اعتنى أدباء العرب بذكر المناسبات الدينية في كتاباتهم بشكل فائض، إذ تنوعت إنتاجاتهم الأدبية بين المقال والشعر والنثر، لتحظى كل مناسبة دينية واجتماعية بمساحتها الخاصة من ذاكرة الأدب والثقافة العربية، لا سيما الأعياد التي استقبلوها تارة بمشاعر من فرح وتارة أخرى بحزن وأسى، خاصة أنها عكست الأحوال الاجتماعية والمادية في البلاد والأمة الإسلامية بصفة عامة.
ولا شك أن طقوس هذه الأعياد شكلت جزءًا من الهوية، وغيابها أثار مشاعر الحنين والانتماء لديهم، كما ازداد ثقلها العاطفي أهمية في يومنا الحاضر بعد أن أصبحت تعد مظهرًا من مظاهر تجاوز التعصب الديني ورمزًا للديمقراطية والحرية الطائفية في بعض الدول التي تعاني فيها الأقليات المسلمة من الاضطهاد والتهميش.
زمن العيد الجميل
مع تبدل الأزمنة واختفاء بعض العادات، فقد العيد بهجته وقيمته التي شرعت في المقام الأول لأهداف واضحة فيها استشعار بقبول العبادات واستحضار لقوة وعزة الأمة الإسلامية الموحدة والمستقرة.
وتعليقًا على الأوضاع الحاليّة، كتب مصطفى صادق الرافعي في كتابه الشهير “وحي القلم” مقالتين شهيرتين بعنوان “المعنى السياسي للعيد” وآخر بعنوان “اجتلاء العيد”، وكانت كتاباته توضح المعنى الحقيقي للعيد البعيد كليًا عن المظاهر الشكلية والمادية والمبني في الأساس على التراحم والتسامح والتوحد بين أفراد الأمة الواحدة، فقال: “ما أشد حاجتنا نحن -المسلمين – إلى أن نفهم أعيادنا فهمًا جديدًا، نتلقاها به ونأخذها من ناحيته، فتجيء أيامًا سعيدة عاملة، تنبه فينا أوصافها القوية، وتجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق.
فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم؛ وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة؛ وكانت عبادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة؛ له مظهر المنفعة وليس له معناها”.
وفي أبيات شعرية، يوضح أبو إسحاق الألبيري الفكرة نفسها عن المعنى الحقيقي للعيد، ويحاول توجيه أنظار المسلمين إلى هذه المناسبة التي لطالما اتسمت بالاحتفال بطاعة الله، وليس التفاخر والتكبر، فقال:
ما عيدك الفخم إلا يوم يغفر لك .. لا أن تجرَّ به مستكبرًا حللك
كم من جديد ثيابٍ دينه خلق .. تكاد تلعنه الأقطار حيث سلك
ومن مرقع الأطمار ذي ورع .. بكت عليه السما والأرض حين هلك
مدح السلاطين وهجائهم
استغلت هذه المناسبة الدينية من بعض الشعراء للتقرب من السلطان، فكانت تهنئتهم بالعيد عبارة عن مدح بكرم وفطنة الأمير ودعاء له بطول العمر وامتداد الخير، ومن أبرزها ما جاء في كتاب لباب الآداب للثعالبي من القسم الثاني في السلطانيات: “عاودتك السُّعود، ما عاد عيد، واخضرَّ عودٌ، تقبَّلَ الله منكَ الفَرْض والسُّنة، واستقبل بكَ الخير والنعمة، عاد السرور إليك في هذا العيد، وجعله مبشرًا بالجد السعيد، والخير العتيد، والعمر المزيد، جعلك الله من كل ما دعي ويدعى بهِ في الأعياد، آخذًا بأكمل الحظوظ، وأوفر الأعداد، أفطَر وأكبادُ الحُشاد تنفطر والدنيا بعينك تنظر، وبالسعود تبشر، كيف نهنئك بالعيد وأيامك كلها أعياد، ولياليك أعراس، وساعاتك تواريخ، وأوقاتُك مواقيت، يا أكرمَ من أمسى وأضحى، سعدت بهذا الأضحى، عرَّفك الله من السَّعادات ما يُرْبي على عَدَدِ من حَجَ واعتَمَر، وسعى ونَحَر، جعل الله أعاديك كأضاحيك.
في سياق آخر، كتب أبو الطيب المتنبي قصيدة هجائية عبر فيها عن مرحلة اليأس والإحباط التي وصل إليها بسبب حاكم مصر الإخشيدي، المسمى بكافور، مستغربًا من مجيء العيد في هكذا حال، فقال:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ .. بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ .. فَلَيتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُ
وذكر المتنبي المناسبة نفسها في قصيدة مدح لسيف الدولة الحمداني، قائلًا:
هَنيئاً لَكَ العيدُ الَّذي أَنتَ عيدُهُ .. وَعيدٌ لِمَن سَمّى وَضَحّى وَعَيَّدا
وَلا زالَتِ الأَعيادُ لُبسَكَ بَعدَهُ .. تُسَلِّمُ مَخروقًا وَتُعطى مُجَدَّدا
فَذا اليَومُ في الأَيّامِ مِثلُكَ في الوَرى .. كَما كُنتَ فيهِم أَوحَدًا كانَ أَوحَدَ
أما هنا يتقلب بين مشاعر الشوق والحنين لأهله في هذه المناسبة:
يُضَاحِكُ في ذا العِيدِ كُلٌّ حَبِيْبَهُ .. حِذَائي وأَبْكِي مَنْ أحِبُّ وأَنْدُبُ
أَحِنُّ إِلى أَهْلِي وَأَهْوَى لِقَاَءهُمْ.. وَأَيْنَ مِنَ المُشْتَاقِ عَنْقَاءُ مُغْرِبُ؟
واستمرارًا لمشاعر الحزن كتب أبي الفرج بن سلامة عن فراق أحبابه بالعيد:
من سره العيد فما سرني .. بل زاد في همي وأشجاني
لأنه فكرني ما مضى .. من عهد أحبابي وإخواني
وبسبب ارتباط الأعياد بشكل وثيق بوجود الأحبة والأهل، عبر الشعراء عن معاناتهم في أبيات عديدة تصور شكواهم وسوء حالهم في السجون وما تثيره الذكريات من مشاعر، فكتب عمر خليفة النامي قصيدة باسم “يا ليلة العيد” وهو يتخيل أطفاله ينتظرونه في ليلة العيد ولكنه في الحقيقة حبيسًا مقيد داخل حجرة ضيقة:
يا ليلة العيد كم أقررت مضطربًـا .. لكن حظي كان الحــزن والأرق
أكاد أبصرهم والدمع يطفر مـن .. أجفانهم ودعاء الحـب يختنـق
يا عيد، يا فرحة الأطفال ما صنعت .. أطفالنا نحن والأقفـال تنغلـق
ما كنت أحسب أن العيد يطرقنا .. والقيد في الرسغ والأبواب تصطفق
المشاعر نفسها من الهجر والمسافات البعيدة نجد أن فدوى طوقان قد صورتها عن تجربتها في التشرد وفقدان منزلها:
واليوم، ماذا اليوم غير الذكريات ونارها؟
واليوم، ماذا غير قصة بؤسكنَّ وعارها؟
لا الدار دارٌ، لا، ولا كالأمس هذا العيد عيدُ
هل يعرف الأعياد أو أفراحها روحٌ طريدُ
عان تقلّبه الحياة على جحيم قفارها
ومن الشاعرة الفلسطينية طوقان إلى عمر بهاء الدين الأميري الذي كتب عن حالة الاستهانة والاستضعاف التي تشهدها مدينة القدس، فقال:
يمـرُّ علينا العيـدُ مُـرَّا مضرَّجـًا .. بأكبادنا والقدسُ في الأسْـرِ تصـرخُ
عسى أنْ يعـودَ العيـدُ باللهِ عـزّةً .. ونَصْـرًا، ويُمْحى العارُ عنّا ويُنْسَـخُ
إلى ذلك، لم يترك الأدباء حدثًا تاريخيًا أو وطنيًا أو إنسانيًا إلا وقد ذكروا فيه مناسبة العيد التي أصبحت رمزًا عاطفيًا في الأحاديث الاجتماعية وتعبيرًا عن النفس وما يجول في داخلها من خواطر وآلام وأفراح.