة ثمن تحديها الوضع الراهن باكتسابها حلفاء جدد
ومن الناحية العسكرية، كانت الأزمة فرصة للتقارب العسكري والاقتصادي، فقد قدمت تركيا موقفًا متقدمًا بخصوص أزمة قطع العلاقات مع دولة قطر بموافقة برلمانها على نشر مزيد من القوات التركية على الأراضي القطرية، فقد صوّت البرلمان التركي يوم 7 من يونيو/حزيران الفائت على مشروعيْ قرار، يتعلق الأول بتدريب وتأهيل قوات الدرك القطرية، والثاني بتطوير اتفاقية التعاون العسكري المبرمة مسبقًا بين البلدين.
كما شهدت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وقطر في الأشهر الأخيرة ما يمكن أن يطلق عليه “ثورة اقتصادية” كبيرة، وبعد أن شهد عام 2016 بدايات هذه الثورة حصلت القفزة الكبرى عام 2017 مع اندلاع الأزمة الخليجية في حين تبدو التوقعات لعام 2018 طموحة لتحقيق نقلة أكبر من التي شهدها العام السابق، وبينما لم يتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 174 مليون دولار في عام 2016، قفز إلى 1.1 مليار دولار في 2017، مع توقعات برفع الرقم إلى 3 مليارات العام الحاليّ.
هذا التقارب العسكري جاء متسلحًا بـالتقارب السياسي الكبير المتواصل بين البلدين وتوحد رؤيتهما تجاه جميع ملفات المنطقة، فيما أعطت الأزمة الخليجية، وما رافقها من إجراءات من دول الحصار ضد قطر، دفعة قوية جديدة لتطوير وتعزيز العلاقات الاقتصادية بين تركيا وقطر وإيجاد منحى جديد عبر التركيز على الصناعة والاستدامة مع عدم الاكتفاء بالتبادل التجاري، لتجد القيادة التركية – أخيرًا – في قطر الحليف العربي الأكثر ثقة لأنقرة، وسط النكسات الكبرى والإستراتيجيات الفاشلة في الشرق الأوسط المضطرب.