لا شكّ أنّ السياسة هي لعبة بين أطراف عديدة تحاول التفوّق على بعضها البعض من خلال استخدام الإعلانات في محاولة للتأثير على الناخب المطلع وغير المطلع على قضيته. لكن ما مدى إقناع هذه الإعلانات حقًا؟ وكيف يستغلّ الساسة والمرشّحون علم النفس لإقناع الجمهور وحشدهم في إطار فكرةٍ معينة؟ وكيف يحاولون من خلال ذاكرتنا ولاوعينا وعواطفنا استقطاب أصواتنا وموافقاتنا على برامجهم الانتخابية؟
عادةً ما يكون الخيار غير مرتبط بتحليل البرنامج السياسي للمرشح أو للحزب وأنشطته، بل هو نتاجٌ لصورتهما، المرشّح أو الحزب أقصد، الأقوى تواجدًا في الوعي الجمعيّ لحظة التصويت والاقتراع. إذ تستطيع الدعايات الانتخابية بطريقة أو بأخرى، جعْل ذلك المرشح البطل المستحب الذي سيتم انتخابه أو الشرير السيء الذي لن يُنتخب.
قبل كلّ شيء: نحن نصدّق ما نريد أن نصدّق
حاول علماء النفس الاجتماعيّ على مدى عقودٍ طويلة دراسة كيف تلعب دوافعنا دورًا هامًا وأساسيًّا في الطرق التي نتلقّى بها المعلومات والأحداث من حولها ومن ثمّ نعكف على تفسيرها. وقد تكون أحد الأمثلة الأكثر إلحاحًا وحضورًا هي تلك النظريات التي وضعها ليون فيستينغر، مؤسس علم النفس الاجتماعي، بناءً على الدراسة التي قام بها مع كلٍ من هنري ريكين وستانلي شاتشر لاستكشاف كيف يصدّق الأشخاص بعض المعلومات والأحداث من جهة، وكيف يتفاعلون معها بعد انكشاف زيفها لاحقًا من جهةٍ أخرى.
يتأثر تفكيرنا بشكلٍ كبير بأهدافنا التي نرغب بتحقيقها وبمعتقداتنا التي نتّبعها وبعواطفنا التي نحملها
وباختصار، يمكننا القول أنّ فيستينغر توصّل مع زميليْه إلى أنّ أعضاء المجموعة أو الطائفة أو الحزب يجدون صعوبة بالغة في الاعتراف بفشل الفكرة أو الأيديولوجية التي يؤمنون بها وينتمون إليها. وفي اللحظة التي تثبت تلك الفكرة فشلها أو زيفها أمام الملأ، فسيسعوْن جاهدين للإتيان بالتبريرات بالغة التعقيد لتبرير هذا الفشل.
منذ ذلك الحين، ظهرتْ العديد من النظريات والدراسات التي تبين كيف أنّنا غير عقلانيين وموضوعيين كما نحب أن نعتقد. إذ يتأثر تفكيرنا بشكلٍ كبير بأهدافنا التي نرغب بتحقيقها وبمعتقداتنا التي نتّبعها وبعواطفنا التي نحملها. ولا عجبَ أنْ يستفيد الساسة والقادة من هذه النظرياتْ، فالحشد هو هدفهم في نهاية المطاف.
استغلال العواطف: مشاعرنا تتخذ قراراتنا الانتخابية
في حين كان ينظر إلى العاطفة على أنها مصدر تهديد للحكم الرشيد والقرار الصحيح، إلا أنه لا يمكن الإنكار أبدًا أنّ الانفعال أمر أساسي في المشاركة السياسية وبناء المواقف والآراء وحتى في العملية الانتخابية. ولعلّ الغضب والخوف، القلق والحماس، والأمل هي أكثر العواطف حضورًا في ذلك. فكيف يستغلّ السياسيّون والناخبون هذه العواطف للوصول لمصالحهم؟
تسعى الحملات الانتخابية إلى تحفيز تلك العواطف والضرب على أوتارها، كالخوف والغضب والقلق والأمل والحماس
بدايةً، علينا تعريف العواطف لنستطيع فهم كيفية عملها في العملية السياسية. وأحد التعريفات المقبولة للعواطف هي أنها تكيفات تطورية مصممة لحل المشاكل المتكررة عندما تكون تكاليف الخطأ كبيرة. وبناءً على هذا التعريف، غالباً ما يهتم علم النفس السياسي بكيفية تدخّل العواطف لتقييم الأوضاع الاجتماعية والسياسية وبالتالي تكوين الاستجابات المناسبة بناءً على ذلك التقييم.
لذلك تسعى الحملات الانتخابية إلى تحفيز تلك العواطف والضرب على أوتارها، فمنها ما يميل لبثّ الخوف والقلق وإثارة الرعب ممّا هو قادم، ومنها ما يميل إلى التهديد فيثير الغضب والحنق، ومنها ما يحاول زيادة ثقة الأفراد ومحاولة بثّ الأمل في نفوسهم، ومنها ما يركّز على بث الحماسة والانفعال لكسب الأصوات وإقناع الأفراد.
مع أو ضدّ: إمّا هذا أو هذا
في عالم السياسية والدعايات الانتخابية، غالبًا ما يتمّ تقديم البرنامج بنعم أو لا، مع أو ضد، جيد أو سيء، أبيض أو أسود. فالعقل البشريّ ينحاز لما يُسمّى بالتفكير ثنائي التفرّع، حيث يكون من السهل اختيار حزب سياسي أو دعاية انتخابيّة على أخرى لأن الخيار يتم تقديمه على أنه غير معقد وواضح مقارنةً بالخيارات الأخرى. فالتصويت لهذا الحزب سيؤدي إلى هلاك البلاد، واختيار ذلك المرشّح سيجلب الفوضى، والخوض في هذا الاستفتاء سيعمل على زعزعة الاستقرار، وهكذا دواليك.
ومن خلال استغلال تعقيدات الوضع السياسيّ وتصنيفه في معادلة “إما هذا أو هذا”، فإنّ الخيار سيغدو أسهل وأكثر بساطةً بالنسبة للناخبين، إذ ستختار بالنهاية ما يُناسب معتقداتك التي تمتلكها أو ما يتلاءم مع رؤيتك الحاليّة الآمنة. فهذه الخيارات تضمن لنا عدم الوقوع في عالم الظلال الرماديّة. عقلكَ يرى الأبيض واضحًا كما نقيضه تمامًا، لذلك يتجنب الوقوع بينهما.
يعمل خبراء العلاقات العامة على تشكيل وتسليم صورة المرشّح إلى الجمهور الواسع عن طريق إظهار سماته الإيجابية وتكرار تعرّض الأفراد لها
هنا، يتمّ العمل على إظهار الحزب أو مرشّحه بوصفه الأفضل، بل حتى بوصفه الوحيد، فلا مرشّح آخر يستطيع منافسته ولا حزب آخر يصل لمستواه. وبالتالي، يعمل خبراء العلاقات العامة على تشكيل وتسليم صورة المرشّح إلى الجمهور الواسع عن طريق إظهار سماته الإيجابية وتكرار تعرّض الأفراد لها. وتشمل عملية التشكيل تلك الملابس المختارة بعناية، والإيماءة الصحيحة على الملصق، الشعار المسيطر الذي يدعي أنّ المرشح “جيد”، “قوي”، “موثوق”، وغيرها.
وإلى جانب الخصائص الشخصية، قد يرتبط المرشح بأدوار أو عمليات اجتماعية مختلفة، مما يؤكد بشكل غير مباشر على خصائص معينة ويزيدها. كأنْ تُنشر صوره وهو يساعد الأطفال، أو يبني الصالات الرياضي ، أو يهتمّ بالتاريخ والآثار، أو يقدّم المعونات ويشترك بالأعمال الخيرية، أو يصادق الشباب، وغيرها من الأساليب التي تستهدف المواقف العاطفية للناخبين.
كما أنّ هناك نوع من التأثير أكثر تعقيدًا، من خلال الترويج للمرشّح بأسلوبٍ يعتمد على خاصيةٍ معينة تتواجد عند ذلك المرشح وتنفيها عند المنافسين والبدائل. فشعار “نحن بحاجة لرئيسٍ قويّ” يخبرنا أنّ هذا المرشّح هو القويّ، أو أنّ هذا المرشّح هو ما نحتاجه نحن الشباب لأنه قوي، على عكس غيره من المرشّحين “غير الأقوياء”. فالترويج لغياب المنافسين أو لسحق خصائصهم وإنكارها يعمل عملًا قويًّا في الوعيْ الجماهيريّ الذي يمكنه بسهولة تصديق مثل هذه الشعارات. وكقاعدة عامة، يُعدّ أسلوب “الأسطورية” أو “التفرّد” واسع الانتشار ويستخدم بشكل فعال للغاية في ضوء حقيقة أن معظم الناخبين لا يستطيعون المنافسة في ظلّ وجود غيرهم.
الرسائل الخفيّة واستغلال اللاوعي
عندما نشعر بالقلق أو الحيرة حيال الوضع السياسيّ، نكون عرضةً بشكلٍ واضح لإشارات اللاوعي ورسائله التي تتحايل على وتضلّل الأجزاء المسؤولة عن التفكير المنطقيّ واتخاذ القرارات الصحيحة في أدمغتنا. هذه الرسائل الخفية التي نتلقّاها هي مثل الاختصارات العقلية، أو ما يُعرف بعلم النفس بمصطلح “Heuristic“، الآلية التي يلجأ الفرد من خلالها لحل المشاكل واتخاذ القرارات بسرعة يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب الأخطاء والتحيزات المعرفية “Cognitive Biases“، والتي من خلالها نصل لإطلاق الأحكام المُسبقة “Judgments” على الأشخاص والأشياء والأحداث من حولنا.
يمكن أن تكون هذه الإشارات بمثابة أدوات للتلاعب، اللافتات الدعائية هنا وهناك، المهرجانات التحشيدية، الشعارات، الوعود الانتخابية، التقاط الصور مع الأفراد خاصة الأطفال وكبار السن، استخدام الدِين والعبارات الدينيّة ، جميع هذه الأساليب تؤثر في مشاعرنا وأفكارنا بشكلٍ لا واعٍ قد تقودنا لاتخاذ قرارتٍ غير سليمة.
لماذا نحن عُرضةً لمثل هذه الاختصارات إذن؟ لعلّ التفسير الأكثر بساطةً هي أننا نعجز عن معالجة العدد الهائل من المعلومات التي تصلنا من محيطنا، وبالتالي نلجأ للعثور على المعلومات السهلة واليسيرة التي تتوافق مع رغباتنا ومعتقداتنا، دون محاولة التفكير فيها، الأمر الذي يتطلّب طاقةً وجهدًا. وحين يتعلّق الأمر باالانتخاب، فنميل لاختيار الحزب أو القائد الذي يتوافق أيضًا مع رغباتنا ومعتقداتنا، دون أنْ نكلّف أنفسنا عناء التفكير فيما إذا كان هذا الحزب يستحقّ أم لا.
حين تنتمي لحزبٍ ما وتنتخبه مرةً، سيكون من الصعب على عقلك مساءلة أحقيته بالاختيار والانتخاب مرةً ثانية
سببٌ أخرى يكمن في في أنّ عملية تحويل المعلومات الخام التي نستقبلها مما حولنا إلى معلومات مفيدة يمكن استخدامها بمنطقية يتطلّب الربط بين المعلومات الجديدة التي يستمرّ الفرد بالحصول عليها بشكلٍ دائم والمعلومات القديمة المخزّنة في ذاكرته أساسًا. وبالتالي فإنّ عملية الربط هذه معرّضة بدرجة كبيرة لأن تكون غير موضوعية وغير دقيقة أبدًا، إذ أنّ المعلومات القديمة قد تؤثّر سلبًا على الجديدة، فتغيّر منها أو تمحوها أو تجعل منها بعيدةً كلّ البُعد عن الواقع والحقيقة.
الأمر ذاته يحدث مع الناخبين أو مؤيّدي هذا الحزب أو ذاك، فأنتَ حين تنتمي لحزبٍ ما وتنتخبه مرةً، سيكون من الصعب على عقلك مساءلة أحقيته بالاختيار والانتخاب مرةً ثانية، فالمعلومات التي تؤمن بها تحتاج إلى تفكيرٍ منطقيّ ووعيٍ كبير لتغييرها وللإلمام بكافة الحقائق من حولك، وهنا ينشأ التحيّز الفكريّ الذي يصبح جزءًا من أدمغتنا وعقولنا طالمنا لم نبذل الجهد الكافي لتجنبه.
وبشكلٍ عام، قد لا يكون الساسة والمرشّحون قد درسوا علم النفس أو ألمّوا بنظرياته وفرضيّاته، إلا أنهم بكلّ تأكيد يعرفون كيف يستغلّون الطبيعة البشرية لتحقيق أهدافهم والوصول لمآربهم ومصالحهم الشخصية. كل هذا يوصلنا إلى استنتاج واحد: كلما كان الشخص يعرف أكثر في مجالات علم النفس وعمل دماغه وتأثر عواطفه وانسياق اندفاعاته وتأثير لا وعيه، أصبح أكثر وعيًا وامتلك قوةً أكبر تحميه من أساليب التلاعب والخضوع التي يستخدمها السياسيون على وجه الخصوص.