حسمت حركة حماس خيارها بالامتناع عن المشاركة في جولة المفاوضات الجديدة المنعقدة في الدوحة، التي جاءت بعد دعوة أطلقها الوسيطان القطري والمصري مع الولايات المتحدة عبر بيان صحفي صدر في ساعات متأخرة من مساء 8 أغسطس/آب الجاري نصّ على “أن الوقت قد حان لوضع حد، وبصورة فورية، للمعاناة المستمرة لسكان قطاع غزة وللمحتجزين وعائلاتهم عبر الانتهاء من إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار والإفراج عن المحتجزين”، و”أنه يجب عدم إضاعة مزيد من الوقت وألا تكون هناك أعذار من أي طرف لمزيد من التأجيل” على حد تعبير البيان.
على الرغم من أن بيان الوسطاء حمل إشارات عن كون الجولة المدعو إليها جولةً حاسمة، فإن موقف حماس لم يكن مفاجئًا للكثير من المتابعين، خصوصًا أن الطبيعي والمنطقي أن قيادة الحركة -التي فقدت رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، شهيدًا بعملية اغتيال إسرائيلية في العاصمة الإيرانية طهران، واختارت رئيسًا جديدًا، يحيى السنوار، يقود المواجهة الميدانية في قطاع غزة،- ستجري عملية مراجعة شاملة لاستراتيجيتها التفاوضية وأدوات المواجهة السياسية والدبلوماسية من أجل الوصول إلى اتفاق طال انتظاره كثيرًا، كما أن الظرف المحيط الذي جاءت في سياقه الدعوة لا يجعل منها حلقة جديدة من حلقات جهود الوسطاء، بل استجابة لتطورات إقليمية ارتفعت فيها احتمالات الحرب الإقليمية إلى مستويات غير مسبوقة.
المعلن غزة.. والهدف الإقليم
لا يمكن عدّ دعوة التفاوض الأخيرة امتدادًا طبيعيًا للجولات التفاوضية التي جرت بين المقاومة والاحتلال على مدار أشهر حرب الإبادة المستمرة ضد قطاع غزة، بل أتت في سياق مختلف بعد أن أقدمت “إسرائيل” على اغتيال كل من القيادي البارز في “حزب الله“، فؤاد شكر، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، بتوقيت شبه متزامن في العاصمتين بيروت وطهران، وهو ما بعثر كل قواعد الاشتباك وأدخل المنطقة في طور تصعيدٍ لا يمكن تحجيم تفاعلاته، ما يضع الشرق الأوسط بأكمله على حافة الحرب الإقليمية.
رافق الدعوة تجييش الولايات المتحدة جوقة دولية كبيرة من التصريحات المساندة لدعوة التفاوض، وتأكيد أهميتها وأهمية الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، فيما سارعت دولة الاحتلال إلى إعلان مشاركتها في الاجتماع المزمع، وهو ما اتضح أنه منسق أيضًا مع الولايات المتحدة التي تشاورت مسبقًا في الدعوة مع رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في وقت لم تتوقف أيضًا الجهود المشتركة لتعزيز القدرات الدفاعية والهجومية على حد سواء في الشرق الأوسط، استنفرت خلالها الولايات المتحدة قدرات عسكرية نوعية في المنطقة تحت عنوان “الدفاع عن إسرائيل”.
ترافقت الدعوة مع مقترحات متعددة عن كون الطريق الأجدى لنزع فتيل التصعيد يكون عبر وقف الحرب في قطاع غزة، وبالتالي فإن الصيغة الأفضل لتفادي الرد المنتظر من جبهات متعددة تتقدمها إيران ولبنان واليمن يتمثل بأن تنجح المساعي في إيقاف إطلاق النار في قطاع غزة، وبالتالي فإن دعوة مشابهة تحظى بدعم دولي موسع يمكن أن تشكّل بداية لطريق ينزع فتيل التصعيد.
تفريغ شحنات الغضب في بيروت وطهران
منذ عمليتي اغتيال شكر وهنية، والتصريحات الواضحة والصريحة من “حزب الله” وإيران بنيتهم الرد بشكل يتعدى الحدود المتعارف عليها للاشتباك، وبوتيرة ونوعية من مستوى جديد يوقع أضرارًا مباشرة في المقدرات الإسرائيلية، سارعت العديد من الوساطات للبحث عن خيارات لاحتواء التصعيد المقبل، شملت تقديم عروض متعددة تشمل الترغيب والتهديد لكل طرف على حدة من الأطراف المنضوية ضمن “محور المقاومة”، في محاولة أولًا لعزل المواقف عن بعضها، وثانيًا لتجنّب أن تكون وتيرة وحجم الرد على النسق والقوة ذاتيهما بما يصعب إمكانية احتوائه.
إن إقرار العديد من الجهات، بما فيها الولايات المتحدة حليف “إسرائيل” الوثيق والشريك في حرب الإبادة، بأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة سيكون العامل الأكثر تأثيرًا في تخفيف التوترات في الشرق الأوسط، جعل من خيار استئناف المفاوضات الخيار الأجدى بدرجة أولية لتحصل هامش زمني قبل أن تبادر إيران والقوى الحليفة إلى توجيه ضرباتها المتوقّعة، من منطلق سياق سبق أن صرح به وزير الخارجية القطري الأسبق على أساس أن الوفاء الأكبر لدماء الشهيد إسماعيل هنية من جانب إيران يكون بأن تتكلل جهود وقف إطلاق النار وإيقاف الحرب في قطاع غزة بالنجاح.
تعي الولايات المتحدة أن توفير هذا الهامش الزمني سيعني أن مشاعر الغضب والغليان التي سادت الصفوف القيادية في الحزب اللبناني وإيران ستبدأ بالبرود تدريجيًا، ما يمنح فرصة لبروز وجهات نظر أخرى تدعو إلى الهدوء و”العقلانية” التي ستعززها العروض الأمريكية من جانب، وصور الحشود العسكرية والتعزيزات والالتزام الأمريكي بـ”الدفاع عن إسرائيل”، ما يعني أن أي حرب إقليمية ستكون بمشاركة أمريكية مباشرة ترفع من كلفة خسائر المهاجمين، وهي حسابات ستكثر وتزيد في عقول متخذي القرار في إيران و”حزب الله” كلما طالت المدة ما بين مسبّبات التصعيد (عمليات الاغتيال) ودخول قرار الرد حيز التنفيذ.
ومن جهة أخرى، سبق أن أكد “حزب الله” أن انتهاء العدوان في قطاع غزة سيعني انتهاء الدور “الإسنادي” الذي حدده الحزب لنفسه في إطار دعم المقاومة الفلسطينية في القطاع، وبالتالي فإن منح جهود وقف إطلاق النار فرصة جديدة قبل التدحرج في اتجاه رد قد يكلفه حربًا حاول تجنّب الوصول إليها على مدار أشهر سيكون خيارًا منطقيًا وواقعيًا، والأمر سواء في الحسابات الإيرانية التي ترى في الاشتباك المباشر مع الولايات المتحدة كلفة كبيرة قد تمس بمشروعات كبرى دفعت في سبيلها الكثير من التضحيات وحساباتها مختلفة تمامًا عن حسابات توجيه ضربة لـ”إسرائيل” فقط، فيما لا يغيب عن تقدير كلا الطرفين التخوف من أن مبادرة نتنياهو لتوسيع نطاق الهجوم جزء من عملية استدراج المنطقة إلى حرب تضطر فيها الولايات المتحدة إلى توجيه ضربات كبرى لإيران من بوابة “الدفاع عن إسرائيل”، مجددًا.
مناورات نتنياهو المعتادة
على الرغم من الإعلان السريع لمكتب رئيس وزراء الاحتلال عن المشاركة في الجولة التفاوضية الجديدة، فإن الإشارات كلها تدلل على أن، بنيامين نتنياهو، يمارس ألاعيبه المعتادة، ولا نية لديه للخوض في مسار جدي لوقف إطلاق النار، وأنه أيضًا لا ينوي التراجع عن اشتراطاته الجديدة التي يعي تمامًا أنها غير مقبولة للمقاومة في قطاع غزة.
وكالعادة، وبعد أخبار كثيرة يغرق بها نتنياهو وماكينته الإعلامية، المحلية والدولية، بشأن وجود نقاشات جدية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والوفد المفاوض من جانب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي ومجلسه الوزاري المصغر من جانب آخر، بشأن المفاوضات والتفويض الممنوح للوفد وحتى عضوية الوفد ومستواه، وهي مناورات تهدف إلى خلق هالة حول جديته في التعامل مع الجولات التفاوضية، إلا أنها باتت ممسوخة ومتكررة لدرجة أصبحت كأنها شريط يكرر نفسه مع كل جولة مفاوضات، خصوصًا مع تمسكه بما أضافه من اشتراطات جديدة تجاوزت ما ورد في إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن (الذي أعلن في حينه أنه نص لعرض إسرائيلي) ووافقت عليه المقاومة.
فور أن أعلن توسيع صلاحيات الوفد المفاوض، وما سبقه من إعلان أن الجولة التفاوضية ستكون على جولات مكثّفة لمدة يومين، ونية الوفد الإسرائيلي المفاوض الذي سيذهب بكامل عضويته، البقاء في الدوحة خلال فترة المفاوضة لتلقّي الإجابات مباشرة، بادر بنيامين نتنياهو عبر مكتبه كالعادة إلى إعلان تمسكه المطلق ببقاء جيش الاحتلال في محور “فيلادلفيا” وتفتيش العائدين من جنوبي قطاع غزة إلى شماليه تحت مبرّر “منع عودة المسلحين”، وهما شرطان سبق أن فجّرا جولات المفاوضات السابقة، ما يعني أن الجولة القادمة – وعلى الرغم من إعلان الوسطاء استعدادهم لتقديم خطة تنفيذية لما اتّفق عليه مسبقًا – لن تكون سوى نسخة جديدة عن الجولات السابقة تلك.
الامتناع عن المشاركة لا إيقاف التفاوض
لم تنجح الهالة الكبيرة التي أحاطت بالدعوة إلى التفاوض في دفع حماس إلى القبول المتسرع بالمشاركة في الجلسة التفاوضية الجديدة. وعلى الرغم من أن الحركة على مدار أشهر الحرب لم ترفض دعوة إلى التفاوض، ولم تسمح بأن تخلق جرائم الاحتلال وعمليات الاغتيال على نحو الخصوص ردود فعل من الحركة على المشهد التفاوضي، فإن رفضها المشاركة في الجولة الحالية يوضح تغيرًا نوعيًا في تعاطيها مع ملف المفاوضات.
يرتبط التغير في استراتيجية حماس التفاوضية ارتباطًا مباشرًا بالتيقن من أن نتنياهو يستخدم العملية التفاوضية لشراء المزيد من الوقت والمساحة والشرعية لاستمرار الحرب، على أساس أن باب التفاوض مفتوح وأن المسار التفاوضي مترافق مع مسار الضغط العسكري، الذي يدّعي الأخير نجاحه في انتزاع تنازلات من المقاومة، ومحاولة تصوير المرونة التي أبدتها المقاومة بأنها تنازلات سببها الضغط العسكري المتواصل، بما في ذلك عمليات الاغتيال.
ترسل حماس رسالة واضحة بأن الضغط العسكري سيؤتي بنتائج مغايرة تزيد من تصلبها في التعامل مع ملف المفاوضات، وتضيق من هامش المرونة الذي كان متاحًا مسبقًا، خصوصًا أن موقف المقاومة يعدّ أن ما جرت الموافقة عليه في الثاني من يوليو/تموز المنصرم آخر ما يمكن نقاشه في المفاوضات وأنه يمثّل الحد الأدنى المقبول والمتوافق عليه بين قوى المقاومة، وبالتالي فإن المحدد الجديد يتمثل بأن أي لقاءات قادمة يجب أن تكون لمناقشة الآليات التنفيذية لما اتفق عليه مع الوسطاء، لا لنقاش أي اشتراطات جديدة لرئيس وزراء الاحتلال.
من جانب آخر، تعي حماس تمامًا أن الهدف من الجولة الحالية تجاوز التصعيد المرتقب في الشرق الأوسط، الذي يمكن أن يفضي إلى التدحرج إلى حرب إقليمية يسعى الجميع إلى تجنّب الوصول إليها، فيما ترى المقاومة في التصعيد المرتقب فرصة ذهبية ومميزة في حجم الضغط الذي يمارس على الاحتلال، وبالتالي فإنه ليس من مصلحتها المساهمة في خفض درجات هذا التصعيد والسماح للاحتلال بأن يرمّم ردعه في المنطقة ويثبت فعالية “اليد الطولى” دون أن يواجه بردّ واضح وصريح، الأمر الذي يجعل من موقفها الرافض للمشاركة في المفاوضات إشارة ضمنية لحلفاء الحركة في الإقليم بأن مصير المفاوضات المقبلة محسوم سلفًا ومقيّد مسبقًا بألاعيب نتنياهو، وانعدام جدية الولايات المتحدة في الضغط على “إسرائيل”.
فعليًا، لم تغلق حماس باب التفاوض، بل أدخلت تغييرات على استراتيجيتها التفاوضية من واقع التقييم لجولات التفاوض السابقة، وتقييم اللحظة الإقليمية الراهنة التي يمكن أن تتحول إلى فرصة ذهبية للمقاومة بالوصول إلى اتفاق يوقف الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، من مدخل حاجة الولايات المتحدة وغالبية دول المنطقة لتجنب سيناريو الحرب الإقليمية.
حدّدت المقاومة عبر جولة التفاوض الحالية معايير مشاركتها في المفاوضات القادمة، وهي لا تختلف فعليًا عمّا ورد في بيان الوسطاء الذين عبروا عن استعدادهم لطرح مقترح نهائي لتسوية الأمور المتعلقة بالتنفيذ، وهو المطلب الذي أعلنت حماس أنه بوابة مشاركتها بالتفاوض، وفي الإطار ذاته لم تغلق الحركة باب التفاوض وأبقت خطوط الاتصال مفتوحة مع الوسطاء، وستنتظر مخرجات الجولة الحالية، وفي حال وجدت فيها جدية ستكون جاهزة للاستجابة، لكن دون أن تسمح للتفاوض بأن يكون الهدف لتجنيب دولة الاحتلال ارتدادات جرائمها وسلوكها العدواني في المنطقة.