ربما لا يرى المشجعون الذين حملوا أعلامهم ذاهبين إلى المدن الروسية اليوم ما عاشته تلك المدن من تاريخ طويل، تبدو تلك المدن اليوم مدنًا زاهية الألوان تحدها المنتجعات من كل مكان وتمتلئ بالمشجعين الذين جاءوا لمساندة منتخبهم الوطني في مباريات كأس العالم لعام 2018، إلا أن لكل واحدة منهم تاريخ طويل، بعضها شهد مذابح دموية وبعضها حارب النازية، والبعض الآخر لا يزال يعيش أهله ذكريات مؤلمة مضى عليها قرن من الزمان.
تستضيف الآن المدن الروسية كل المنتخبات الوطنية من كل أنحاء العالم، ويسير على أرضها بعض من هؤلاء الذين ربما تضرر أجدادهم أو من يشاركونهم التاريخ أو الديانة من الأحداث التي حدثت على نفس الأرض التي يسير عليها المشجعون الآن هاتفين عاليًا بالأغاني الوطنية لبلادهم لمساندة لاعبي كرة القدم، لكل مدينة يوجد بها المشجعون الآن بجانب منتخباتهم الوطنية التي ستلعب مبارياتها فيها، تاريخ طويل، قد يكون دمويًا أو عظيمًا، إلا أن لكل واحدة فيهم تاريخًا يفسر تلك التماثيل التي يقف المشجعون بجانبها لالتقاط صور تذكارية يشعلون بها حماسهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
دعنا نبدأ مع المدينة التي سيلاقي فيها المنتخب التونسي المنتخب الإنجليزي اليوم مساءً، إنها مدينة فولفوغراد التي عرفها التاريخ لفترة من الزمان بمدينة “ستالين”، ستجد تمثال “ماماييف” أو “الوطن الأم يُنادي”، مطلاً على ملعب “فولفوغراد آرينا” الذي سيشهد مبارة المنتخب الإنجليزي مع نظيره التونسي، سيكون التمثال حاملاً سيفًا كما حمله طوال العقود الماضية، مشجعًا على القتال والانتصار.
تمثال الوطن الأم ومباراة المنتخب الإنجليزي
تمثال “ماماييف” أو “الوطن الأم ينادي”
شهدت “فولفوغراد” أو كما عُرفت في ذلك الوقت من التاريخ بمدينة “ستالين غراد” نسبة إلى ستالين واحدة من أكثر المعارك دموية على الإطلاق أيام الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية، استمرت إلى أكثر من 5 أشهر، وانتهت بهزيمة الرايخ الألماني على يد الفلاحين من الجيش الأحمر بعد أن خلفت ما يقرب مليوني مصاب، كما تعتبر من أهم المعارك الجذرية في الحرب العالمية الثانية ونقطة تحول في مجرى الحرب بشكل كامل.
يعتبر ذلك النصب أعلى منحوتة في العالم، يبلغ ارتفاعه نحو 52 مترًا، يوجد أمامه نحو 200 درجة سلم كل واحدة منها تُمثل يومًا من أيام المعركة
لم تشهد تلك المدينة التي ستشهد المباراة اليوم دماء الأعداء فحسب، بل شهدت دماء أهل المدينة أنفسهم حينما أعدمهم القائد الروسي ستالين بسبب فخره بالانتصار وتخلصه من كل من لم يشارك في المعركة أو من تهرب منها أو من ظنه يتمارض.
أمر فلادمير بوتين الرئيس الروسي الحاليّ ببناء الملعب الذي سيضم مباراة المنتخب الإنجليزي خصيصًا في تلك المدينة ليكون مطلًا عليه تمثال “ماماييف” أو “تمثال الوطن الأم تنادي” باعتباره لفتة سياسية للمنتخب الإنجليزي الذي كانت بلاده حليفًا عسكريًا لروسيا أيام المعركة التي تحدثنا عنها سابقًا، كما اعترف ببطولتها في الحرب وينستون تشرشل، وهي إشارة دبلوماسية من بوتين للعلاقات المتوترة الحالية بين البلدين.
سوتشي: تاريخ دموي مع المسلمين
مظاهرات في مدينة سوتشي عام 2014 اعتراضًا ممن تبقى من الشركس على إقامة الأوليمياد في مدينة تعرض فيها المسلمين للإبادة الجماعية قبل مئة عام
أما عن المدينة التي ستشهد ربع نهائي كأس العالم لهذا العام فهي مدينة “سوتشي”، وهي المدينة التي تمتد على ساحل البحر الأسود الذي له ذكرى خاصة في قلوب السكان الأصليين للمدينة، إلا أننا قبل أن نتحدث عن تاريخ المدينة دعنا نتحدث عن حاضرها قليلًا، تضم مدينة سوتشي الآن أفخم وأضخم المنتجعات الروسية والمصحات الروسية التي تجذب سنويًا ملايين السياح حول العالم.
أقيم في المدينة أولمبياد الألعاب الشتوية لعام 2014، وهو ما زاد من عدد السياح لها فقط في العام نفسه نحو 4 ملايين سائح، ليرتفع العدد في النصف الأول من العام الماضي إلى أكثر من 6 ملايين ونصف سائح للمدينة نفسها، والآن هي على أعتاب قدوم أكثر من هذا العدد بكثير حينما تشهد مباراة ربع النهائي بين الفائزين من المجموعات الأولى المتنافسة على كأس العالم 2018.
ولكن لم يكن تاريخ سوتشي مفعم بالرفاهية التي يرغد بها حاضرها الآن، ولم تكن أبدًا منتجعًا للروس ومكانًا فخمًا يضم مصحات علاجية مشهورة دوليًا، بل امتلأ تاريخ سوتشي بالعنصرية الدموية على الرغم من أنها كانت مؤهلة للحياة الآمنة الرغدة بعد اكتشاف القصور والحمامات العلاجية فيها في أوائل القرن الماضي، إلا أن هذا كله لم يمنع أن يكون لسوتشي، لؤلؤة البحر الأسود، تاريخًا دمويًا مع المسلمين.
ارتكبت روسيا جريمة إبادة جماعية بحق المسلمين الشركس من القوقاز، في هذه المدينة نفسها قبل 154 عامًا، وراح ضحيتها مئات آلاف القتلى، ومليون ونصف المليون شركسي هجروا من موطنهم الأصلي في القوقاز، وذلك بعد أن شهد شمال القوقاز حربًا استمرت أكثر من مئة عام بين الروس وشعوب المنطقة المسلمة، بين عامي 1763 و1864، وتعدّ هذه الحرب من أكثر الحروب دموية في التاريخ، إذ أسفرت عن مقتل أكثر من 500 ألف من سكان القوقاز، بالإضافة إلى تهجير مئات الآلاف من الشركس وغيرهم من شعوب المنطقة.
صودرت ممتلكات وأراضي الشركس باعتبارهم “خونة” من قبل “ستالين” وتم منحها لكل من استوطن مدينة سوتشي الموجود أولادهم وأحفادهم بالمدينة في شكلها الحاليّ
اتبعت روسيا القيصرية سياسة التغيير الديمغرافي، فهجرت قسريًا 1.5 مليون شركسي من مدن عدة من بينها سوتشي وتوابسي وسخومي الساحلية إلى مناطق سيطرة الدولة العثمانية، وعلى رأسها مدينة فارنا، وهي مدينة بلغارية مطلة على البحر الأسود، وسامسون وسينوب وطرابزون، وهي ولايات تركية مطلة على البحر الأسود أيضًا، إلا أن كثيرًا من المهجرين لم يستطعوا إكمال رحلتهم في البحر إلى الولايات التركية وكثير منهم غرقوا ولقوا حتفهم مع عوائلهم في البحر الأسود، البحر الذي يمتنع كثير من أحفاد القوقاز إلى اليوم السباحة فيه أو تناول المأكولات البحرية منه ظنًا منه أنها تغذت طوال مئة عام على جثث أجدادهم المهجرين.
“قازان”: تاريخ ثالث أكبر مدينة روسية
أما المدينة الثالثة التي ستشهد أيضًا إحدى مباريات ربع النهائي لكأس العالم هي مدينة “قازان“، عاصمة جمهورية “تتارستان” المستقلة وصاحبة أكبر كثافة سكانية للمسلمين في روسيا، أما قبل أن تكون كذلك، كانت قازان واحدة من مدن المغول الذهبية التي سيطر المغول منها على العديد من بلاد أواسط آسيا وكثير من مناطق روسيا الأوروبية، ذلك قبل أن يتم حرقها كليًا عام 1552 على يد القيصر “إفان الثاني” لتصبح جزءًا من الإمبراطورية الروسية الجديدة.
ظهر الإسلام في المدينة في عهد الخلافة العباسية عام 912م، حينما طلب ملك البلغار من الخليفة العباسي إرسال بعثة إسلامية لتعليم الدين الإسلامي فيها، حيث بُنى فيها مسجدًا بعد ذلك وهذا ما تدل عليه المباني والقصور والأبراج، والآثار الإسلامية التي شهدت التاريخ الإسلامي فيها والموجودة إلى اليوم.
سُميت كازان أو قازان بهذا الاسم نسبة إلى التتار الذين سكنوها، ولقبوها بهذا الاسم، فكازان تعني في التتارية المرجل، ويقال تعني حفر الخنادق
عادت العصور الذهبية إلى المدينة في العصر الثامن والتاسع عشر حينما بدأ التجار في إنعاش المدينة من جديد، وبناء القصور والكنائس والمساجد على حد سواء، أما الآن فتأتي المدينة في المرتبة الثامنة من حيث كثافة السكان بين المسلمين والمسيحيين معًا، كما أنّ فيها الكرملين الذي يصنف كأحد مواقع التراث العالمي في منظمة اليونسكو، كما تحظى قازان بأهمية صناعية واقتصادية وإدارية، مما يجعلها إحدى أهم المدن في روسيا.
لا تكون كرة القدم، وبالأخص تنظيم كأس العالم مجرد احتراف رياضي لبعض المنتخبات، بل يكون لها أبعاد دبلوماسية وقرارات سياسية خفية وقصص وحكايات تاريخية كلما طواها الزمن عادت تتفجر علنًا وتنعي كل الضحايا من جديد مع كل حدث دولي وعالمي يُقام على الأرض نفسها، فلم يكن لاختيار الملاعب ومواقعها واختيار المدن التي تُقام فيها المباريات من فراغ، فهناك ملعب يُقام أمام أشهر النصب التذاكارية الروسية للفت الإشارة للعلاقات الدبلوماسية، وهناك ملعبًا يُقام على أرض عاشت فيها إمبراطوريات حكمت نصف العالم من قبل.