غالبًا حين حديثنا عن الطعام، نتطرّق لمذاقه أو أين يمكن أنْ نتلذّذ بأكله أو مَن يصنع ألذّ وجبةٍ منه، أو حتى قد نذكّر تاريخه السرديّ منذ البدء، كيف ظهرت هذه الوجبة وما كانت حكايتها. لكن ماذا عن ذكريات الطعام التي تشكل روايات حياتنا؟ مما لا شكّ فيه أنّنا جميعنا نمتلك ذاكرة معينة عن طعامٍ أو وجبةٍ ما تعود لسنين بعيدة، فنتذكّر صنعنا لقالب الحلوى مع والدتنا ونحن صغار، أو سهرنا ليلة العيد لنصنع كعكه ومعموله، أو رحلتنا إلى مكانٍ ما وتناولنا وجبةً مميزة فيه. أو حتى قد تكون تلك الذكريات سيئة أو سلبية، كشربِ كأس الحليب مجبرًا، أو تناول وجبة الغداء التي لا تحبّها لكن بالنهاية ما بيدك حيلة، فهذا الموجود.
قد تكون معظم الدراسات عن الطعام كانت تتمركّز حول أثره على الصحة الجسدية أو النفسية، لكن في السنوات الأخيرة ظهرت العديد من الدراسات الإنسانية الحديثة التي تبحث في علاقتنا المتطورة بالطعام، بدءًا من الأنظمة الغذائية لأسلافنا الأوائل، إلى أثر الطعام على الذاكرة، أو دور الطهي في تطور الدماغ البشري، أو تأثر الهوية القومية أو العِرقية بالطعام، إلى انشغالات عشاق الطعام المعاصرين بما يأكلونه وما يحبونه.
ألا يخطر على بالك أحيانًا السببَ الذي يجعل معظمنا يميل لتفضيل الطعام الذي تصنعه والدته أو زوجته على بقية المأكولات الأخرى، هل لأنّنا اعتدنا عليها أم لأنها ترتبط بذكرياتٍ ومواقف معينة تصبح حيةً وحاضرةً في الدماغ أكثر من أيّ ذاكرةٍ أخرى قد ترتبط بطعامٍ آخر؟ ولماذا تفضّل طعام وطنك على الرغم من أنّ المأكولات الأخرى قد تكون أفضل منه بدرجاتٍ متفاوتة؟ هل الأمر يعود للذكريات والاعتياد أيضًا أم ماذا؟
يعمل الطعام كمحفّز فعّال للعديد من الذكريات التي ترتبط بشكلٍ عميق مع الكثير من المشاعر والعواطف، والحالات الداخلية للعقل والجسم.
حبّك لطعامٍ معيّن واستمتاعك بع لا يعتمد فقط على المذاق الذي تستشعره في ذلك الوقت، بل هو أيضًا ذاكرة الأوقات الأخرى التي تمتّعتَ وستتمتع فيها بنفس الطعام، فالدقائق التي تستمتع بها فعليًا بالطعام ستنقضي وتعبر، أما ما سيتبقّى لديك هو الذاكرة. إذ يعمل الطعام كمحفّز فعّال للعديد من الذكريات التي ترتبط بشكلٍ عميق مع الكثير من المشاعر والعواطف، والحالات الداخلية للعقل والجسم. والكثير منه يسلك وكأنه مسارٌ نحو الماضي، بالحنين إليه والشعور بالنوستالجيا تجاهه.
من وجهة نظر علوم التطوّر، فإنّ الطعام كان منذ القدم موضوعًا مميّزًا لأجزاء الدماغ المسؤولة عن الذاكرة. فالحُصين أو “hippocampus” يختص في تكوين الذكريات التوضيحية طويلة الأمد، تلك التي يمكن تذكرها بوعي والتي تساهم في تكوين السير الذاتية التي نحملها جميعًا في أدمغتنا. كما أنه يلعب دورًا في بناء الذكريات المكانية التي تُعتبر ذات أهمية بالغة للحيوانات التي لا تمتلك القدرات اللغوية، إضافةً لكونه يرتبط ارتباطاتٍ قوية مع أجزاء الدماغ المسؤولة عن العواطف والحواسّ الأخرى، وهذا يفسّر لنا لماذا بعض الروائح التي نشمّها تأخذنا لمحطةٍ بعيدة من الذكريات، حتى قبل أنْ تحضر تلك الذاكرة إلى نطاق وعينا أو نحدّث أنفسنا بها.
طوّر أسلافنا الحصيْن ليؤدي وظيفةً فعّالة وحيوية: تكوين ذكريات حول الطعام وأماكنه ومصادره ومذاقاته وما يتعلّق به من معلوماتٍ مهمّة قد تفيدهم في المستقبل.
ولا شك أنّ الانفعالات العاطفية والروائح تساهم في استحضار بعض الذكريات المرتبطة بالطعام. ولكنّ الأهمّ من ذلك أيضًا، أنّ الحصين له ارتباطات مباشرة بالجهاز الهضمي والعديد من الهرمونات التي تنظم الشهية والهضم وبعض السلوكيات المرتبطة بالأكل. وبالتالي، وبما أنّ العثور على الطعام مهم للغاية للبقاء على قيد الحياة، فمن الواضح أنّ أسلافنا طوّروا الحصيْن ليؤدي وظيفةً فعّالة وحيوية، ألا وهي تكوين ذكريات حول الطعام وأماكنه ومصادره ومذاقاته وما يتعلّق به من معلوماتٍ مهمّة قد تفيدهم في المستقبل.
فالطريقة التي كان يتذكّر بها أسلافنا أماكن طعامهم وأذواقه وروائحه ساعدتهم في البقاء والنجاة بالدرجة الأولى. ومع الوقت تطوّر الأمر لدينا فبات لكلٍّ طعامٍ ذاكرته الخاصة به التي تميّزه عن غيره من المأكولات الأخرى، فهناك ما يذكّرنا بالطفولة، أو بمناسبةٍ معينة كرحلةٍ مدرسيّةٍ ما أو كصباح العيد أو ليالي رمضان، وهناك الذاكرة المرتبطة بأشخاصٍ بعينهم كطعام الأم أو الزوجة، الذي حفظته ذاكرتنا جيّدًا وكوّنت العديد من العواطف والمشاعر المتنوعة تجاهه، فبتنا نراه الألذّ والأطيب، ليس لطَعمه ربّما، بل لما يجلبه لنا من حنينٍ وذكريات وشريطِ صورٍ غابرة احتواها اللاوعيُ وأعطاها أهميةً ومكانةً متحيّزة.
وربّما هذا هو السبب الذي قد يفسّر السبب وراء حبّنا وتفضيلنا لشكلٍ ومرأىً معيّن لوجباتنا التي نحب، حتى إذا اختلف الشكل أو وجدته العينُ غريبًا أو مختلفًا، لم تألفه. أمّا قولنا أنّ العين هي التي تأكل، قد يصبح أدقّ إذ قلنا أنّ ذاكرتنا هي التي تأكل، فما اعتدنا على شكله وطعمه وحفظ دماغنا معلوماته وبياناته هو بالنهاية ما نألفه ونأكله. وتجربة الأطعمة والمأكولات الجديدة لا تروق للكثيرين من الأشخاص في نهاية المطاف.
الحنين لطعام وطنك وبحثك عنه في الشتات والمهجر هي محاولات لإعادة الاتصال مع الماضي ولتأكيد التفاعل العاطفيّ والارتباط الوجدانيّ بالوطن وهويّته
كما يعدّ الحنين المرتكز على الطعام موضوعًا متكررًا في دراسات المغتربين أو المهاجرين. فروائح وأذواق الطعام الخاص بوطنك المفقود، تثير شوقك وحنينك له، مما يعطيكَ شعورًا أشبه بالعودة المؤقتة إلى وقتٍ مليء بالذكريات القديمة والمرتبطة بالعائلة والأصدقاء وزوايا أو أماكن معيّنة اعتدتَ أنْ تقصدها لتتناول ذلك الطعام. وأنْ تتسوّق مستلزماتِ طعامك التقليديّ، أو أنْ تطبخها وتعدّها بنفسكَ خطوةً بخطوة، أو أنْ تذهب لمطعمٍ يصنعها في المهجر، ما هي إلا محاولات لإعادة الاتصال مع الماضي ولتأكيد التفاعل العاطفيّ والارتباط الوجدانيّ بالوطن وهويّته. فالطعام يصبح أداةً للحنين، والحنين يكون في كثيرٍ من الأوقات هو ما تبقّى من الهوية والارتباط بالوطن والأهل في الشتات والمهجر.
إذن، فتشير الدراسات المتعلّقة بالطعام إليه بوصفه مفهومًا عاطفيًا عن الماضي المفقود، ووسيلةً لاستحضار ذكريات الطفولة والعائلة والأصدقاء والوطن وما يتعلّق به. كما تنظر بعض الدراسات الأخرى للمشاعر المرتبطة بالطعام على أنها شوق للأوقات والأماكن التي لم يختبرها المرء ولم يعشْها أبدًا. الأمر الذي تستشّفه في الأجيال التي تربّت في الغربة والمهجر وبارتباطهم العاطفيّ بطعامهم القوميّ بغض النظر عن مدى حضوره في حياتهم اليومية أو عن تفضيلاتهم الأخرى التي صنعتها الغربة والوطن البديل.
رائحة وطعم المأكولات التي تصنعها والدتك تطمئنكَ على أنّ ما عشته في طفولتك هو جزءٌ من حياتك المتواصلة والواحدة.
يشكّل الطعام جزءًا قويًا من السرد العاطفي لحياتنا والذي يعد، تبعًا لنواحيَ عديدة، أكثر أهمية من السرد التاريخي. وبكلماتٍ أخرى، يمكننا القول أنّ الذاكرة بشكلٍ عام وتلك المرتبطة بالطعام بشكلٍ خاص، لها وظيفتان: الأولى هي التذكير الواقعي، والأخرى هي إنشاء وصون الروابط العاطفية بالماضي، أو ما يمكن تسميته بالذكريات. كما تلعب الذاكرة دورًا كبيرًا في المحافظة على استمرار وجودنا وشعورنا بعدم تقطّعه، فرائحة وطعم المأكولات التي تصنعها والدتك تطمئنكَ على أنّ ما عشته في طفولتك، على الرغم من مرور العديد من السنوات عليه، هو جزءٌ من حياتك المتواصلة والواحدة. كما هو أيضًا وسيلة للشعور بالاستمرارية العاطفية والارتباط بذلك الوقت الماضي.
الحنين لمأكولات بلدك، أو تذكّرك لطعام أمك أو حلويات جدّتك، ما هو إلا شكل من أشكال السيرة الذاتية التي نبنيها في ذاكرتنا المتراكمة على مرّ السنين، والتي تتحوّل مع الوقت إلى إحساس كامل بالهوية الشخصية والوطنية. وبالتالي فلربما نستطيع بالمحصلة أنْ نقول أنّ عبارة “نحنُ ما نأكله” ليست صحيحة أبدًا، وإنما “نحن ما نتذكّر أننا أكلناه”.