لم يبقَ سوى أسبوع أو أقل على إجراء الانتخابات التركية المُبكرة المزمع إجراؤها في 24 من يونيو/حزيران الحاليّ، وسط ترقب حذر من الحزب الحاكم الذي ينتظر كسب الرئاسة لإتمام تحويل شكل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، وتكاد هذه النقطة تُمثل أحد أسباب ظفر هذه الانتخابات بتلك الأهمية العالية.
وفي إطار هذه النقطة، يتساءل المتابعون للشأن التركي عما يمكن أن تُحدثه هذه الانتخابات؟ وما آلية تحول نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي؟
تحمل هذه الانتخابات بحيثياتها ونتائجها المتوقعة، أهمية كبيرة تكمن بداية، كما ذكرنا آنفًا، تحوّل تركيا من نظام برلماني يصدر التشريعات، ويُخرج رئيسًا للوزراء يتشارك السلطة، ولو نسبيًا، مع رئيس حيادي دستوريًا، إلى نظام رئاسي يُصبح فيه الرئيس المصدر الأول للقرارات التنفيذية، ويمثل البلاد على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويراقب عمل مؤسسات الدولة على نحوٍ يتناغم مع الدستور، ويوافق على القوانين الصادرة عن البرلمان أو يرفضها، ويعيّن الوزراء ورؤساء المؤسسات الحكومة المهمة، ويعيّن السفراء، ويبرم الاتفاقيات الدولية ويعرضها على البرلمان للموافقة، ويتولى قيادة الجيش بشكل مباشر، وغيرها الكثير من المهام التي تخرج عن إطار المهام الرمزية الذي كان يدور الرئيس التركي في فلكه قبل التعديل الدستوري الذي حدث في 16 من أبريل/نيسان 2017.
أيضًا، سيصبح بإمكان الرئيس إصدار قرارات سياسية وقانونية دون الرجوع إلى البرلمان في كل مرة، كإعلان حالة الطوارئ والتعبئة لمدة 6 شهور، والشرط الوحيد الذي يقف أمام صلاحيات الرئيس التركي وفقًا لمواد الدستور الجديد، ألا تتعارض القرارات الصادرة عنه مع الدستور أو القوانين الصادرة عن البرلمان.
وبذلك يتضح جلّيًا أن البرلمان في تركيا سيصبح مجرد مؤسسة تشريعية تصدر القوانين وتقر الميزانية وتصدق الاتفاقيات الدولية، ولكن لا تستطيع معارضة الرئيس إلا في حال أصدر قرارًا يعارض الدستور أو القوانين الأخرى، أو ثبُت تورطه في حالة خيانة أو ما شابه.
وهنا تكمن النقطة الأساسية في اختلاف النظامين عن بعضهما بعضًا، فالبرلمان فقد سلطته التنفيذية لصالح الرئيس، وأبقى فقط على سلطة التشريعية مع سلطة رقابية نسبية، ولا ريب في أن ذلك يجعل من الانتخابات الأخيرة انتخابات مصيرية تغيّر وجهة تركيا بالكامل.
يخشى حزب العدالة من الحزب الصالح الذي ظهر للسطح بصبغة قومية جديدة منفصلة عن رؤيته، ومخاطبة للروح الوطنية والقومية والمثالية والاقتصادية السياسية “العقلانية” للمواطن التركي
وانطلاقًا من هذه النقطة، يبدو من الصواب الإشارة إلى أن هذه الانتخابات تُمثل اختبارًا حقيقيًا لحزب العدالة والتنمية الذي يتربع على سدة الحكم منذ عام 2002، ولم يواجه تحدياتٍ حقيقيةِ من المعارضة حتى يومنا هذا.
لكن بتراجع مفعول النمو الاقتصادي، وبتكبل تركيا خسائر جسيمة على صعيد السياسة الخارجية، بات حزب العدالة والتنمية منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 7 من يونيو/حزيران 2015، حيث خسر الحزب لأول مرة الغالبية البرلمانية، وقد تُرجم عدم تصويت المدن الكبرى، كأنقرة مثلًا، لصالح الاستفتاء، على أنه مؤشر قد ينعكس بنتائج سلبية على الحزب في الانتخابات المُقبلة؛ الأمر الذي حدا بالحزب بالتركيز على تحالفه مع أحزب أخرى كحزب الحركة القومية والوطن الأم والاتحاد الكبير والدعوة الحرة “الكردي”، وجعله يركّز على مخاطبة الشباب لحثهم على المشاركة والتصويت لصالحه، وأخذ به نحو تطويع حالة التأييد الشعبي له نتيجة عملية “غصن الزيتون” التي حدثت في عفرين ومحيطها، في الدعاية الانتخابية خاصته.
وفي ضوء ذلك، يخشى حزب العدالة من الحزب الصالح الذي ظهر للسطح بصبغة قومية جديدة منفصلة عن رؤيته، ومخاطبة للروح الوطنية والقومية والمثالية والاقتصادية السياسية “العقلانية” للمواطن التركي، وجاء بنموذج متزن يحاول احتضان معظم المواطنين دون توجه أيديولوجي متشدد لفكرة يمينية أو يسارية ما، وقد أدت هذه الحالة إلى عمل حزب العدالة بجد، ووضعته على المحك أمام تجربة تاريخية يرمي بها إلى تأسيس “الجمهورية التركية الثانية”.
وفي هذا الصدد، يُشار إلى أن نشوء ظاهرة التحالفات الانتخابية وتطبيقها لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية، يُضفي أهمية كبيرة لهذه الانتخابات، إذ ستتمكن عدة أحزب كحزب السعادة والديمقراطي، من دخول البرلمان بعد حرمانٍ طويل، وهذا يعني ارتفاع وتنوع أصوات المعارضة داخل البرلمان التركي، حتى ولو حصل “تحالف الجمهور” الذي يجمع بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، على الغالبية.
كما أن هذ النموذج، في حال أدى إلى نتائج إيجابية لصالح أحزاب المعارضة، قد يحفز جميع الأحزاب المعارضة لحزب العدالة والتنمية، للتحالف في الانتخابات المُقبلة تحت سقف واحد يؤدي إلى خسارته الغالبية البرلمانية والرئاسة في حال لم يحسن إصلاح مسار السياسة الخارجية، ولم يتمّكن من حل التدهور الاقتصادي المشهود.
أشارت الحكومة التركية في أثناء طرحها مواد الدستور الجديدة للاستفتاء، إلى أن تطبيق النظام الرئاسي سيتم في المراحل، والمرحلة الأولى ستكون طرح الدستور للاستفتاء، وبعد مروره من الاستفتاء بالقبول، ستبدأ مرحلة المواءمة التي تحوي بين ثناياها عدة مراحل أخرى
على صعيد السياسة الخارجية، تأتي الانتخابات في ظل حاجة تركيا الماسة لآلية اتخاذ قرار سريع وحاسم من أجل مواجهة التغيّرات الدراماتيكية التي تواجهها في محيطها، لا سيما في العراق؛ حيث إشراق معادلات جديدة ما بعد القضاء على تنظيم “داعش” هناك، وحاجة تركيا لإجراء عملية عسكرية ضد مقرات حزب العمال الكردستاني “بي كا كا” شمالي العراق وسوريا؛ حيث بزوغ شعاع التوجه الإقليمي والدولي نحو إجراء تسوية شاملة للأزمة الفاعلة منذ سنوات، ما أثار التخوف التركي من وجود حالة عدم استقرار سياسية واقتصادية تحتاج إلى تسوية سريعة، للانتباه إلى الساحة السورية التي دار الحديث فيها عن انتشار لقوات فرنسية وإيطالية، واحتمال انتشار قواتٍ عربية “منافسة” و”مخاصمة” لتركيا.
وفيما يتعلق بآلية تحوّل النظام من برلماني إلى رئاسي في تركيا، أشارت الحكومة التركية في أثناء طرحها مواد الدستور الجديدة للاستفتاء، إلى أن تطبيق النظام الرئاسي سيتم في المراحل، والمرحلة الأولى ستكون طرح الدستور للاستفتاء، وبعد مروره من الاستفتاء بالقبول، ستبدأ مرحلة المواءمة التي تحوي بين ثناياها عدة مراحل أخرى.
ويمكن سرد خطوات مرحلة المواءمة وفقًا لما أوردته الصحافة التركية على النحو التالي:
ـ مرحلة عودة الرئيس إلى زعامة الحزب: من خلال هذه الخطوة، رمى حزب العدالة والتنمية إلى تثبيت أحد أهم معايير النظام الرئاسي الجديد، التي تنص على أن رئيس الدولة يمكن أن يكون زعيمًا لحزب سياسي، وقد عاد الرئيس أردوغان إلى زعامة حزب العدالة والتنمية مطلع مايو/أيار 2017، أي بعد أقل من أسبوعين على إجراء الاستفتاء.
ـ مرحلة اتباع مؤسسات الدولة الكبرى لمؤسسة الرئاسة: في إطار عملية المواءمة التي تقضي باتخاذ إجراءات تربط مؤسسات الدولة الكبرى والرئاسية بالمؤسسة الرئاسية، من أجل توسيع وتقوّية صلاحيات الرئيس على نحو يمنحه حق جراء تحقيقات سرية أو علنية داخل الوزارات والجيش ومؤسسات الدولة الأخرى، بما يضمن اتخاذ إجراءات احترازية لأي تحركٍ ضد مصلحة الدولة، ويُتوقع أن يستمر ربط مؤسسات الدولة الكبرى، لا سيما رئاسة الأركان، بمؤسسة الرئاسة بعد الانتخابات المُرتقبة.
تختلف الوزارات عن مؤسسات الدولة الأخرى، إذ ترتبط بمؤسسة رئاسة الوزراء التي كان لا يمكن إلغاؤها إلا بعد إجراء الانتخابات
ـ مرحلة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأولى: وتُعد هذه المرحلة الفيصل الحقيقي، فإما يفوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات الرئاسية، وبالتالي يستمر في عملية تغيير شكل النظام، أو يخسر الانتخابات وتفوز المعارضة التي ترمي إلى إلغاء هذا التحول، لكن وفقًا لاستطلاعات الرأي، يبدو أن حزب العدالة والتنمية الأكثر حظًا في هذه الانتخابات.
ـ إلغاء بعض الوزارات ودمج أخرى: تختلف الوزارات عن مؤسسات الدولة الأخرى، إذ ترتبط بمؤسسة رئاسة الوزراء التي كان لا يمكن إلغاؤها إلا بعد إجراء الانتخابات، حيث يُنتظر ربطها بمؤسسة الرئاسة، لكن بعددٍ أقل مما كانت عليه سابقًا، والهدف من تحجيم عدد الوزارات هو، حسب ما يبدو، زيادة الترابط العضوي فيما بينها، بحيث تصبح سيرورة العمل أكثر حركة.
وفي ضوء ذلك، فإن الوزارات التي ستُلغي هي:
ـ وزارة الاتحاد الأوروبي: سيتولى هذا الملف وزارة الخارجية.
ـ وزارة الشباب والرياضة: سيتولى هذا الملف وزارة العائلة والمجتمع.
ـ وزارة الغابات والمياه: سينقسم هذا الملف بين وزارتي الزراعة والثروة الحيوانية والتخطيط المدني.
ـ وزارة الثقافة والسياحة: سينقسم هذا الملف بين وزارتي التربية والتعليم “الثقافة” ووزارة الاقتصاد والمالية والتنمية “السياحة”.
ـ وزارة الجمارك والتجارة: سيتولى هذا الملف وزارة الاقتصاد والمالية والتنمية.
ـ وزارة المالية.
ـ وزارة التنمية.
قد تطرأ تغييرات على هذه المراحل في المستقبل، لكن في جميع الأحوال، تبقى هذه المراحل أساسية في إطار الاتجاه نحو النظام الرئاسي
الوزارتان الأخيرتان سيتم دمجهما مع وزارة الاقتصاد تحت اسم وزارة الاقتصاد والمالية والتنمية.
وبذلك التعديل سينخفض عدد الوزارات في تركيا من 25 إلى 14.
في المحصلة، تتجه تركيا نحو تغيير شكل نظام الحكم فيها، ويبدو من الصعب حصر مراحل تحوّلها لنظام رئاسي في المراحل المذكورة أعلاه، لذا قد تطرأ تغييرات على هذه المراحل في المستقبل، لكن في جميع الأحوال، تبقى هذه المراحل أساسية في إطار الاتجاه نحو النظام الرئاسي