كثّفت بعض الدول العربية في الفترة الأخيرة من التناوب على الاقتصاد التركي واحدة تلو الأخرى، فالأردن ألغى اتفاقًا تجاريًا مع تركيا، وأوقف لبنان استيراد بعض البضائع التركية دون غيرها، بينما تصاعدت المطالبات في مصر بفرض رسوم إغراق على المنتجات التركية، واتفقق هؤلاء جميعًا على مبررات لم تخرج عن حماية السوق المحلية، فيما اعتبر مراقبون تلك الإجراءات محاولةً للانتقام السياسي من تركيا.
مصر.. المبررات الاقتصادية لا تخفي العداء السياسي
بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية التي أصابت بوادرها تركيا مع بداية عام 2018 لتصل إلى ذروتها في شهر أيّار/مايو 2018، بهبوط سعر الليرة التركية بنسبة 20% مقابل الدولار الأمريكي لتصل إلى 4.25 ليرة، ظهرت على السطح مطالبات في الأوساط المصرية بفرض رسوم إغراق على المنتجات التركية من الأدوات المنزلية، ومطالبات أخرى بفرض جمارك.
وفي مارس/آذار الماضي، انطلقت في مصر دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بمقاطعة المنتجات التركية، يقف وراءها مؤيدو النظام، بحسب مراقبين. وحملت هذه الدعوات مبررات تجارية تدور حول وجود بدائل كثيرة في السوق المصرية -سواء المحلية أو المستوردة من دول أخرى – للسلع والمنتجات التركية، بالإضافة إلى أن جلب منتجات تركية بأسعار متدنية من شأنها القضاء على المنافسة مع المنتجات المصرية، وتدمير الصناعة المحلية باستقدام منتجات تباع بأقل من سعرها الحقيقي.
لكن هذه المطالبات لم تُخف وراءها الدوافع السياسية، حيث يقول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي إنهم دشنوا هذه الحملة لوقف التدخل التركي في شؤون مصر الداخلية، ومساندة تركيا لجماعة الإخوان المسلمين، مطالبين بأن تستبدل بالمنتجات التركية نظيرتها المصرية لدعم الاقتصاد الوطني، حسب قولهم.
ويؤكد ذلك واقع العلاقات السياسية بين أنقرة والقاهرة، حيث تصاعدت حدة التوتر بين البلدين منذ انقلاب الجيش على الرئيس المعزول محمد مرسي التابع لجماعة الإخوان المسلمين في تموز/ يوليو 2013، ومنذ ذلك الحين تدهورت العلاقات بين البلدين بشدة، وقُطعت العلاقات الدبلوماسية بينهما، وشهدت الأعوام الماضية سلسلة من التوترات السياسية والإعلامية المستمرة بين البلدين.
فرض رسوم إغراق على المنتجات التركية سيدفع المصنعين المصريين إلى احتكار السوق
وتعالت الأصوات مرة ثانية بالتزامن مع دعوات مقاطعة اقتصادية وسياحية تحمل بصمات سياسية واضحة، وذلك على الرغم من التحسن النسبي في الجانب الاقتصادي بين القاهرة وأنقرة خلال الأسابيع الماضية وتبادل الزيارات التجارية، بيد أن الأجواء بين الجانبين عادت للتوتر مجددًا، وعاد الإعلام المصري لمهاجمة تركيا، بعد تصريحات وزير خارجية تركيا، مولود جاويش أوغلو، الأسبوع الماضي، باعتراض بلاده على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، التي ترتب عليها سيطرة مصر على حقل ظهر العملاق للغاز الطبيعي في البحر المتوسط.
لكن لم تتوقف الحملة هذه المرة عند المستوى الشعبي فقط، بل امتدت إلى المستوى الرسمي، حيث طالب رئيس غرفة الصناعات الهندسية في اتحاد الصناعات المصرية، محمد المهندس، وزارة التجارة والصناعة بفرض رسوم جمركية على الواردات التركية من الأدوات المنزلية قيمتها 30%، وأكد في تصريحات صحفية أن تركيا تغرق السوق المصرية بمنتجاتها، موضحًا أن الطاقة الإنتاجية لمصانع الأدوات المنزلية المصرية انخفضت نتيجة زيادة حجم الواردات التركية بنسبة 50%.
لم يختلف قول “المهندس” عن غيره من المسئولين، فرئيس جهاز مكافحة الدعم والإغراق إبراهيم السجيني قال خلال حواره مع الإعلامي أسامة كمال، ببرنامج “مساء dmc“، إن هناك إغراقًا تركيًا في الأسواق المصرية بشكل كبير، مضيفًا أنه تم فرض رسوم إغراق على المنتجات التركية في مصر، وبرر ذلك بأن “استيراد المنتجات التى تتوافر في السوق المحلية يضر بالاقتصاد المصري”، مشيرًا إلى أن المنتج التركي يأتي إلى السوق المصرية بغرض بيعه أقل من أسعار بيعه داخل السوق التركية.
وفيما اتهم خبراء الصناعة بعض الجهات بالمساهمة في عملية الإغراق من خلال التهريب وجلب منتجات تركية، لم يُخف بعض الإعلاميين الموالين للنظام الأسباب السياسية، فقد حذّر الكاتب الصحفي دندراوي الهواري في جريدة “اليوم السابع” المحسوبة على النظام، في مقاله في 26 أيار/مايو، من خطة قياديي جماعة الإخوان المسلمين الهاربين من مصر إلى تركيا لحماية الاقتصاد التركيّ، دعماً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة المزعم عقدها في 24 حزيران/ يونيو الحالي.
مطالب فرض رسوم الإغراق أو تطبيق معايير الجودة على الواردات التركية يعتبر مخالفاً للفقرة الثانية (ب) من المادة الأولى من اتّفاقيّة التجارة الحرّة بين مصر وتركيا
وفي البرلمان، تزعّمت عضو لجنة القوى العاملة في مجلس النواب مايسة عطوة، عدداً من أعضاء مجلس النواب في 29 أيّار/مايو، في التقدّم إلى رئيس مجلس النواب بطلب إحاطة ضد وزارة المالية في شأن الإجراءات التي ستتخذها لمنع إغراق السوق المصرية بالمنتجات التركية.
لكن مطالب فرض رسوم الإغراق أو تطبيق معايير الجودة على الواردات التركية، يعتبر مخالفاً للفقرة الثانية “ب” من المادة الأولى من اتفاقية التجارة الحرة بين مصر وتركيا، والتي تنص على إزالة المعوقات أو القيود على حركة البضائع بين الدولتين، بما فيها المنتجات الزراعية”، كما لم تنتهج تركيا هذا المبدأ عندما تراجعت قيمة الجنيه المصري أمام الدولاربنسبة أكثر من 100% في عامي 2015 و2016.
وحول تداعيات ذلك سياق، أفاد رئيس شعبة الأدوات الكهربائيّة في الاتحاد العام للغرف التجارية المصرية بهجت حسن، أنّ أسعار المنتجات التركية كانت تنافسية مع الحفاظ على الجودة من قبل الأزمة الاقتصادية، مشيرًا إلى أن فرض رسوم إغراق على المنتجات التركية سيدفع المصنعين المصريين إلى احتكار السوق وفرض أي أسعار، مهما كانت مرتفعة، مما يضر بالمستهلك، كما حدث عندما فرضت الحكومة المصرية رسوم إغراق على واردات الحديد والصلب من تركيا في كانون الأوّل/ديسمبر 2017.
الأردن.. حجة حماية المنتج الوطني غير مقنعة
سبق الموقف المصري المناوئ لتركيا قرارًا عربيًا آخر، حيث أعلنت الحكومة الأردنية على نحو مفاجئ، في منتصف مارس/آذار الماضي، عن تجميد اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا بالرغم أنها لم يمضِ عليها الكثير من الوقت، فقد وُقع الاتفاق التجاري مع مع تركيا في 2009 ودخل حيز التنفيذ عام 2011.
وأكدت وزارة الصناعة والتجارة والتموين الأردنية تجميد العمل باتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، بحجة حماية المنتج الاردني الوطني”، وذكرت في بيان لها أن “الاتفاقية الموقعة سابقًا لم تؤد أغراضها ولم تؤد لتوسيع عائدات الاستثمار داخل الاردن والميزان التجاري بين البلدين بقي يميل الى مصلحة الجانب التركي”.
وزير الخارجية الأردني كان قد احتفى بالاتفاقية خلال زيارة نظيره التركي
وأضاف البيان أن القرار جاء في ضوء التحديات التي تواجه القطاع الصناعي الأردني، جراء إغلاق المنافذ الحدودية مع الدول المجاورة، وانحسار الأسواق التصديرية التقليدية أمام الصادرات الوطنية الأردنية، غير أن رئيس غرفة تجارة عمان، عيسى حيدر مراد، فنَّد البيان الرسمي الأردني، مؤكدًا أن “وقف العمل باتفاقية التجارة السحرة مع تركيا سيلحق الضرر بالقطاع التجاري والخدمي”.
ويبدو أن الاسباب التي ذكرتها الوزارة الاردنية غير مقنعة للمسئول الأدرني مما يوحي بقرار سياسي بالمقام الأول. كما أكد مصدر مطلع في الأردن لموقع “رأي اليوم” أن القرار اتخذ على خلفية سياسية، فالخطوة الأردنية تتوافق مع مساعي حلفاء عمّان في الرياض وأبوظبي والقاهرة الهادفة لإخراج تركيا من المنطقة وتضييق الخناق عليها في إطار التنافس المحتدم معها على توسيع كل منها لرقعة نفوذها السياسي والاقتصادي.
ويعزز من ذلك توقيت زيارة وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، عبدالله بن زايد آل نهيان، إلى الأردن، حيث يربط محللون بين تلك الزيارة التي جاءت قبل يوم واحد من إلغاء الإتفاقية وبين قرار المملكة إلغاء الاتفاقية التي احتفى بها وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، خلال استقباله وزير الخارجية التركي مولود جاويش، الشهر الماضي.
أكد مصدر مطلع في الأردن لموقع “رأي اليوم” أن القرار اتخذ على خلفية سياسية
وذهب هؤلاء إلى أن الموضوع سياسي من الدرجة الأولى، وإن كانت هناك عوامل اقتصادية ساعدت الحكومة في الأردن على تبرير قرارها، لكن الردّ الإماراتي على قرار إلغاء اتفاقية منطقة التجارة الحرة، والذي جاء سريعاً، يعزّز هذه النظرية، حيث تعهّد وزير خارجية أبوظبي بتقديم الدعم للأردن ومساعدته في المرحلة المقبلة من أجل توفير حياة كريمة لمواطنيه.
وأثار قرار الأردن بتجميد اتفاقية إقامة منطقة تجارة حرة مع تركيا غضبًا واسعًا في صفوف التجار والمستوردين، باعتباره سيؤدي إلى زيادة الرسوم الجمركية ورفع تكلفة الاستيراد، وأضرب تجار الذهب عن العمل، احتجاجًا على القرار وفرض ضريبة جديدة على “دمغة الذهب”، في حين رحب المصنعون بذلك القرار كونه يحمي من وجهة نظرهم الصناعة المحلية من المنافسة غير المتكافئة.
القرار اللبناني تقف خلفه قوى اقتصادية للضغط على تركيا
لبنان.. قرار سياسي من الدرجة الأولى
لا يمكن فصل ما سبق عن أحدث قرار اتخذه مجلس الوزراء اللبناني بتاريخ 16 أيار 2018، حيث قرر لبنان وقف استيراد عدد من السلع التركية بحجة حماية الصناعة المحلية، في حين أن مصادر حكومية رسمية أكدت أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ، وأن هناك توجه من التجار اللبنانيين للضغط في سبيل تراجع الحكومة عنه.
هذا القرار الحكومي الذي يستهدف فقط البضائع التركية أثار حملة ردود على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما في أوساط الطبقات الشعبية وصغار التجار الذين يعملون على خط استيراد البضائع من تركيا أو المستفيدين مباشرة من شراء تلك البضائع بأسعار رخيصة تتناسب ودخلهم المالي، خصوصًا قبل فترة الاعياد، حيث بدأت انعكسات القرار على المواطنين الذين فوجئوا بغلاء الألبسة بشكل لافت.
ومما زاد من تفاعل المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي، هو التبريرات التي سيقت في بيان الحكومة، حيث ذكر أن الهدف حماية الإنتاج اللبناني وحماية الاقتصاد، وكأن البضائع التركية وحدها هي التي تضر بالاقتصاد اللبناني، وتنافس اليد العاملة اللبنانية، علمًا بأن هناك العديد من المؤسسات التي فُتحت مؤخرًا في لبنان بأسماء ماركات تركية ويعمل فيها مئات العمال والموظفين، ما يضع علامات استفهام حول مصيرهم في حال نُفذ القرار أو اُتخذ قرار آخر يخشى من أن يكون شاملاً ويستهدف كل انواع البضائع التركية.
ولم تذهب المبررات اللبنانية عن دوافع سياسية، حيث لفتت الجماعة الإسلامية في لبنان إلى أنها “تشتمّ من هذا القرار أبعادا غير اقتصادية، من خلال حصر الموضوع ببلد بعينه، لأن القطاعات المحلية نفسها تتعرض للمنافسة من المنتجات التي يتم استيرادها من بلدان أخرى، وعلى رأسها الصين، أما أن يحصر الأمر بالمنتجات التركية دون سواها، فهذا يعطي أبعاداً أخرى للقرار؛ لا تصب أبداً في مصلحة لبنان وتجاره وأبنائه بشكل عام، ولا في مصلحة العلاقات اللبنانية التركية”.
لفتت الجماعة الإسلامية في لبنان إلى إلى أنها “تشتمّ من هذا القرار أبعادا غير اقتصادية، من خلال حصر الموضوع ببلد بعينه
واعتبرت الجماعة أن “حجة منع التهرب من الرسوم الجمركية توجب على الحكومة محاربة الفساد المستشري في إدارات الدولة، وخاصة المعابر الجمركية التي يتم فيها التلاعب في تصنيف البنود على أنها معفاة جمركيا، أو من خلال الاستيراد عبر المعابر غير الشرعية من خلال مافيات معروفة، بدلا من اتخاذ مثل هذه القرارات التي تضع الكثير من علامات الاستفهام حول خلفياتها وتوقيتها، وتساوقها مع الحرب المعلنة على العملة التركية عشية الانتخابات الرئاسية والنيابية القادمة”.
ويقول أمين سر الجمعية اللبنانية ـ التركية زاهر سلطان لموقع ″سفير الشمال″ اللبناني إن ″هذا القرار سياسي تقف خلفه قوى اقتصادية في لبنان، والهدف منه ليس مصلحة المواطن اللبناني وحماية الاقتصاد والانتاج، وإنما ممارسة ضغط على تركيا التي تتعرض لحرب دولية من بوابة الاقتصاد″، مضيفاً أن “هذا القرار لو لم يكن عنصريًا، لكان شمل منتجات أخرى، لكنه ركز على المنتج التركي الذي يستفيد منه الفقراء على وجه الخصوص، وواضح أنه اتخذ بناء لضغوط دولية وإقليمية على الحكومة لكي تسير في ركب محاصرة تركيا″.
وما تزال تداعيات القرار تثير ضجة وغضبًا في الأوساط الشعبية والتجارية اللبنانية، حيث ذكر موقع “ليبانون ديبيت” أن لبنان سيخسر 154 مليون دولار جراء هذا القرار، في حال اتخذت تركيا قرارًا بمنع دخول البضائع اللبنانية إلى أراضيها، وهو ما يحذر البعض من أن يتورط لبنان بحملة لا طاقة له في تحمل تبعاتها مستقبلا، خصوصًا أن مصادر أكدت أن تركيا لم تعلق لا سلبًا ولا إيجابًا على هذا القرار الذي لم تتبلغ به حتى تاريخه.
وتخطت الشائعات حد الحديث عن وقف استيراد كافة المواد الغذائية التركية إلى الترويج بأن تركيا قابلت القرار اللبناني بتعليق إعفاء اللبنانيين من تأشيرة دخول أراضيها، ولكن موضوع إعفاء اللبنانيين من التأشيرة لم يتم التطرق إليه على الإطلاق، كما لم ترد تركيا على أي من الإجراءات التي اتخذتها تلك الدول العربية.
ولا يمكن فصل الحرب الاقتصادية على تركيا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية عن حملات “التشويه الممنهج”؛ لمقاطعة السياحة التركية بدعوى تردي الوضع الأمني والعنف، والتي سخرت فيها سخَّرت خلالها الإمارات والسعودية ما يُسمى بـ”الذباب الإلكتروني” للتحريض على تركيا، عبر حملات تعدي فيها المغردين الحديث عن مقاطعة السياحة إلى الحديث عن الجرائم المجتمعية ضد النساء في تركيا، في إطار التخويف من السياحة هناك.