بعد أيام قليلة من تأكيد جاهزيته للخروج إلى السوق المالية العالمية لإصدار قرض رقاعي (سندات) بالإنابة عن الدولة التونسية ولفائدتها، أجّل البنك المركزي التونسي هذه الخطوة، معتبرًا أن الظروف غير ملائمة للجوء إلى هذه السوق في هذه الفترة.
خروج محفوف بالمخاطر
رغم الضغوط المتزايدة على الموجودات من العملة الأجنبية من ناحية وعلى سيولة السوق المالية الداخلية من ناحية أخرى، فضّل البنك المركزي التونسي تأجيل الخروج للسوق المالية الذي كان مبرمجًا في بداية مارس/ آذار الماضي، خوفًا من تداعيات ذلك على اقتصاد البلاد.
تندرج عملية الاقتراض في إطار تعبئة الموارد لفائدة ميزانية الدولة المنصوص عليها بقانون المالية لسنة 2018 ولتلبية حاجيات البلاد من العملة الأجنبية، سواء بعنوان تمويل عجز الميزانية أم عجز المدفوعات الجارية، وفق بيان سابق للبنك المركزي التونسي.
هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تأجيل الخروج إلى الأسواق العالمية للاقتراض
وتقدر حاجات تمويل الموازنة وفق قانون المالية 2018، بنحو 12.9 مليار دينار (أي نحو 5.37 مليار دولار) موزعة على 7.4 مليار دينار (ما يعادل 3 مليارات دولار) تمويلات خارجية وأكثر من 5 مليارات دينار (ملياري دولار) سيتم تأمينها من السوق الداخلية.
وترى تونس أن خروجها في الوضع الحاليّ سيكون محفوفُا بالمخاطر، ما قد يدفع البلاد إلى الاقتراض بنسب فائدة عالية، لذلك فإن عليها التريّث قليلاً وعدم التسرّع حتى لا تقع في المحظور، ويكون للخروج تداعيات سلبية على البلاد.
تأجيل متكرّر
هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تأجيل الخروج إلى الأسواق العالمية للاقتراض، فقد تم ذلك في مرات عديدة، ففي شهر أبريل/نيسان الماضي أجلت تونس خروجها للسوق المالية العالمية لاقتراض مليار دولار يفترض أن تساهم في ردم فجوة في موازنة الدولة، وتوفير السيولة الكافية لنفقات التصرف والأجور بسبب تحذيرات خبراء الاقتصاد من إمكانية الاقتراض بنسبة فائدة عالية تفوق الـ8%.
وقال وزير المالية رضا شلغوم، حينها: “تونس لا تواجه ضغوطات للخروج إلى السوق المالية الدولية”، مؤكدًا أن الخروج “سيتم في وقت تكون فيه الظروف ملائمة بما يمكن البلاد من اغتنام أحسن الفرص للحصول على التمويلات”.
مؤشرات مالية سلبية
ذهاب تونس للاقتراض الخارجي مجددًا، يتزامن مع تسجيل الدينار تراجعًا جديدًا مقابل اليورو والدولار، بعد أن بلغ سعر العملة الأوروبية في البنوك التجارية 3.076 دينار بيعًا و3.002 شراءً، فيما بلغ سعر الدولار 2.657 دينار بيعًا و2.593 شراءً.
ويؤثر انزلاق الدينار بقوة في مديونية البلاد التي تدفع القسط الأكبر منها باليورو، فيما ذكرت وزارة المالية أن مستوى المديونية الإجمالي للاقتصاد سيبلغ 76.165 مليار دينار، تعادل 31.125 مليار دولار، خلال العام الحاليّ، مسجلة بذلك زيادة تقدر بنحو 12% مقارنة بالأرقام المسجلة خلال السنة الماضية.
تراجع احتياط العملة الصعبة لمستويات قياسية
الوزارة أشارت إلى أن قيمة الديون الإجمالية الواجب على الدولة دفعها شهريا لا تقل عن 664 مليون دينار، تعادل 271 مليون دولار، وأكد وزير المالية التونسي رضا شلغوم، في تصريحات سابقة، أن الدولة مطالبة هذا العام بسداد ما لا يقل عن 7.97 مليا دينار، تعادل نحو 3.26 مليار دولار من حصة الديون.
ويتزامن انهيار قيمة الدينار التونسي، بتراجع مخزون العملة الصعبة الذي تدحرج إلى مستويات حرجة للمرة الأولى منذ 15 عامًا، وكشفت بيانات البنك المركزي التونسي أن احتياطي العملة الأجنبية بلغ 11.210 مليار دينار (4.3 مليار دولار) في الـ29 من مايو/أيار الماضي.
ولا تكفي هذه المدخرات سوى لتوريد 76 يومًا، وتقف وراء هبوط احتياطي العملة الصعبة أسباب عديدة أبرزها ارتفاع عجز الميزان التجاري البالغ العام الماضي 15.6 مليار دينار (6.5 مليار دولار)، والناتج عن تراجع الصادرات التونسية، خاصة في قطاع الطاقة، مقابل ارتفاع الواردات، وفقًا لعدد من خبراء الاقتصاد في تونس.
وتعاني تونس من تراجع متواصل في احتياطات العملة الصعبة تتم معالجته من الحكومة باللجوء إلى الاستدانة من مؤسسات محلية، أو الخروج إلى السوق العالمية للاقتراض بنسبة فائدة لا تقل عن 5% في أغلب الأحيان.
تعيش تونس منذ أشهر على وقع أزمة سياسية واقصادية كبيرة
يرتبط ضعف احتياطي العملة الصعبة أساسًا بالوضع الاقتصادي في البلاد، وعدم استعادة القطاعات المدرة للعملة قدرتها الكاملة على غرار قطاعي السياحة والفوسفات، فضلاً عن تواصل انفلات الواردات، وذلك حسب خبراء اقتصاد.
وقبل أيام قليلة، رفع البنك المركزي التونسي سعر الفائدة الرئيسي إلى 6.75% من 5.75%، في ثاني زيادة خلال 3 أشهر، بهدف مكافحة التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوى منذ عام 1990، وقد تم اتخاذ هذا القرار بعد استعراض آخر المعطيات عن الظرف الاقتصادي وتداول بشأن سير أهم المؤشرات الاقتصادية والنقدية والمالية، ووضع المعاملات في السوق النقدية وسوق الصرف، وفقًا للمركزي التونسي.
وفي نهاية مايو/أيار الماضي أعلنت الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني ”فيتش”، الإبقاء على التصنيف السيادي لتونس على مستوى العملة الصعبة على المدى الطويل عند “ب إيجابي+B ، مع تغيير الآفاق من مستقرة إلى سلبية.
المطالبة بتغيير الحكومة ساهم في عدم الاستقرار السياسي في البلاد
وأشارت فيتش حينها إلى أن “تصنيف تونس تأثر بثقل وتزايد الدين العمومي والخارجي، ما عكس عجزًا للميزان الجاري وعجز الميزانية ونموًا اقتصاديًا معتدلاً ونسق إصلاحات ضعيفًا في ظل ضغوطات اجتماعية وسياسية”.
حسب فيتش، فإن “مراجعة الآفاق من مستقرة إلى سلبية تعكس تزايد الضغوطات على التمويل الخارجي، إضافة إلى حالة شك كبيرة تجاه قدرة الحكومة التونسية على دفع السياسات الكفيلة بالتقليص من اختلالات الاقتصاد الكلي”.
تأثير الاحتقان السياسي
التراجع في قرار الخروج إلى الأسواق العالمية وتأجيله إلى وقت لاحق، لا يرجع إلى سوء المؤشرات المالية والاقتصادية فقط، بل أيضًا إلى الاحتقان السياسي الذي تعرفه تونس وأثر على صورتها لدى المقرضين الدوليين.
وتعيش تونس منذ أشهر على وقع أزمة سياسية كبيرة، حيث تطالب عدد من الأحزاب السياسية على رأسهم حزب نداء تونس بتغيير حكومة يوسف الشاهد وهو ما ترفضه حركة النهضة الإسلامية بداعي الحفاظ على استقرار البلاد خاصة أن تونس لا تفصلها عن الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة أقل من سنة فقط.