آبل وجوجل شركتان عملاقتان متنافستان، لكن العلاقة بينهما تتجاوز التنافس التقليدي، بل تتسم بتعقيد فريد؛ إذ تتداخل المنافسة الحادة مع التعاون الوثيق. في كثير من الأحيان، يسعى كل طرف إلى تحقيق التفوق على الآخر من خلال تطوير تقنيات جديدة أو تقديم ابتكارات تخدم مصالحه. ومع ذلك، هناك أوقات يجد فيها الطرفان أن التعاون يصب في مصلحتهما المشتركة، ما يدفعهما إلى العمل معًا لتحقيق أهداف محددة.
هذا التوازن الدقيق بين المنافسة والتعاون هو ما يجعل العلاقة بين آبل وجوجل مثيرة للاهتمام، فبينما تمتلك آبل نظام التشغيل iOS الذي يعد قلب هواتف الآيفون وأحد أعمدة نجاحها، تسيطر جوجل على سوق الهواتف الذكية بنظام تشغيل “أندرويد” الذي يعمل على غالبية الهواتف حول العالم. هذا التوزيع الواسع لنظام الأندرويد جعل جوجل لاعبًا رئيسيًا في سوق التكنولوجيا، وفتح المجال أمام منافسة شرسة بين الشركتين في مجالات أخرى أيضًا.
لكن التنافس بين آبل وجوجل ليس مقتصرًا على أنظمة التشغيل، كما هو معروف، وهناك مؤشرات قوية على أن المنافسة بينهما قد تنتقل إلى مجال آخر هو محركات البحث. جوجل التي تهيمن على هذا المجال منذ عقود بفضل محركها الأشهر، تواجه الآن تحديًا جديدًا يتمثل في محاولات آبل لتطوير محرك بحث خاص بها. هذه الخطوة قد تفتح فصلًا جديدًا من المنافسة بين الشركتين، خاصة إذا تمكنت آبل من تقديم محرك بحث يجذب المستخدمين بعيدًا عن جوجل.
الأسئلة التي تُطرح الآن تدور حول مدى قدرة آبل على كسر احتكار جوجل لمحركات البحث، وما إذا كان العالم الرقمي سيشهد تحولًا كبيرًا في موازين القوى على الإنترنت. في الأسطر التالية، سنستعرض الجهود التي تبذلها آبل في هذا الصدد، ونتناول السيناريوهات المحتملة لانتهاء سيطرة جوجل على الإنترنت إذا نجحت آبل في هذه المهمة.
صفقة آبل وجوجل السرية
لسنواتٍ عديدة، كانت جوجل تراقب بقلق متزايد آبل وهي تعمل على تطوير وتحسين تكنولوجيا البحث الخاصة بها، دون أن تعرف ما إذا كان سيبني الغريم التقليدي محرك بحث خاص به أم لا في نهاية المطاف. لكن تلك المخاوف تصاعدت في عام 2021، عندما طورّت آبل وحسنّت أداة البحث الخاصة بها “Spotlight” وأصبحت أكثر قوة وسرعة. كما أنها باتت توفر نتائج بحث أكثر ثراءً للمستخدمين مثل تلك التي كان من الممكن العثور عليها عند استخدام جوجل.
حينها؛ قررت جوجل أن تلجأ بهدوء للأسلوب التقليدي من أجل تقويض Spotlight ووضع حد لطموح آبل بالنسبة لتقنية البحث الخاصة بها. الجميع يعرف أن آبل شركة تعشق مراكمة الأموال، ولهذا قدمت جوجل عرضًا مغريًا لا يمكن لصانع الآيفون أن يرفضه على الإطلاق. اجتمع رؤساء كلا الشركتين في مكان بعيد عن الأنظار واتفقا على صفقة حيث تدفع جوجل مبلغًا معينًا لآبل حتى تسمح الأخيرة بأن يكون جوجل محرك البحث الافتراضي على هواتف آبل الذكية.
التفاصيل الخاصة بالصفقة بين آبل وجوجل
تُمثِّل الصفقة بين آبل وجوجل واحدة من أهم الشراكات في عالم التكنولوجيا، وذلك ببساطة لتأثيرها الكبير على سوق الإعلانات الرقمية. في عام 2021، دفعت جوجل 18 مليار دولار لشركة آبل كجزء من اتفاقية تهدف إلى الحفاظ على جوجل كمحرك البحث الافتراضي في متصفح سفاري، الذي يعد واحدًا من أكثر المتصفحات استخدامًا على أجهزة آبل مثل الآيفون والآيباد.
ومع زيادة أهمية هذه الشراكة لكلا الطرفين، دخلت آبل في مفاوضات مع جوجل لزيادة المبلغ المدفوع، ما أسفر عن رفع الحصة إلى 20 مليار دولار في عام 2022. هذه الزيادة تعكس القوة التفاوضية لآبل وأهمية الحفاظ على هذا التحالف الاستراتيجي، حيث يشكل متصفح سفاري مصدرًا كبيرًا للزيارات إلى محرك البحث جوجل.
تتلقى آبل حاليًا 36% من إجمالي الإيرادات التي تحققها جوجل من الإعلانات التي تظهر على نتائج البحث عبر متصفح سفاري. هذه النسبة تعكس مدى أهمية مستخدمي أجهزة آبل بالنسبة لجوجل، حيث يُعدون من الفئات الأكثر قيمة من حيث العائدات الإعلانية.
تمتد هذه الاتفاقية حتى شهر سبتمبر/أيلول من عام 2026، مع وجود بند يتيح لآبل تمديدها لمدة عامين إضافيين إذا رغبت في ذلك. هذا التمديد المحتمل يؤكد على الرغبة المتبادلة في الحفاظ على هذه الشراكة المربحة لأطول فترة ممكنة.
بعد استقطاع الحصة المدفوعة لآبل، تظل إيرادات جوجل من الإعلانات على أجهزة الآيفون كبيرة، حيث تُقدر بنحو 56 مليار دولار. هذه الأرقام تبرز الدور المحوري الذي يلعبه الآيفون في استراتيجية جوجل الإعلانية، كونه يوفر قاعدة مستخدمين واسعة ونشطة.
وعلى نطاق أوسع، ووفقًا لبيانات صادرة عن شركة أبحاث السوق ستاتيستا، فإن إيرادات جوجل الإجمالية تجاوزت 305 مليارات دولار في العام الماضي. هذا الرقم يعكس النمو المستمر في أعمال جوجل، وخاصة في قطاع الإعلانات الرقمية، الذي يبقى العمود الفقري لإيرادات الشركة.
ويذكر أن جوجل لم تعقد صفقة مع آبل فقط، بل مع شركات أخرى مثل موزيلا وسامسونج وغيرهما. بحيث تحصل تلك الشركات على مليارات الدولارات. وفي المقابل، يتم توجيه حركة المرور الخاصة بهم إلى جوجل.
هل نشهد ولادة محرك بحث آبل
أصبحت صفقة آبل وجوجل في مهب الريح بعدما خضعت تلك العلاقة بين الشركتين للتدقيق والتحقيق من الهيئات الحكومية في أمريكا والعديد من البلدان الأخرى التي قررت معاقبة جوجل لأنها تحتكر سوق البحث على الويب وتمنع محركات البحث الأخرى من الحصول على فرصة عادلة. وهكذا بدأت الشائعات والأخبار تتزايد بأن آبل تعمل بالفعل على محرك بحث خاص بها بشكل سري لاستخدامه على أجهزتها والحصول على حصة جوجل بالكامل من إيرادات إعلانات البحث على سفاري.
لا يوجد خبر مؤكد أن آبل تعمل على محرك بحث لمنافسة جوجل. ولكن دعونا نستخدم المنطق والعقل كما تفعل آبل ولنضع أنفسنا مكانها. ونحاول الإجابة على سؤال يدور في ذهن الشركة عبر حوار تخيلي كالتالي:
(تنبيه: الحوار أدناه مُتخيّل، وقد استعان الكاتب بأدوات بالذكاء الاصطناعي لتحسينه بعد تقديم معطيات ومصادر)
المشهد:
- غرفة اجتماعات في مقر شركة آبل، يجتمع فريق من كبار المهندسين والمطورين لمناقشة إمكانية بناء محرك بحث جديد يتحدى هيمنة جوجل.
الشخصيات:
- تيم كوك: الرئيس التنفيذي لشركة آبل.
- كريج فيديريغي: نائب الرئيس الأول للهندسة البرمجية.
- جون جياناندريا: نائب الرئيس الأول لاستراتيجية التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي.
- جوني سروفجي: نائب الرئيس الأول لتسويق الأجهزة.
- لوكا مايستري: نائب الرئيس الأول والمدير المالي.
وكان الحوار كالتالي:
تيم كوك: أعتقد أن الوقت قد حان للتفكير جديًا في تطوير محرك بحث خاص بنا. تمتلك جوجل حصة سوقية ضخمة، ولكن هذا لا يعني عدم إمكانية تقديم شيء أفضل.
كريج فيديريغي: أوافقك الرأي. لدينا التقنيات والبيانات الضخمة التي تُمكننا من بناء محرك بحث سريع وفعال. يمكننا أن نركز على الخصوصية والأمان، وهما قيمتان أساسيتان بالنسبة لمستخدمي آبل.
جون جياناندريا: من الناحية التصميمية، يمكننا خلق تجربة مستخدم فريدة تمامًا. تخيلوا محرك بحث يعمل بالذكاء الاصطناعي ويُدمج بشكل سلس مع نظام التشغيل، ويقدم نتائج بحث مرئية وجذابة.
جوني سروفجي: هذا رائع من الناحية التقنية والتصميمية، ولكن كيف سنقنع المستخدمين بالتخلي عن جوجل والانتقال إلى محرك بحث جديد؟
تيم كوك: هذا هو التحدي الأكبر. جوجل لديها باع طويل وتقنيات وخبرات وبيانات ضخمة في مجال البحث.
جون جياناندريا: لا تنسى أيضًا أننا سوف نستنزف مئات المليارات سنويًا في تطوير محرك البحث. وفي الوقت نفسه نحن نحصل على 20 مليار دولار سنويًا دون أي تعب.
تيم كوك: أيضًا بناء محرك بحث جديد يعني العديد من الأخطاء التي ستظهر وبالتالي مُنتج ذو جودة منخفضة وهذا لا يتناسب مع المعايير التي نفرضها على منتجاتنا.
جوني سروفجي: هناك شئ مهم جدًا ربما غفلتم عنه، جوجل هي الملك حرفيًا بلا منازع عندما يتعلق الأمر بمحركات البحث في الكوكب. وبالتالي حتى إذا أطلقنا محرك بحث، سنخسر صفقتنا المربحة مع جوجل.
لوكا مايستري: من وجهة نظري وخبرتي الطويلة، لا يوجد منافس حاليًا يمكنه مواجهة جوجل حتى مايكروسوفت بينج وهو أقرب المنافسين لديه حصة سوقية تصل إلى 6% وجوجل تتربع على العرش منفردة.
تيم كوك: حسنًا، لقد توصلت إلى الإجابة التي أحتاجها. لن نُطوِّر محرك بحث وسوف نستمر في الصفقة مع جوجل لأطول فترة ممكنة. لكن هذا لن يمنعنا من تطوير تقنيات البحث الخاصة بنا لكي تكون الورقة الرابحة لمساومة جوجل من أجل دفع مبلغ أكبر كل عام.
انتهي الاجتماع.
لماذا رفضت آبل شراء محرك بحث مايكروسوفت
ربما سمعت بمحاولة مايكروسوفت جعل بينج محرك البحث الافتراضي في الآيفون. باءت تلك المحاولة بالفشل، فقررت مايكروسوفت أخذ الأمر لأبعد من ذلك وعرضت على تيم كوك شراء بينج إلا أن الرئيس التنفيذي رفض عرضها. وقال إيدي كيو أحد مدراء الشركة عن الأمر إن مايكروسوفت لو قدمت لنا (مال قارون) لن نقبل بمحرك البحث الخاص بها. فلماذا هذا الإصرار الغريب من آبل على الرفض؟
يمكن القول إن التعنت من آبل له أسباب منطقية. في البداية، أجرت الشركة دراسة لقياس مدى مُلاءمة نتائج البحث على جوجل وBing. بينما تفوق بينج في أداء بحث جوجل عندما يتعلق الأمر بواجهة مستخدم سطح المكتب، فقد وجدت الدراسة أن جوجل يتمتع بالتفوق على بينج في كل المعايير الأخرى. كما وجدت آبل أيضًا أن بينج لن يتمكن من تحقيق إيرادات كافية تُعوِّض خسارتها لصفقتها طويلة الأمد مع جوجل.
ومن أجل الدخول في شراكة مع مايكروسوفت، ستحتاج آبل إلى إسقاط صفقتها مع جوجل. وفي رسالة بالبريد الإلكتروني إلى تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة آبل، قال كيو إن آبل “ستعرض إيراداتها للخطر” إذا توقفت عن الشراكة مع جوجل.
كما اتضح أن مايكروسوفت يتعين عليها دفع 122% من إيراداتها في بينج لآبل لتساوي الحصة التي تحصل عليها من جوجل والتي تبلغ 33.7% فقط. أما السبب الأخير فهو أن صانع الآيفون حريص على تقديم منتجات عالية الجودة لمستخدميه لهذا تخلى عن بينج الذي وصفه بأنه ذو جودة رديئة مُقارنةً بجوجل.
هل هناك بدائل قادرة على منافسة محرك بحث جوجل
في الوقت الراهن، تُهيمن جوجل على سوق محركات البحث في العالم بحصة سوقية تبلغ 95% للهواتف الذكية و90% تقريبًا على عمليات البحث بشكل عام التي تتم عبر الويب. ويأتي بينج المملوك لشركة مايكروسوفت بحصة تكاد تبلغ الـ6%، يليه ياندكس وياهو وبايدو ودك دك جو بحصص قليلة للغاية. هذا يعني أن جوجل يتربع على القمة دون أي تهديد.
أخيرًا، دوام الحال من المحال، وعلى الرغم من هيمنة جوجل، فإن آبل لديها فريق مخضرم من المهندسين وخبرات طويلة كما أن مواردها المالية لا تنضب، لذا إذا فكرت آبل بجدية في ترك الفتات التي تتركه لها جوجل، والتركيز على بناء محرك بحث يمكنه المنافسة، حينها ستكون جوجل في ورطة؛ لأن آبل -كعادتها- عندما تدخل في مجال جديد أول مرة فإنها تحتل المركز الأول ولا تتركه أبدًا، تمامًا كما حدث – حتى الآن – مع رأسية الواقع الافتراضي Apple Vision Pro، لذا يجب على جوجل أن تحذر من صحوة آبل. وإلى أن يحدث هذا، لا يوجد حاليًا أي مُحرك بحث يمكنه منافسة جوجل من قريب أو حتى بعيد.