بعد أن نجحت التكنولوجيا في الوصول إلى أكثر من ملياري شخص في العالم من خلال مجموعة كبيرة من الخبراء والمبرمجين المحترفين، قرر بعض هؤلاء المطورين الانسحاب من العالم الافتراضي الذي عملوا سنوات طويلة على تصميمه وتطويره، ويتخذوا في المقابل خطوات جدية وواسعة من شأنها أن تحد من صلاحيات شركات التكنولوجيا وتخضعها لرقابة، فما الذي دفع كبار الشخصيات التكنولوجية إلى التراجع عن جميع الإنجازات التي حققوها في وادي السيليكون؟ وما الذي يجعلنا نتفحص أجهزتنا أكثر من 150 مرة في اليوم؟
يتحدون الشركات التي ساعدوا في بنائها
في السنوات الأخيرة، كثرت الأحاديث عن حقيقة دور منصات التواصل الاجتماعي في تقوية العلاقات البشرية وتأثيرها على أفكار وسلوكيات المستخدم، وبدأت التساؤلات تضرب بسمعة كبرى شركات التكنولوجيا، بدايةً من تصريح، تشاثات باليهابيتيا، مسؤول تنفيذي سابق في فيسبوك بـ”إن الشركة تمزق النسيج الاجتماعي لكيفية عمل المجتمع”، وانتقادها أيضًا من قبل، شون باركر، مستثمر في فيسبوك، قال “الله وحده يعلم ما تفعله بأدمغة الأطفال”.
ومرورًا بتساؤل فيسبوك “عما إذا كان لها تأثير سلبي على المجتمع”، دعا اثنان من كبار المستثمرين في وول ستريت شركة آبل في اتخاذ إجراءات لحل مشكلة إدمان الشباب على التكنولوجيا ومطالبتها بالبحث عن الآثار المترتبة على الاستخدام المفرط للهواتف الذكية.
هذه الضغوط والمخاوف من التطورات التكنولوجية أثارت مشاعر المسؤولية والقلق لدى بعض المسؤولين السابقين في شركتي جوجل وفيسبوك، وعلى هذا الأساس تم إنشاء تحالف باسم “مركز التكنولوجيا الإنسانية” الذي يهدف بشكل أساسي إلى زيادة وعي المستخدم حول الأضرار الاجتماعية للتقنية التي تسبب الإدمان والاكتئاب.
تعمل بشكل خاص على توعية الطلاب والآباء والمعلمين بشأن عواقب التقنية، وإرشاد المهندسين الذين يشعرون بالقلق إزاء ما يطلب منهم بناؤه
وعلى هذا الأساس، نظمت حملة ممولة بـ7 ملايين دولار، بعنوان “حقيقة التكنولوجيا”، لتعمل بشكل خاص على توعية الطلاب والآباء والمعلمين بشأن عواقب التقنية، إضافة إلى مشروع آخر يهدف إلى “إرشاد المهندسين الذين يشعرون بالقلق إزاء ما يطلب منهم بناؤه” ويتضمن محتويات عن طرق صنع منتجات تفيد المجتمعات الإنسانية ولا تزيدها تعقدًا.
وحاليًا، أدرجت المنظمة موقعًا إلكترونيًا يحتوي على بعض النصائح والإرشادات بكيفية التحكم بالهاتف والتحرر من تأثيرات التقنية التي تعمل على “التهام الصحة النفسية والديمقراطية والعلاقات الاجتماعية والأطفال في المجتمعات بصورة خفية”، ومن بين هذه التعليمات التخلص من بعض التطبيقات وإغلاق خاصية الإشعارات.
الأهم من ذلك، هو خطة هذا المركز في تشكيل مجموعة ضغط قوية لإدراج قوانين تحد من توسع نفوذ الشركات التكنولوجية، ومن إحدى التشريعات التي ستعمل على إقرارها، هو قانون قدمه عضو في مجلس الشيوخ الديمقراطي، إدوارد جي ماركي، الذي سيكلف بدراسة تأثير التكنولوجيا على صحة الأطفال، وآخر يحظر استخدام روبوتات الدردشة دون تحديد الهوية. جدير بالذكر، أن هذا التحالف يضم مجموعة متنوعة من الموظفين السابقين الذين عملوا في أقسام مختلفة في كبرى شركات وادي السيليكون، ومن بينهم مستثمرين ومبتكرين ومسؤولين تنفيذين.
التكنولوجيا ليست منتجًا محايد، وإنما جزء من نظام مصمم لجعلنا مدمنين
يقول تريستان هاريس، خبير تكنولوجي عمل في آبل وجوجل، خلال محاضرة ألقاها عبر منصة تيد الشهيرة بأن “التكنولوجيا لا تتطور بشكل عشوائي، هناك هدف خفي خلف جميع التكنولوجيات التي تصنع، وهو يكمن في السيطرة على انتباهنا”، مضيفاً “تتسابق جميع التطبيقات الاجتماعية والسياسية والطبية على السيطرة على انتباه المستخدم، ولتحقيق هذه الغاية لا بد أن تعرف كيف يعمل الدماغ”.
يضرب مثلًا عن خاصية التنبيهات أو “التشغيل الآلي” للمقاطع المصورة والتي تتبعها كل من يوتيوب وفيسبوك ونيتفليكس لترغم المستخدم على قضاء أطول وقت ممكن في مشاهدة الفيديوهات المقترحة بناءً على اختيارات وتفضيلات المستخدم السابقة، مشيرًا إلى أنه من غير المحتمل إلغاء هذه الأدوات لأنها تتعارض مع النشاط التجاري للشركات.
فبالرغم من الخدمات المذهلة التي قدمتها الشركات التكنولوجية، إلا أن جانبها المادي والتجاري يحثها دومًا على استخدام تقنيات حديثة يمكنها أن تزيد من ارتباط الآلة بالإنسان، حتى تحقق أكبر قدر من الأرباح ومن أجل هذا فهي في سباق شرس مع الشركات المنافسة وحتى مع طبيعة الإنسان البشرية التي لا تمكنه من قضاء 24/7 على هذه الأجهزة.
Sleep is my greatest enemy.
— Netflix US (@netflix) April 17, 2017
المثير للسخرية في هذا الشأن، أن الطبيعة البشرية المحدودة تزعج بعض رجال التكنولوجيا، وهذا ما بينه المدير التنفيذي لشركة نيتفليكس عندما قال “إن أكبر منافسينا هم فيسبوك ويوتيوب والنوم”.
ومن جانب آخر، يبحث مؤسسو هذه المنظمة عن دور هذه الشبكات على صحة وأفكار المستخدم، حيث يرون أنها تتسابق في إبقاء المستخدم محدقًا في الشاشة لساعات طويلة؛ ما يزيد من الإجهاد والقلق ويقلل من ساعات النوم وبالتالي تظهر العواقب تدريجيًا على الصحة النفسية، بالجانب إلى تحطميها للمكانة الاجتماعية الحقيقة القائمة على التفاعلات الواقعية واستبدالها بالإعجابات والمشاركات والتعليقات؛ ما يخلق وهمًا في عقول الأطفال والشباب بإن قيمتهم الذاتية في المجتمع مستمدة من هذا العالم الافتراضي.
هذا بالجانب إلى دورها في تعزيز الانقسام والعنصرية والإشاعات ومشاعر الغضب والإحباط وإثارة الفوضى الدينية، وهي تفاعلات تزيد من نموها ونشاط بصرف النظر عن التأثيرات والعواقب الاجتماعية.
الشعور بالذنب
قد تكون هذه الفكرة غير منطقية بتاتًا في هذا العصر، ولكن لا شك أن هذه المنظمات وغيرها من الفعاليات والحملات التي تظهر بين الفينة والأخرى قد تساعد المستخدم على الشفاء من السموم التقنية والتركيز على نفسه ومهمته في الحياة، بدلًا من أن تستهلك جميع طاقاته الحسية والفكرية على تصفح منشورات فيسبوك وفيديوهات يوتيوب.
ومن المرجح، أن ما دفع عملاء التكنولوجيا السابقين إلى هذا الاتجاه المعاكس ليس فقط تأزم المشكلة، وإنما شعورهم بالذنب، إذ صرح المستثمر الأقدم في فيسبوك، روجر مكنامي، خلال لقاء على قناة “سي ان بي سي” بأن هذه فرصته الوحيدة لتصحيح خطأه في تصميم هذا العالم الذي يستولي على عقول ومشاعر المستخدمين.
ما دفع عملاء التكنولوجيا السابقين إلى هذا الاتجاه المعاكس ليس فقط تأزم المشكلة، وإنما شعورهم بالذنب
مع العلم، أن هناك العديد من كبار الشخصيات في مجال التكنولوجيا ومن ضمنهم الراحل ستيف جوبز لم يتخلوا عن هذا العالم، بالرغم من مواقفهم الواضحة حول هذه الأدوات، فلقد عبر جوبزعن قلقه في أكثر من مناسبة من الأخطار المحتملة للتكنولوجيا على الأطفال.