ترجمة وتحرير: نون بوست
انقسمت حياتي بين عالمين متوازيين منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. في العالم الأول، أمارس حياتي اليومية كالمعتاد هنا في تركيا حيث أعمل وأزور أصدقائي وأقوم بالتسوق الروتيني وأعتني بأسرتي المقرّبة. أما في العالم الثاني، فأنا منغمس في التقارير اليومية عن الموت والدمار والنزوح والخوف الذي يعاني منه أهلي وأصدقائي وجيراني في غزة، وأحاول مساعدتهم قدر الإمكان.
تعتبِر عائلتي نفسها من بين المحظوظين في غزة لأن لديهم سقفًا فوق رؤوسهم، حيث يتقاسم حاليًا خمسة وثلاثون من أقاربي منزل والديّ المكتظ في مخيّم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة – الذي تم تهجيرهم منه مؤقتًا في كانون الثاني/ يناير عندما أصدرت “إسرائيل” أوامر إخلاء المخيّم وأرسلت الدبابات إلى المخيم – لكنهم تمكّنوا من العودة لاحقًا.
مع نزوح حوالي 90 بالمئة من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة والذين يعيشون في خيام مؤقتة أو في مراكز نزوح غير مجهزة أو في الشوارع، فإن عائلتي تعتبر أفضل حالاً من معظمهم. مع ذلك، لا يزالون يواجهون مصاعب ومعاناة شديدة كل يوم، ويضطرون لشرب المياه الملوثة والبحث عن الطعام ولوازم الطهي. وهذا ما يبدو عليه الصراع اليومي من أجل البقاء على قيد الحياة داخل قطاع غزة المحاصر الذي يتعرّض للقصف.
الوقوف في طوابير لأيام لأجل الحصول على علبتين من الفول
منذ تشرين الأول/أكتوبر، أدى “الحصار الإسرائيلي الشامل” على غزة إلى مجاعة شاملة في جميع أنحاء القطاع. فقد تم تعليق المساعدات الإنسانية عند نقاط الدخول والقليل الذي دخل عبرها كان غير كافٍ إلى حد كبير، وتدمير “إسرائيل” لمعبر رفح – الذي كانت معظم المساعدات تدخل منه – وسيطرتها عليه في أيار/مايو جعل الوضع أكثر كارثية.
أثبت الرصيف البحري الذي بنته الولايات المتحدة قبالة ساحل غزة عدم فعاليته إذ لم يوصل سوى جزء بسيط مما يمكن للشاحنات إدخاله قبل أن يتم تفكيكه بعد 25 يومًا. وقد ألحقت طائرات الإنزال الجوي أضرارًا أكثر مما نفعت بإسقاط المساعدات على منازل الفلسطينيين وخيامهم بل وقتل العديد من الأشخاص.
من أجل الحصول على المساعدات المحدودة المتاحة، يُضطر السكان إلى الوقوف في الطوابير لفترات طويلة. وفي بعض الحالات، يقف الأصدقاء في الطوابير لأيام للحصول على علبتي فول وبعض البسكويت. والأكثر من ذلك أن السكان يصابون بالأمراض بسبب تناول اللحوم المعلبة التي انتهت صلاحيتها أثناء احتجازها لأسابيع في الجانب المصري من معبر رفح نتيجة عرقلة “إسرائيل” الروتينية لدخول المساعدات. أخبرني جاري عبد الله عيد، البالغ من العمر 27 سنة، من النصيرات: “حتى القطط ترفض أكل تلك اللحوم”.
عندما يتم توزيع شحنات المساعدات داخل غزة، يحصل السكان على كميات قليلة من الدقيق وبعضها يكون منتهي الصلاحية أيضًا. كما أفاد عيد، نظرًا لتوقّف معظم المخابز عن العمل “نضطر إلى شراء القمح [الذي يصل في طرود المساعدات] وطحنه يدويًا وخبزه في المنزل. وغاز الطهي نادر جداً وباهظ الثمن، لذا نضطر إلى استخدام الحطب من المنازل التي تعرضت للقصف والأشجار التي اقتلعتها الغارات الجوية”. وقد لجأ بعض الناس أيضًا إلى بناء أفران الخبز من الطين وروث الحيوانات والقش.
أغلقت “إسرائيل” الأنابيب التي تزود غزة بالمياه بعد فترة وجيزة من بداية الحرب، كما أن توقف دخول المساعدات عبر معبر رفح منذ أيار/مايو أدى إلى صعوبة العثور على المياه المعبأة بشكل متزايد. وقد تم تدمير خزانات المياه المتصلة بمنازل الناس إلى حد كبير بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية.
ومياه الصنبور، التي يتم سحبها من طبقة المياه الجوفية في غزة، ملوثة بمياه الصرف الصحي ومياه البحر، ولكن الناس لا يملكون خيارًا سوى استخدامها للشرب والاستحمام والطهي، مما تسبب في إصابة العديد منهم بالتهاب المعدة والأمعاء والتهاب الكبد الفيروسي. كما تنتشر الأمراض الجلدية بسرعة، وتم اكتشاف شلل الأطفال في مياه الصرف الصحي.
يعمل عدد قليل من مرافق تحلية المياه على نطاق صغير، بينما تمتلك بعض المساجد والمؤسسات الأخرى أنظمة تنقية المياه الخاصة بها، لذا يصطف السكان في طوابير لجلب المياه من هناك.
قال عيد: “نحمل دلاء المياه من أماكن بعيدة حتى نتمكن من الذهاب إلى الحمام وغسل الملابس والاستحمام في المنزل. أقسم لك، حتى وأنا شاب في مقتبل العمر، ظهري أصبح منهكًا”. لا يتمكن الأصدقاء والعائلة من الاستحمام سوى مرة واحدة فقط كل 7 إلى 10 أيام في ظل حرارة الصيف الحارقة، ولا يتوفر الشامبو، كما ساهمت بعض منتجات النظافة الفاسدة في انتشار الالتهابات الجلدية.
استئجار الشباشب لمدة ساعة
مع تدهور جودة الحياة في غزة ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل كبير، فأسعار السلع الأساسية في السوق مثل اللحوم والطحين والمياه والخضروات أصبحت الآن أعلى بـ 25 إلى 50 ضعفًا مما كانت عليه قبل الحرب.
أخبرني عيد: “نحن جميعاً نموت ببطء. لم نعد قادرين على توفير الطعام اليومي [لعائلاتنا]. كيس الطحين الذي كان يكلف 30 شيكل [8 دولارات] يكلف الآن 500 شيكل [137 دولارًا]، ومن الصعب جدًا الحصول عليه. تحتاج كل أسرة إلى أربعة أكياس من الدقيق شهريًا بسبب العدد الكبير من الأشخاص الذين يعيشون في منزل واحد. يمكننا أن نلاحظ اختلافًا في أجساد أطفالنا”.
معظم الناس عاطلون عن العمل منذ 10 أشهر، ويكافحون من أجل تحمل هذه الأسعار. يأسف شقيقي إسماعيل (32 سنة)، وهو مدخن، على “الارتفاع الصاروخي لأسعار السجائر”، مضيفًا أن “السلع التي لم تكن تتردد في السابق في شرائها أصبحت الآن باهظة الثمن أو نادرة جداً”.
حتى الحصول على النقود أصبح صعبًا بشكل متزايد. فقد توقفت جميع البنوك وأجهزة الصراف الآلي في غزة تقريبًا عن العمل. وفي وسط غزة، يحصل معظم الناس على النقود من خلال دفع عمولات كبيرة إما من مكاتب الصرافة أو من فرع بنك فلسطين – البنك الوحيد الذي لا يزال مفتوحًا في مدينة دير البلح – حيث يصطفون لساعات وربما لأيام للحصول على مبالغ صغيرة. وفي 11 آب/أغسطس، اقتحم الفرع مسلحون لم تُعرف هويتهم أو نواياهم.
منعت “إسرائيل” استيراد النقد إلى القطاع، كما أن إرسال الأموال إلى الحسابات المصرفية في غزة من الخارج مكلف، حيث تخصم مكاتب الصرافة ما يصل إلى 25 بالمائة من مبلغ التحويل كعمولة. وقد أدى الإفراط في استخدام الأوراق النقدية إلى خفض قيمتها – وإن كان ذلك يخلق وظائف جديدة للأشخاص الذين يحاولون إصلاحها وكسب بعض المال – وتستغل العصابات الإجرامية نقص النقد من خلال تشغيل سوق سوداء.
نزح معظم سكان غزة في البداية من منازلهم خلال فصل الشتاء، ولكن لأن “إسرائيل” منعت دخول الملابس، أصبحت الملابس الصيفية والأحذية نادرة ويبذل الناس قصارى جهدهم لإعادة استخدام أو تحويل ما تبقى لديهم من أغراض.
وقد ضحك إسماعيل أخي عندما أخبرني أن بعض الفلسطينيين في غزة “يؤجرون حتى النعال لمدة ساعة أو ساعتين بأقل من دولار”. إن هذه القصص، وإن كانت تبدو مضحكة، إلا أنها تتحدث عن الواقع الذي يواجهه أهل غزة، المحرومون حتى من أبسط الضروريات ــ ويفعلون كل ما في وسعهم لدعم أنفسهم وأسرهم.
صنع الخيام من مظلات المساعدات
حتى قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان الفلسطينيون في غزة يحصلون على الكهرباء لبضع ساعات يوميا تحت الحصار العسكري الإسرائيلي، واعتمدوا على أساليب بديلة لتوليد الكهرباء مثل المولدات والألواح الشمسية.
ولكن مع فرض “إسرائيل” “حصارا شاملا”، سرعان ما أصبح الوقود اللازم لتشغيل المولدات شحيحا. وفي حين كانت بطاريات السيارات وغيرها من البطاريات الأصغر حجما قادرة على توفير الكهرباء في بداية الحرب، فقد استنفدت معظمها الآن بالكامل. ونتيجة لهذا، يستخدم معظم أهل غزة، بما في ذلك عائلتي، الألواح الشمسية لشحن هواتفهم من أجل التحدث إلى أحبائهم ومشاهدة الأخبار ــ والتي تعيد معظمها سرد الأهوال التي يعيشونها.
كان العديد من السكان يمتلكون بالفعل ألواحا شمسية، واشتراها آخرون من أولئك الذين تعرضت منازلهم للقصف، أو دفعوا لجيرانهم لاستخدام ألواحهم. ولكن في الوقت الحاضر، أصبحت هذه المواد نادرة ومكلفة للغاية – بل حتى أنها استُهدفت من قبل الغارات الجوية الإسرائيلية. ومع نقص الوقود، لم يعد معظم الناس يتمتعون برفاهية القدرة على السفر بالسيارة. يتنقل البعض بعربات تجرها الحمير، بينما يضطر معظمهم إلى المشي. ويمزح سكان غزة قائلين إن الحمير كانت أكثر فائدة من معظم الحكومات والجهات الفاعلة الدولية.
تعتبر عائلتي نفسها محظوظة لأن منزلها لا يزال قائماً، حتى لو كان مكتظًا بالأقارب. لقد نزح معظم سكان غزة عدة مرات، والآن يعيش مئات الآلاف في مخيمات حيث يضطرون إلى استخدام المراحيض والحمامات المشتركة، وبناء ملاجئهم الخاصة – وهي مهارة يتعلمها الكثيرون بدافع الضرورة.
تُصنع الخيام من أي مواد متاحة: الخشب أو النايلون أو القماش أو بقايا المظلات من المساعدات التي يتم إسقاطها جواً. الآن، في حرارة الصيف، تبدو الخيام وكأنها فرن؛ وخلال أشهر الشتاء الباردة، لا تفعل شيئًا يذكر لحماية نزلائها من العوامل الجوية.
دفن الشهداء الجدد في قبور قديمة
كانت إحدى أصعب اللحظات خلال الأشهر العشرة الماضية عندما توفي والدي في أيار/ مايو. كان يعاني من مشاكل مزمنة في سكر الدم وضغط الدم، كما عانى من سكتات دماغية متعددة – مما أدى مؤخرًا إلى تشخيصه بمتلازمة ديجيرين روسي. ولم أتمكن إلا من إرسال الدواء اللازم له عبر وفد دولي دخل غزة.
لقد شعر والدي أنه على وشك الموت، ورفض مغادرة غزة، وأصيب في النهاية بسكتة دماغية أودت بحياته. قضيت ساعات طويلة على الهاتف محاولًا المساعدة في إنقاذ حياته، ولكن مع نقص الأدوية في القطاع، لم ننجح في النهاية.
للأسف، لم تكن حالة والدي فريدة من نوعها بين آلاف الفلسطينيين المصابين بأمراض مزمنة أو مميتة في غزة، والذين كافحوا لفترة طويلة من أجل الوصول إلى الرعاية المناسبة في ظل الحصار الإسرائيلي. فقد العديد من مرضى السرطان، على وجه الخصوص، حياتهم على مر السنين وهم ينتظرون التصاريح الإسرائيلية لمغادرة القطاع.
يحصل بعض المرضى على تصاريح لجلسة علاج كيميائي واحدة، ولكن بدون متابعة. كما ابتز الجيش مرضى السرطان، وعرض التصاريح الطبية فقط إذا وافقوا على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية.
في تشرين الثاني/ نوفمبر ، نفد الوقود من مستشفى الصداقة التركية الفلسطينية في مدينة غزة، الذي كان مركز علاج السرطان الرئيسي في القطاع منذ افتتاحه في سنة 2017، وتوقف عن العمل. وقد احتل الجيش الإسرائيلي المنشأة لاحقًا واستخدمها كقاعدة.
أخبرتني نجوى أبو يوسف، جارتي البالغة من العمر 58 سنة والتي تعاني من مرض السرطان، أن “الحرب والحصار يشكلان صعوبة خاصة بالنسبة للمرضى مثلنا الذين لا يستطيعون تلقي العلاج أو إجراء التصوير الطبي اللازم، ولا يوجد أحد لمتابعة حالتنا. نحن نعيش على أكل الأطعمة المعلبة التي تأتي كمساعدات، لكنها غير صحية ولا ينبغي للأشخاص المرضى مثلي أن يأكلوها. لقد تدهورت حالتي الصحية بشكل خطير، ومنذ تشرين الأول/ أكتوبر فقدت الوعي مرتين – كلتاهما لمدة 10 إلى 15 دقيقة – بسبب مرضي وضعف مناعتي”.
حتى الموتى في غزة محرومون من الاحترام والكرامة التي يوفرها الدفن اللائق. لقد قُتل العديد من الفلسطينيين بسبب الهجمات الإسرائيلية – بلغ عدد القتلى حسب وزارة الصحة في غزة حاليًا حوالي 40 ألف قتيل. ويُعتقد أن 10 آلاف آخرين تحت أنقاض منازلهم – لدرجة أن أسرهم اضطرت إلى دفنهم في مقابر جماعية، أو حفر قبور أفراد الأسرة الذين ماتوا من قبل ودفن الشهداء الجدد في نفس المكان.
لا ينبغي لأحد أن يعيش بهذه الطريقة. نحن بحاجة ماسة إلى تحرك أمريكي ودولي لوقف الإبادة الجماعية. كل يوم يستيقظ الفلسطينيون ويخلدون إلى النوم على أنباء الموت. أصبح صوت القنابل والطائرات المسيرة هو الموسيقى التصويرية لحياتهم. ويقضي سكان غزة كل ساعة من ساعات اليقظة بسؤال واحد في أذهانهم: متى سينتهي هذا الكابوس؟
المصدر: +972