تخبرنا دروس التاريخ أن كثيرًا من الجرائم ضد الإنسانية التي شهدها العالم على مر العصور تتشابه فيما بينها بخطوط عريضة، بل يصل هذا التشابه في بعض الأحيان حد التطابق، لا سيما في الأدوات والسرديات والأهداف والدوافع، وإن اختلف المجرم والضحية.
وفي ذات الوقت تعلمنا تلك الدروس أن الجرائم التي مرت دون تدقيق أو حساب أو مساءلة، وذهبت طي النسيان أمام عوامل عدة، بلا استفادة منها ومن رسائلها، في الغالب تُعاد مرات ومرات، وربما بنفس الكيفية، بل إن بعضها قد يكون تمهيدًا وبروفة لما تلاها من مجازر، فما نُسي يُكرر كما يقول البعض.
يأتي هذا الحديث على ذكر حرب غزة المندلعة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي خلفت ورائها أكثر من 150 ألفًا، بين شهيد وجريح ومفقود، والتي تتزامن هذه الأيام مع الذكرى الـ11 لمجزرتي رابعة والنهضة، التي راح فيهما المئات من المدنيين المعتصمين المدافعين عن تجربتهم الديمقراطية التي اكتسبوها في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، الأمر الذي دفع إلى الربط بين المذبحتين واستعراض أوجه التشابه بينهما، هذا التشابه الذي ذهب بالبعض للإشارة إلى أن كليهما وجهان لعملة واحدة.
تأثير رابعة
قبل الحديث عن التشابه بين المجزرتين، فمن الأهمية بمكان الإشارة أولًا إلى تأثير ما حدث قبل 11 عامًا على الشارع المصري وتكوينه النفسي والمجتمعي ورؤيته لفكرة الاحتجاج والانتفاضة ضد الانتهاكات، سواء التي يتعرض لها في المقام الأول أم ما يتعرض لها جيرانه وأشقاؤه في البلدان المجاورة، ويمكن الوقوف على هذا التأثير من خلال بعض النقاط:
– زرعت تلك المجزرة في نفوس غالبية الشعب المصري الخوف والرعب والقلق من أي تظاهرة أو احتجاج أو فعالية جماهيرية عكس هوى النظام والسلطة الحاكمة، وأصابت المصريين بما يشبه “الجبن” السياسي والاجتماعي والجماهيري مهما كان المشهد يستدعي التحرك ويستنفر الهمم.
– قتلت في نفوس المصريين شعور النخوة والاستنفار، إذ حُرق إخوانهم وبنو جلدتهم على مرأى ومسمع من الجميع، دون أن يتحرك أحد ولو بالكلمة، بل إن بعضهم كان يحرّض على قتل الآخر، ويدعوا للتنكيل به والتفنن في سحقه بزعم الحفاظ على الأمن والاستقرار، ما أصاب المجتمع بحالة من التفسخ والتشرذم وبث روح الكراهية والتشفي بين بعضهم البعض.
– المجزرة أحدثت صدمة نفسية هائلة لم يتعافَ منها المصريون حتى اليوم، إذ ما زال يؤمن البعض أن ما يواجهه الشعب المصري اليوم من انهيار وتدمير وتهاوي على كل المستويات نتيجة منطقية وأخلاقية لتلك المجزرة والدماء التي أُريقت بكل أريحية، فهي لعنة الدماء التي أصابت المصريين ويدفعون ثمنها على مدار أكثر من 10 سنوات ولا يزال الثمن فادحًا.
– منذ ذلك اليوم لم تعرف الشوارع المصرية أي تظاهرات شعبية نقية لدعم القضية الفلسطينية إلا تلك التي يحركها النظام لخدمة أهداف سياسية، فالخوف والرعب من فكرة التظاهر والاحتجاج تقيد العقول والأفئدة، فلا تزال مشاهد الحرق والقتل في رابعة تؤرق منامات الجميع وتتحول إلى كوابيس تهدد كل من يفكر أن يغرد خارج السرب.
– كانت بروفة لدول المنطقة والمجتمع الدولي بشأن التعامل مع مثل تلك المجازر التي قد يذهب ضحيتها المئات من المتظاهرين أو المعتصمين، قتلًا وحرقًا وتنكيلًا، مهما كان تباين وجهات النظر بشأن الأسباب والدوافع التي أدت إلى ذلك، حيث التزم الجميع الصمت، فلا أحد يتحرك أو حتى يشجب ويستنكر، لتمتلئ السماء بصراخ الثكالى واليتامى والجرحى دون أي نصير أو مدافع عن حقهم في الحياة.
المناخ مؤهل لمجزرة غزة
كان الشارع المصري على مدار عقود طويلة نقطة إشعال المنطقة برمتها جماهيريًا وشعبيًا، دعمًا للقضية الفلسطينية وما يدور داخل الأرض المحتلة، فالشرارة الأولى في الغالب كان تنطلق من الجامعات والمساجد المصرية، ثم تنتقل عدواها إلى بقية العواصم العربية والإسلامية.
وكان الإسلاميون تحديدًا وأبناء التيار الإسلامي ومن بعده التيار القومي العروبي هم وقود هذا الحراك، الذي كان يجذب بزخمه وقوته بقية التيارات السياسية والاجتماعية الأخرى، داخل مصر وخارجها، لتُشكل قوة شعبية هائلة كانت كفيلة بإجبار الحكومات والأنظمة العربية على التحرك، وكان يمثل ورقة ضغط قوية على الكيان المحتل والمجتمع الدولي الذي كان ينتفض مسرعًا لامتصاص هذا الغضب الشعبي الجارف من خلال فرض حالة من التهدئة وإنهاء التوتر بشكل عاجل.
غير أن ما حدث في رابعة كانت علامة فاصلة في مستقبل تلك السردية، حيث نُكل بالإسلاميين وكل المتعاطفين معهم، على مرأى ومسمع من إخوانهم أبناء التيارات الأخرى، شركاء الأمس في حراكهم الجماهيري الداعم للقضية الفلسطينية، الأمر الذي زرع حالة من الاحتقان والتفسخ المجتمعي كان لها ارتداداتها العكسية على المشهد بأكمله، لتُنسف نظرية اللحمة الشعبية الداعمة للقضية الفلسطينية بسقوط ضلعها الأبرز والأهم وهو الضلع المصري صاحب الزخم الجماهيري الكبير.
ومن ثم لم يجد الكيان المحتل فرصة مواتية كتلك لارتكاب جريمته في غزة، مطمئنًا لغياب ورقة الضغط الشعبي الجماهيري التي كان يقودها المصريون، كما اطمأن كذلك لردود الفعل العربية والإقليمية والدولية التي لم تتحرك قيد أنملة لمجزرة راح ضحيتها المئات لمجرد الاعتصام والتظاهر دفاعًا عن تجربتهم الديمقراطية، بل على العكس من ذلك ساهم بعضها في التحريض والدعم لمنفذي تلك الجريمة.
غزة ورابعة.. إبادة صغيرة لإبادة أكبر
في مقال له على منصة “ذا أتلانتك” يتطرق أستاذ السياسة الدولية في يونيفرستي كولدج لندن، براين كلاس، إلى نظرية جديدة تفسر تبرير قتل العزل من الأطفال والنساء، وتأييد المجتمع لتلك الجرائم بل والتشجيع عليها دون لفظها والمطالبة بمحاسبة مرتكبيها.
يقول كلاس إن القتل الجماعي من الممكن أن يصبح ممكنًا ومستساغًا للمجتمع إذا ما حرص القاتل أو منفذ تلك الجرائم على توليف سردية متماسكة تبرر هذا العنف وتجعله مرغوبًا لغرض استراتيجي أكبر، لافتًا إلى أن تلك السردية قد تدفع بالسياسيين والجنود وحتى عامة الناس في الشارع الذين لا يشاركون في الأمر بأن يُشيدوا بالمجازر ويشجعوا على استمرارها.
وتنطبق تلك النظرية بشكل كبير على مجزرتي رابعة وغزة، ففي الأولى نجح النظام الانقلابي في مصر على تمرير سردية أن فض اعتصامي رابعة والنهضة مسألة حيوية لعدم انهيار البلد وتجنب الولوج في مستنقع الفوضى، وهو ما شجع الكثير من المصريين بشتى طوائفهم على دعم تلك المذبحة والتحريض عليها، الأمر ذاته مع حرب غزة، حيث صدّر المحتل سردية أيديولوجية مضللة، حين كشف أن الحرب التي يشنها حرب عقدية في المقام الأول، وحضارية في المقام الثاني، وهي السردية التي لاقت ترحيبًا كبيرًا لدى الشارع الإسرائيلي ولدى حلفاء “إسرائيل” في الغرب، قبل أن ينقلب المزاج العالمي عقب كشف الحقائق وزيف وكذب تلك الادعاءات.
ومن هنا يمكن القول إن مذبحة رابعة ومجازر غزة هما وجهان لعملة واحدة، تتشابه فيها الظروف والأجواء حد التطابق في كثير من المسارات، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال بعض المؤشرات:
وحدة الدوافع والأهداف.. انطلق المعتصمون في رابعة والمقاومة في غزة من مداد واحد، وتحقيقًا لهدف واحد، الدفاع عن الأرض، فالأول دافع عن التجربة الديمقراطية التي تحفظ الأرض والعرض في مواجهة نظام سلطوي يسعى للانقلاب عليها والعودة للحكم العسكري مرة أخرى، أما الثاني فتحرك انطلاقًا من الدفاع عن الوطن أمام محتل غاشم مارس كل أنواع البطش والتنكيل بحق أصحاب الأرض من الشعب الفلسطيني.
التشويه المتعمد الممنهج.. تعرض المتظاهرون في رابعة لحملات تشويه ممنهجة، تارة بأنهم مسلحون، وأخرى بأنهم يجبرون الناس على الاعتصام، وثالثة بتفشي ما سمي بـ”جهاد النكاح” داخل الخيام هناك، ورابعة بأنهم يخططون لهدم الوطن، وخامسة بأن هناك أنفاقًا تحت الأرض لإدارة المعركة ضد الدولة فيما عرفت إعلاميًا باسم “كرة أرضية تحت المنصة”، وساعد على تمرير تلك السرديات المشوهة ثلة من الإعلاميين ورجال الدين والساسة من الداعمين للنظام آنذاك.
الأمر ذاته مع الغزيين والمقاومة، حيث التعرض لحملات تشويه صُنعت داخل غرف الكابينت والموساد، تلك التي صدرت صورة لحماس بأنها كيان إرهابي، وأنها مارست التنكيل والانتهاكات الأخلاقية بحق الإسرائيليين، فقطعت رؤوس الأطفال واغتصبت النساء ونكلت بالعجزة، وهي السرديات التي تلقفتها وسائل الإعلام، عبرية كانت أو عربية أو غربية، وروجتها بصورة ممنهجة لتشويه صورة المقاومة وتمرير الجرائم المرتكبة ضدها وضد المدنيين العزل في غزة.
تطابق جرائم القتل والتنكيل.. الغريب هنا أن الجرائم المرتكبة والطريقة والأدوات المستخدمة في كلتا المذبحتين متشابهة حد التطابق، وكأن ماحدث في غزة هو تكرار لسيناريو ما حدث قبل 11 عامًا في رابعة مع بعض الاختلافات الطفيفة الناتجة عن التباين الجيوسياسي بين الحدثين.
فالقتل عن طريق القناصة، والاستهداف في سويداء القلب وفي الرأس والمناطق القاتلة، وحرق الجثث وتناثر الأشلاء، وتساقط الأطفال والنساء والعجزة، وتجريف الخيام والمنازل، والادعاء بوجود مناطق آمنة أو ممرات آمنة ثم استهداف العابرين منها وإليها، كلها أساليب متطابقة بين مجزرة رابعة وحرب الإبادة التي يتعرض لها سكان غزة.
التواطؤ الإعلامي وتبني السردية المضللة.. كان النظام المصري وأذرعه الإعلامية والسياسية يروجون سرديات مضللة لتبرير المجزرة، منها أن المعتصمين هم من بدأوا بالقتل وأنهم من استهدفوا الضباط والجنود الموجودين هناك، وأن عملية الفض كانت في الأساس لحماية المعتصمين وإنهاء التظاهر بشكل سلمي، وهو ما ثبت كذبه في شهادات الناجين لاحقًا.
الأمر ذاته في غزة، حيث الادعاء بأن المقاومة هي من بدأت بالحرب وأنها تنفذ أجندات إيرانية وتتخذ من المدنيين والنساء والأطفال دروعًا بشرية لها، وأن قادتها يتنعمون في فنادق الدول المجاورة ويتركون الشباب يواجهون القتل والتنكيل، وهي الأكاذيب التي حاول بها المحتل خلق مزاجًا عالميًا داعمًا للجرائم المرتكبة، المثير للاشمئزاز هنا تبني الإعلام المنسوب لبعض الحكومات العربية لتلك الروايات والترويج لها على أنها مسلمات.
الانحطاط الأخلاقي.. حتى الانهيار الأخلاقي كان عاملًا مشتركًا بين المجزرتين، حيث مشاهد التشفي في الضحايا والتقاط الصور بجوار الجثث والفرح بالأشلاء المتناثرة والانتشاء بحالة الحزن والصدمة التي تخيم على أهالي وذوي الضحايا، كل هذا وأكثر شهدته أحداث رابعة التي تفاخر إعلاميو النظام بما حدث بها وصوروا الجثث المتناثرة على إنها إنجاز عظيم يحسب للدولة، في مقابل التقاط جنود الاحتلال للصور وهم في حالة رقص وعربدة بجوار أشلاء الفلسطينيين وفوق جثثهم.
في ضوء ما سبق وتماشيًا مع هذا الخيط الرفيع الذي يربط بين الحدثين رغم الفارق الزمني بينهما، يتفق البعض مع الرأي الذي يقول إن مذبحة غزة بدأت عمليًا مع مجزرة رابعة، فالأخيرة هي التي مهدت الأجواء كاملة لتنفيذ الأولى بتلك الكيفية، ولعل حالة الصمت والخذلان والانبطاح التي تخيم على الشارع العربي إزاء ما يحدث في غزة هي الترجمة الفعلية العملية لما حدث قبل 11 عامًا في ميداني رابعة والنهضة.