سقط الاتحاد السوفييتي فجأة عام 1991 واكتشفنا أنه كان يقف ميتًا قبل هذا التاريخ بسنوات، فرغم أنه كان يشكل قطبية ثنائية وطرفًا ثانيًا في إدارة العالم إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، انتهى به الأمر إلى الزوال بالنظر إلى أزماته الداخلية وعدم توافقه مع محيطه الإقليمي والدولي في عدد من القضايا والسياسات، فمنطق التاريخ دائمًا يذكرنا بأن أي قوة أو إمبراطورية سواء كانت إقليمية أم دولية لا بد أن تكون لها بداية ونهاية.
الولايات المتحدة الأمريكية ارتكبت أخطاءً إستراتيجية قاتلة في سياستها الخارجية بغزوها لأفغانستان عام 2001 للقضاء على حركة طالبان وللعراق عام 2003 لإسقاط نظام صدام حسين، فالتقديرات الأولية للخبراء العسكريين والخزانة الأمريكية اَنذاك كانت تشير إلى قصر مدة العمليات العسكرية يتخللها تصريف فائض الأسلحة المكدس مع إنفاق يصل لـ6 مليارات دولار، لكن ما حدث بالضبط أن الخزينة الأمريكية كانت تتجه نحو الإفلاس مع توالي سنوات الحرب والقتال على جبهتين وما يتطلبه من إمداد يومي لخطوط العمليات بملايين الدولارات.
وصول باراك أوباما للسلطة عام 2008 تزامن مع دخول الاقتصاد الأمريكي وضعية كارثية وأزمة عالمية وإنفاقًا عسكريًا على الجبهات انتقل من 6 مليارات دولار إلى 6 تريليونات دولار فكانت أولى قراراته توقيع مرسوم سحب تدريجي للقوات الأمريكية من المستنقع الأفغاني والعراقي.
تراجع الدور الأمريكي على المستوى العالمي يوحي بأن الأمريكيين فهموا جيدًا بأنهم هزموا بلغة الأرقام
أصحاب صنع القرار ورسم السياسة الخارجية للدولة الأمريكية أدركوا بما لا يدع مجالاً للشك باستحالة المغامرة مجددًا في تدخل عسكري إلا بضمان دفع طرف ثالث للخسائر وهذا ما حدث بالضبط حين شارك سلاح الجو الأمريكي مع الفرنسيين والبريطانيين للقضاء على نظام القذافي عام 2011، إذ قُسمت الفاتورة بين مختلف الأطراف.
تراجع الدور الأمريكي على المستوى العالمي يوحي بأن الأمريكيين فهموا جيدًا بأنهم هزموا بلغة الأرقام، انطلاقًا من توجيه موارد وجزء كبير من ميزانية دولتهم لتغذية الصراعات في منطقة الشرق الأوسط على حساب تنمية دولتهم وتقدمها وتوفير مناصب الشغل والبنية التحتية، مقارنة مع إمبراطوريات اقتصادية صاعدة تشتغل بهدوء بعيدًا عن أي صراع عسكري كالصين مثلاً.
الأوروبيون علموا هذا الأمر بالضبط حين تركوا في منتصف الطريق خلال الأزمة الأوكرانية، كانوا ينتظرون ردًا حازمًا من الحليف الأمريكي الذي تخلى عن دوره باعتباره “شرطي أوروبا الأول”، لكن الرهان على دولة تريد أن تستعيد أنفاسها وتوجه بوصلة سياستها الخارجية من جديد رهان فاشل، فلا أمريكا حجمت الروس بعقوبتها الشكلية ولا صواريخ البتريوت أضحت تشكل فزاعة في ظل تطوير الروس لمنظومات صواريخ جديدة وفعالة.
دونالد ترامب قالها بكل صراحة في حملته الانتخابية وبعد فوزه “أمريكا أولاً”، وأضاف “نحن لن نقاتل نيابة عن أحد”، وهذا دليل على أن الإمبراطورية الأمريكية تعاني وتئن في صمت وتتجه لكي تنعزل وتتقوقع أكثر على نفسها، أما سياسة الانفتاح التي تنهجها الإدارة الأمريكية تجاه ملكيات الخليج فهدفها الأول والأخير ضمان موارد طاقية ومالية فقط وهو رهان خاسر بجميع الأحوال في ظل عدم استقرار هذه الأنظمة وبروز صراع بين أجنحة مختلفة داخلها.
الكثير من دول العالم ومن بينهم الاتحاد الأوروبي قطعوا شوطًا كبيرًا في رسم سياساتهم بعيدًا عن أمريكا التي تحاول الاَن إجبار الجميع على الدفع عدًا ونقدًا
الأوربيون أخيرًا استطاعوا أن يقولوا “لا” لترامب في كل ما طرحه بداية بتأكيده ضرورة زيادة الرسوم الجمركية لحماية الأمريكيين كما قال، ثم مطالبته بضرورة عودة روسيا لمجموعة السبعة باعتبارها شريكًا ثم الملف الإيراني.
مخاطبة الشركاء بصيغة الأمر والتعالي عليهم وإهانتهم جهرًا أمام وسائل الإعلام يفسر وضعية غير سليمة بلغتها الإدراة الأمريكية بقيادة ترامب القادم من عالم المال والمفتقر للتكوين في عالم السياسة وغير المدعوم حزبيًا في كثير من قراراته حتى من القياديين الجمهوريين.
الكثير من دول العالم ومن بينهم الاتحاد الأوروبي قطعوًا شوطًا كبيرًا في رسم سياساتهم بعيدًا عن أمريكا التي تحاول الاَن إجبار الجميع على الدفع عدًا ونقدًا، لأنهم يعلمون جيدًا أن بناء المستقبل يلزمه فك الارتباط والتبعية وعدم الخضوع لإملاءات وابتزاز أي كان.