تتوالى الأيام العصيبة على الموصل ولإننا لا نستطيع إيقافها، فعجلة الحياة تمضي مسرعة رغماً عنّا وعن جراحاتنا، ففضلاً من أن نلقى أيام البشر، بوجوه كالحة اتعبتها الحروب والويلات، وعلى قاعدة “فليحسن النطق إن لم يحسن”، أجل لم يحسن الحال، لكن النطق كان حسناً، فقد شهدت ليالي رمضان قبل عيد الفطر حركة تجارية رائعة في الموصل، مع وجود ابتسامة خجولة، ويحق لها أن تخجل، فالأرض لم تجف إلى الآن من دماء الشهداء. وكذلك شهدت الموصل القديمة استقبال أول عيد أضحى محررة، من وسط الركام والمنازل المدمرة.
انتعاش اسواق الموصل قبل حلول عيد الفطر
مر شهر رمضان العام الماضي، وجزء كبير من الموصل لم يتحرر بعد، ألا وهو المدينة القديمة، المدينة التي استعصتْ كثيراً حتى تم تحريرها، كانت تلك المدينة تئن تحت وطأة أقسى تنظيم عرفه العالم في العصر الحديث، بينما كانت الحرب تفعل فعلتها بتلك المدينة، تحصد كل شيء أتى أمامها، أكلت الاخضر واليابس.
إننا نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً، فقد شهدتْ أسواق الموصل في ليالي العيد حركة كثيفة للأهالي المتسوقين، الذين يتبضعون لشراء ملابس واحتياجات العيد
وأخذت البشر دون أن تستثني معها الحجر أو الشجر، وكانت ليال العيد شاهدة على رحيل أقدم منارة تاريخية في الموصل، منارة الحدباء التي ربما أنحنت وهوت إكراماً لدماء الشهداء، وبعد عام كامل من رمضان المنصرم، جاء رمضان هذا العام بليال مختلفة بعض الشيء، على الرغم من الألم والجراح التي تعاني منها المدينة المليئة بالأرامل والأيتام والمصابين.
إلا أننا نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً، حيث شهدتْ أسواق الموصل في ليال العيد حركة كثيفة للأهالي، الذين يتبضعون لشراء ملابس واحتياجات العيد، وهنا نذكر بعض منها.
شارع الدواسة
بينما كان شارع الدواسة في ليال رمضان العام الماضي خط صد للمواجهات بين القوات العراقية وتنظيم داعش، إلا أن هذا العام كان مختلفاً تماماً فقد بدأت الحركة التجارية بالعودة إلى هذه الاسواق، وخصيصًا بعد أن قام كثير من أصحاب المحلات بإعادة إعمار محلاتهم التجارية، وعلى الرغم من أن الحركة في أول ايام رمضان كانت خجولة، إلا أن ليالي رمضان الاخير شهدت إقبالاً كبيراً من السكان للتبضع وشراء ملابس العيد، إلا أن نشارع الدواسة ما زال يعاني من انقطاع في الكهرباء وعدم وصول المياه حتى الآن.
شارع الدواسة قبل احتلال داعش لمدينة الموصل
سوق الزهور
يعتبر سوق الزهور من الاسواق الحديثة التي أنشأت في مدينة الموصل، يقع هذا السوق في الجانب الأيسر من المدينة، انتعش السوق بعد تحرير الجانب الأيسر، فقد تحول كثيرٌ من التجار الذين كانوا يمتلكون محلات تجارية في الأسواق القديمة إلى سوق الزهور، وشهد السوق هذا العام حركة كثيفة للسكان الذين يودون التبضع للعيد، حيث كان السوق مفتوح حتى اوقات متأخرة من الليل.
المجموعة الثقافية
يعتبر شارع المجموعة من الشوارع الحيوية في المدينة الموصل، والذي يمتاز بوجود جامعة الموصل فيه، فهو شارع تجاري يمتاز بالبُعد العلمي والثقافي، فقد شهدتْ ليالي رمضان الآخيرة حركة كثيفة للسكان للتبضع للعيد، فضلاً أن الشارع يمتاز بتنوعه التجاري، فهو يحتوي على محلات الملابس والمنتجات الإكترونية والكهربائية، ومحلات ثقافية لبيع الكتب. وقد شهد الشارع بعد التحرير افتتاح بعض المقاهي الثقافية كمقهى قنطرة الثقافي.
هذه أبرز الشوارع التي شهدت حركة مختلفة لاستقبال أول أيام عيد فطر بعد تحرير الموصل من داعش، إلا أن القلب ما دام يعتصر ويرنو لرجوع أسواق الموصل التي دمرت بعمليات التحرير كما كانت في السابق، ما زالت العيون تتجه إلى سوق باب الطوب وشارع السرجخانة وشارع غازي وشارع خالد بن الوليد وسوق الصفارين، آملة أن يكون التسوق للأعياد القادمة من أسواق الموصل القديمة.
شارع المجموعة الثقافية
عيد من وسط الركام في الموصل القديمة
تعتبر المدينة القديمة العمق التاريخي للموصل، وتعد أصل الموصل، إلا أنها كانت مركز تنظيم الدولة (داعش) بشكل كبير، وخصوصاً بعد خسارته للجانب الايسر، فكان القتال ضارياً في أزقة تلك المدينة، وبينما كانت المدينة في رمضان الماضي تنام على اصوات زخات الرصاص والصواريخ التي لم تتوقف، شهد رمضان هذا العام عودة الأهالي إلى المدينة، وقد شهد اليوم الأول لعيد الفطر بعض مظاهر العيد على الرغم من وجود انقاض المنازل ورائحة الجثث التي لم تنتشل إلى يومنا هذا، وفي حديث مع الناشط ايوب ذنون حدثنا عن بعض مظاهر العيد في الموصل القديمة قائلًا: “بعد أن كان عيد الفطر في السنة الماضية كجرح ينزف بالألم المعركة التي لم تنته في الموصل القديمة، جاء عيد الأضحى بمثابة ضماد ذلك الجرح الغائر الذي أسفر عن انتهاء عمليات التحرير، لكن كان معه فراق أحبة وأرض وشتات”.
يعود العيد اليوم بحلة جديدة بعد أن بدأت الموصل القديمة تتماسك، وتلملم جراحها بعد عمليات تجميل بسيطة، وبجهود أهلها المخلصين لتراثها وعبقها وعملها التاريخي، وبجهود إغاثة ذاتية من الخيرين من الذين يحملون معنى الإنسانية، بعد غياب الدعم الحكومي والأممي عن المدينة.
جاء العيد اليوم بحلة جديدة وامل متفتح رغم الألم وهمة أناس يقاومون الحديد ويكسرون القوانين بالنهوض من تحت الركام لرسم أمل بغدٍ افضل
يضيف ذنون: “كانت صلاة العيد على أطلال جامع مهدوم وبين أنقاض المنازل المدمرة، فقد صدحت حناجر الجميع بالتكبيرات، وبدأت بعد الصلاة معايدات الناس لبعضهم البعض، حيث كان أغلبهم قد ضاق درعاً في هذا المكان قبل عام، لكنهم أبوا إلا أن يصافح أحدهم الآخر ورسم البسمة لمحو تلك الايام السوداء.
وينقل لنا ذنون فرحة الاطفال متحدثاً: “أطفال يلعبون ويلهون بألعاب بسيطة ويتأرجحون بناعور أيام تدور كدورته دون أن يفقهو شيئاً من ذلك كله، فابسط ما يفكر به هؤلاء الاطفال عيدية يتاقاضونها من والد قد أكلت منه الحياة وشربت، ولكنه يأبى إلا أن يسعد أطفاله بهذه الأيام.
صورة للموصل تظهر اثار الدمار التي تعرضت له من عمليات التحرير
وليس ببعيد عن أجواء الفرح الخجولة من وسط المنازل المدمرة، ينقل لنا ذنون صورة أخرى من مظاهر العيد ولكن بطعم المرارة والحسرة، ولكن ما يجعلها جميلة ومفرحة هو وقفاتُ أهل الخير مع المنكوبين، فيحدثنا: هنا طفل آخر فقد أحد والديه أو كلاهما إثر الحرب، يتكفل برعايته أهل الخير، فيقومون بشراء ملابس العيد له، فضلاً عن أخذه بجولاتٍ ترفيهية لرسم البسمة على وجهه الحزين، ولإن ويلات الحرب لا تبقى فقط محصورة لأيام لكنها تمتد لسنوات متعددة، تستيقظُ أرملة في صباح العيد فلا ترى تلك الإبتسامة، ولا تلك الهدية التي كانت تنتظرها من سنة إلى أخرى في صباحات العيد.
وبعد رحلة قصيرة للحديث عن العيد الأول في الموصل، وخصوصاً عن الأجواء في الموصل القديمة، تبقى أنظار الموصليين متوجه صوب الحكومة المركزية في بغداد، أن تبدأ بالالتفات للمدينة التي أصابها الضرر الأكبر من عمليات التحرير، وعلى أمل أن تكون الأعياد القادمة، أعوام إعمار وإعادة حياة للموصل بشكل عام والموصل القديمة بشكل خاص.