تدور في مدينة العلمين الجديدة فعاليات مهرجان يُعرف باسم “العالم علمين”، في الفترة ما بين 11 يوليو/ تموز وحتى 30 أغسطس/ آب، وتسعى الحكومة المصرية من خلاله أن تكون مدينة العلمين الجديدة مزار سياحة الاصطياف الرئيسي في البلاد، فتلك المدينة وتطهيرها من الألغام وإعمارها وإنشاء الطرق للوصول إليها، كلفت الدولة الكثير من الأموال لبناء ما يُعرف بالجمهورية الجديدة، واستنساخ نموذج دبي والخليج العربي عمومًا في المعمار والرفاه.
بهدف التسويق السياحي في المدينة التي يدّعي الموقع الرسمي للحكومة أنها تستقبل مليون زائر في موسمها السياحي، يقام مهرجان “العالم علمين”، والذي يسعى كما يدّعي المتحدث الرسمي باسمه إلى بناء الشخصية المصرية، من خلال تعزيز الحسّ الفني بدءًا من الطفل المصري الذي إذا تمّت تنشئته بشكل صحيح، من المستحيل أن يحمل السلاح ضد دولته، أو يكنّ أي ضغينة تجاهها.
لكن أي طفل هو الذي يستهدفه المهرجان، وبمعنى أوسع أي مصري مخوّل له بالاستمتاع بفعاليات المهرجان؟ ولماذا يثير مهرجان العلمين الغضب والاستفزاز أكثر من السعادة والمتعة؟
كم يكلفك حضور حفلة في مهرجان العلمين؟
الحد الأدنى للأجور في مصر بعد آخر رفع له في أبريل/ نيسان الماضي هو 6 آلاف جنيه، أي أن أسرة يعمل طرفاها من الأب والأم بإمكانهما تقاضي 12 ألف جنيهًا في الشهر، وهذا بالكاد، في ظل موجة التضخم المتعاقبة، يكفي لفتح بيت وتربية طفلين على الأكثر.
وإذا أرادت تلك الأسرة من الطبقة المتوسطة أن تمارس حقها في الترفيه والاستمتاع بفعاليات صيفية وأرادت أن تتجه إلى مهرجان العلمين في موسمه الطويل، فما الذي يتوجّب عليها أن تفعله؟
ما يجرى في مدينة العلمين بالنسبة إلى المواطن محدود الدخل يحدث في عالم آخر، يختلف عن عالمه اليومي والمعاش في مصر الذي يطارد فيه أسعار الغذاء والدواء
من أجل حضور حفلة غنائية لأحد المطربين، كمحمد منير أو عمرو دياب أو تامر حسني، يعدّ أقل سعر في فئة التذاكر هو 600 جنيه، وكلّما ترقّى المواطن في الفئة التي يريد أن يقطعها لحضور الحفل، قد تصل تكلفة التذكرة من الفئة الأولى إلى 120 ألف جنيه، أي ما يعادل 20 ضعف الحد الأدنى للأجور في مصر، وفي سعر التذكرة العادي في الفئة الأقل فإنه يقتطع 10% من الراتب.
أما إذا كان المواطن المصري يفضّل بشكل أكبر حضور حفلة لمطرب عربي غير مصري مثل كاظم الساهر، وحاول أن يحجز سعر التذكرة من الفئة الأقل، فسيتعيّن عليه أن يدفع 2000 جنيه لتذكرة تقتطع ثلث راتبه الشهري.
تلك نبذة بسيطة عن أسعار الفعاليات الفنية التي يتعيّن عليها أن تبني شخصية مصري من متوسطي الدخل، الذين غرقوا في التأرجُح على الحافة بين الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة والشريحة العليا من الطبقة الدنيا.
لذلك يجد مواطن الطبقة المتوسطة والدنيا في مصر، أن تلك الفعاليات وشاكلتها تدور في عالم موازٍ ومعزول، وحينما تبنّت الدولة في العام الماضي شعارًا ترويجيًا هو “العالم علمين” كانت محقة، فالكلمة كما تتردد مسموعة هي “العالم-عالمين”، فلا شك أن ما يجرى في مدينة العلمين بالنسبة إلى المواطن محدود الدخل يحدث في عالم آخر، يختلف عن عالمه اليومي والمعاش في مصر الذي يطارد فيه أسعار الغذاء والدواء إن لم يكن ناقصًا في السوق.
كلابٌ أسعد حظًا من عموم الشعب
ما أثار سخرية المواطنين في فعاليات مهرجان العلمين هذه السنة، هو مركز كوكو كابانا، المركز المسؤول بالاختصاص عن كلاب الزائرين للمهرجان. تحت شعار “كلبك معانا في أمان”، يقدّم المركز خدماته للكلاب الأليفة، من خلال رعايتها طيلة اليوم بينما يستمتع أصحابها التجول والتنقل بين فعالية وأخرى في مدينة العلمين.
لكن ما حدث ولفت الأنظار إلى هذا الحدث، هو إقامة “عرض أزياء للكلاب” في كوكو كابانا، وهو العرض الذي غطته صحف مثل “اليوم السابع” و”الوطن” بحفاوة بالغة، لكن بعدما قوبل الحدث بالسخرية والغضب، أُزيلت أخبار تلك التغطية من تلك الصحف وكأن لا أثر لها، لكن جوجل لا ينسى.
فإذا بحثت في محرك البحث بكلمات مثل “مهرجان أزياء الكلاب اليوم السابع” “مهرجان أزياء الكلاب الوطن”، سوف تظهرُ لك نتائجُ البحث المانشيتات لتلك التغطية، لكن بمجرد أن تضغط عليها من أجل الدخول ستحيلك إلى الواجهة الرئيسية لموقع الجريدة، والتي يبدو أنها مسحت التغطية خجلًا، أو بعد الزجر من أحد المسؤولين الذي أغضبه أن يعرف المصريون العاديون ما يدور في “عالم العلمين”.
النظام المصري والهوس بالنموذج الخليجي الاستهلاكي
مهرجان العلمين الجديدة وغيره من الفعاليات الفارهة في عهد النظام الحالي، لا تفعل شيئًا ممّا تدّعي أنها عليه، أي في مسعاها إلى بناء الإنسان والثقافة المصرية والترفيه، والمجالات المختلفة التي تتخلل فعاليات ذلك المهرجان وأمثاله. فكيف يمكن بناء المواطن المصري في الوقت الذي تنبني فيه فعاليات المهرجان على جمع أكبر قدر من الأموال، وتبتعد فيه مدينة العلمين الجديدة عن المواطنين الذين لا يملكون سيارة خاصة تستطيع أن تقطع شبكة الطرق الجديدة.
مدينة العلمين الجديدة كموقع جغرافي، تبدو وكأنها جزيرة ألدوس هكسلي في “العالم الجديد الشجاع”، حيث تبدو واقفة بعيدة وكأنها نشأت من العدم لتنشئ إنسانها الخاص، مدمن الاستهلاك والحفلات والسهرات، الذي يمكنه أن يدفع ثمن أقل تذكرة لحفلة المطرب عمرو دياب، وهو الثمن الذي لا يجاريه الحدّ الأدنى للأجور للمواطن العادي الذي تدّعي تلك المهرجانات أنها تحاول أن تبنيه من جديد.
لكن ما يبدو حقيقيًا للناظر من مسعى تلك الفعاليات، أنها تحاول أن تنقل النموذج الخليجي ومواطنه المستهلك المترف، وهو نمط يتماشى عمومًا مع اتجاه الدولة لنقل هذا النموذج ورمزه الأجلى في العاصمة الإدارية الجديدة، التي ما أن يدخلها المرء للمرة الأولى يخال نفسه في دبي، لكن دون حكومة دبي التي تجلس على آبار نفط لا تنضب وشكائر من البترودولار والأموال “المغسولة”.
أما في العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة، نجد حكومة تفرض اقتصاد التقشف على شعبها طيلة 10 سنوات، في الوقت الذي قامت فيه ببناء تلك الصروح وما تكلفته من مبالغ طائلة، كان يمكن استثمارها بشكل أفضل في مجالات الخدمات العامة والدعم، بدلًا من سلوك اتجاه التخارج من تلك المنظومات الذي تنتهجه الحكومة بعدما أصبحت مهدَّدة بالإفلاس.
كان يمكن لذلك أن يكون “بناء الإنسان” الحقيقي، من خلال الاستثمار في صحته وتعليمه وإسكانه حتى في ظل نظام ديكتاتوري يسلب الحقوق السياسية والمدنية لمواطنيه، فلقد كانت تلك المعادلة التي طبّقها النظام الناصري من قبل وأثبتت فعاليتها في بناء طبقة متوسطة، أخذت تتضخم وخلقت جوًا من الاستهلاك لتلك الطبقة، لكنه متعقل وغير مترف ويمكن أن يحصل عليه الجميع.
يحاول النظام المصري أن ينافس أقرانه في الخليج العربي، غير أن تلك المنافسة تستحيل للعديد من الأسباب التي لن يقف أمامها أحد الكثير من الوقت ليفهمها. فمهرجان الرياض قادر على أن يجذب العيون إليه، من خلال استضافة العديد من الفعاليات العالمية مثل مباريات كرة قدم تجمع نجوم العالم من رونالدو إلى ميسي، أو فعاليات ألعاب قتالية، وبطولة العالم في الملاكمة.
بل إن مهرجان الرياض بحدّ ذاته أصبح مستقطبًا للقوة الناعمة المصرية من المطربين والفنانين، الذين يقدمون أغانيهم وأفلامهم ومسرحياتهم على شرف هذا المهرجان. لذلك تبدو تلك المنافسة غير عادلة، كما أن ما تحتاجه السعودية وشعبها يختلف عمّا يحتاجه الشعب المصري، وفقًا لتبدُّل السياق الاجتماعي والاقتصادي وظروف التطور والموارد التي تحتكم إليها الدولة.
في السابق، أقدمَ النظام الناصري على تنفيذ فعاليات صيفية بالفعل، وحفلات كانت تعرض بمهرجانات ليالي أضواء المدينة، والتي كانت من فرط نجاحها في مصر، تنتقل لتنظَّم في بلدان عربية مجاورة، حيث كانت تضمّ نجوم الفن من أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة ومحمد رشدي ومحمد قنديل، وكانت أسعار التذاكر رمزية جدًا إذا ما قورنت بالحدّ الأدنى للأجور آنذاك، وكانت سرادقات تلك الحفلات تحتوي حقًا على الشعب المصري بأطيافه، ولم يكن يقتصر دخولها على أشخاص محددين بانتماءات طبقية معيّنة، فكان يمكن للرئيس وزمرته أن تجلس في الكراسي الأمامية بالطبع، لكن في قاعة تضمّ غيرهم من مواطنين مصريين من مختلف الطبقات.
يقدم النظام الحالي أيضًا نسخته من “أضواء المدينة”، وهي بالمعنى الحرفي تفتح الضوء على مجاز ساخر، فالعلمين هي المدينة المضيئة، في بلد يعاني من أزمات انقطاع التيار الكهربائي وما يُعرف باسم “تخفيف الأحمال”، الذي ورغم ادّعاء الحكومة إيقاف العمل به رسميًا، إلا أن الشكاوى لا تزال تتردد عن قطع التيار الكهربائي، وبشكل غير رسمي أو منتظم، وهذا ما لا يمكن أن يعكّر صفو “أضواء مدينة العلمين”.