جذبت دبي انتباه العالم كونها واحدة من أسرع المدن صاحبة الاقتصاد الناشئ في العالم بعد أن تحولت إلى محور رئيسي في الشرق الأوسط لإدارة أعمال الأثرياء أصحاب الملايين والمليارات، وجذبت انتباه الكل أيضًا بسوق العقارات الذي يعد من أكثر الأسواق سرعة في النمو بالشرق الأوسط والعالم كله مقارنة بتاريخ دولة “آل مكتوم” الحديث، إلا أن هذا كله أثار انتباه العالم للبحث عن السر الحقيقي الذي يكمن وراء تمويل ذلك الاقتصاد الناشئ الذي أثار حفيظة الباحثين وشكوكهم عن إمكانية أن يكون الممول الرئيسي لذلك الاقتصاد هو غسيل الأموال.
سرب تقرير أمريكي معلومات عن اقتصاد مدينة دبي التي تعد واحدة من أسرع المدن نموًا في الاقتصاد الحديث، بعد أن نوّعت من اقتصادها بدلًا من الاعتماد على الأرباح النفطية فحسب، لتكون محورًا مركزيًا للأعمال من كل المجالات في الشرق الأوسط جاذبة إليها كبرى الشركات من كل حدب وصوب، إلا أن التقرير لم يُسرب المعلومات عن تلك الشركات ولا عن رجال الأعمال بل سرب معلومات عن غسيل الأموال الذي يستغل فيه تجار المخدرات وأثرياء الحروب وممولي المنظمات الإرهابية سوق العقارات في مدينة دبي كواجهة لممارساتهم غير القانونية.
تحدث التقرير المنشور من مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة الذي ينشر تقارير خاصة بسوق العقارات في المدن، عن وجود صفقات عقارية بمبلغ مئة مليون دولار أمريكي من مشترين مُشتبه في مصادر أموالهم لعقارات في مدينة دبي، منها مليون دولار أمريكي لعقارات في برج خليفة، حيث أدرج التقرير سبعة رجال أعمال مدرجة أسمائهم على قوائم الحظر الأمريكية، لهم ممتلكات وأصول عقارية في دبي من بينهم أقوى شخصية اقتصادية في سوريا وابن خال بشار الأسد رجال الأعمال السوري “رامي مخلوف”.
ليس من الصعب أن يكون لاقتصاد المدينة علاقة مع تجار المخدرات من أمريكا اللاتينية، أو علاقة بتجار المجوهرات والألماس في غرب إفريقيا
طبقًا لما ورد في التقرير فإن الرجال السبع المدرجة أسماءهم على قوائم الحظر الأمريكية، من بينهم اللبنانيان كامل وعصام أمهز، المدرجان على قوائم الحظر بسبب ارتباطهما بحزب الله، لهم عقارات في دبي بلغ ثمنها نحو 28 مليون دولار أمريكي بالإضافة إلى أكثر من 78 مليون دولار آخرين لعقارات إضافية للمقربين من الرجال السبع أنفسهم.
من لندن إلى دبي: بؤرة جديدة لغسيل الأموال
محمد بن راشد آل مكتوم حاكم مدينة دبي
ورد في التقرير الأمريكي كذلك معلومات مسربة عن ارتباط عقارات وممتلكات في دبي لأفراد مستقلين لهم علاقة بمنظمات غسيل الأموال في باكستان منها منظمة “ألطف خاناني” بمبلغ قُدر بنحو 21 مليون دولار أمريكي، تُعرف منظمة “خاناني” بأنها من أقوى المنظمات الإجرامية في باكستان، حيث ذكرت تقارير أمريكية سابقة أنها من أكثر المنظمات المعروفة بغسيل الأموال وتبادله مع دول مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى تمويلها لمنظمات إرهابية مثل تنظيم القاعدة.
تحدث كايسي كالسون مسؤول عن شؤون المرافعة في منظمة “transparency international”، ورئيس تحالف ضد الفساد الدولي إلى قناة الجزيرة عن الميكانيكية التي يتبعها أغلب هؤلاء الرجال أو المنظمات في شرائها للعقارات، مشيرًا إلى البيئة التشريعية الموجودة في دبي التي تسمح بشراء الأصول والممتلكات نقدًا دون الحاجة لكشف هوية المشتري في بيئة تشريعية تجعل من السرية والخصوصية أولويتها في أثناء الشراء، ولهذا يمكن لأي مشتر تعيين شركة وسيط بينه وبين الشركات العقارية لشراء عقار ما دون كشف أصحاب الأموال الذين فضلوا الدفع نقدًا دون الحاجة إلى أي قروض أو شيكات تدل على هويتهم.
استطاعت دبي أن تجعل من نفسها محورًا اقتصاديًا مهمًا ليس في الشرق الأوسط فحسب بل في العالم كله وجزءًا مهمًا من الاقتصاد الحديث الذي نعيشه الآن، وبهذا ليس من الصعب أن يكون لاقتصاد المدينة علاقة مع تجار المخدرات من أمريكا اللاتينية، أو علاقة بتجار المجوهرات والألماس في غرب إفريقيا، أو علاقة بالأنظمة السياسية في الشرق الأوسط، كل ما يجمع هؤلاء من كل مكان في العالم هو مكان يهيء لهم غسيل الأموال لتبدو كأموال نظيفة وقانونية يستطيعون من خلالها تمويل ممارساتهم غير المشروعة، كان ذلك المكان هو دبي وسوق عقاراتها.
تكون لندن ودبي من المدن الجذابة للغاية لكل من يشعر أن أمواله ليست في أمان في بلاده مثل رجال الأعمال من الأنظمة العربية أو من روسيا والصين وغيرها
لم يُذكر أن كان هناك رد واضح من الحكومة الإماراتية أو من حاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم على تقرير المعلومات المسربة، كما لم يُذكر أيضًا أي حالة قضائية تتهم أي أفراد أو منظمات بغسيل الأموال في دبي، يوجد اتهامات لأشخاص معينة بالإرهاب أو الارتباط بمنظمات إرهابية، إلا أنه لم jوجد أي حالة ثبت عليها اتهامات بغسيل الأموال في دبي بحسب كلام آندرياس كريج مساعد دكتور جامعي في قسم الدراسات الدفاعية في لندن في كلية “كينج” لقناة الجزيرة.
بعدما وضعت لندن، المدينة التي كانت توصف من قبل بـ”بؤرة الفساد” في العالم لتسهيلها إجراءات شراء الأصول والممتلكات والعقارات من خلال بيئة تشريعية تضمن الخصوصية والسرية، حدًا لغسيل الأموال من خلال سوق العقارات الإنجليزي، اتجه أصحاب الحقائب الممتلئة بالنقود إلى وجهة أخرى لشراء عقارات وممتلكات لن يعيشوا فيها من خلال أسماء وهمية أو شركات وسيطة في أفخم أحياء مدينة دبي، ومن ثم التخلص منها خلال أسابيع قليلة من شرائها لتكون معهم أموالًا نظيفة اعتمدها البنك المركزي على أنها أموال عقارات.
من الصعب تحديد مسار الأموال غير القانونية، أو مسار غسيل الأموال بشكل عام، وهو ما يحتاج من السلطات الإماراتية أن تتبع مسار الأموال القادمة من كل عملية شراء مشتبه فيها، وهو ما لم تقم به تلك السلطات
بُني النموذج الاقتصادي في دبي على أنه نموذج اقتصادي حر لإدارة الأعمال الحرة من خلال جذب المستثمرين من كل أنحاء العالم دون الحاجة لتعقب من أين تأتي أموالهم التي يستثمرونها في سوق عقارات دبي أو سوق ممتلكات الأراضي بشكل عام، بُني ذلك النموذج على الخصوصية والسرية مما يجذب كثير من المستثمرين على الشراء أكثر وبشكل مستمر كلما احتاجوا سيولة للأموال النظيفة، وهو النموذج الاقتصادي الذي يعود للتسعينيات من تاريخ دبي كونها أول بؤرة أعمال حرة في منطقة الخليج العربي.
ذكر آندرياس كريج في أثناء متابعة حديثه لقناة الجزيرة عن غسيل الأموال في دبي أن سياسة عدم مراقبة وتعقب الأموال التي تمتعت بها دبي وما زالت تتمتع بها كانت السر الأساسي لجذب المستثمرين بغض النظر إن كانت أموالهم شرعية أم لا بطريقة لم تستطع بقية الدول جذب المستثمرين إليها بنفس الشكل، لذلك يعد هذا النموذج الاقتصادي شديد الأهمية لبقاء مدينة دبي بالشكل الذي تُعرف عليه الآن، من دون هذا النموذج الاقتصادي الذي لا تعتمد عليه بقية الإمارات مثل أبوظبي على سبيل المثال التي تعتمد بشكل أساسي على الأرباح النفطية والغاز، ربما لن تظل دبي بالشكل الذي عرفناها به، ولهذا قد تسير سياسات آل مكتوم بشكل يتضارب مع سياسات آل نهيان حكام الإمارات وأبوظبي، إلا أنها في النهاية تتم تحت عيون الحكومة وبإذن منها.
للسلطة الإماراتية طريقتها الخاصة في تعريف “الإرهاب”، وهو ما يجعلهم لا يأبهون كثيرًا للمحظورات الدولية أو لتبعات غسيل تلك الأموال
التقرير لم يلق اللوم على العرب فحسب
لم تقتصر الأسماء الواردة في التقرير الأمريكي على أشخاص في المنطقة العربية فحسب، بل ضم أيضًا واحدًا من أهم مهربي المخدرات في المكسيك، هو حسين إدواردو غوميز، الذي كانت قد وُجهت إليه اتهامات في الولايات المتحدة الأمريكية باستيراد مواد كيميائية لصنع مخدر الميثامفيتامين، كان للأخير وحده ثلاثة عقارات تبلغ قيمتها أكثر من 4.3 مليون دولار بحسب ما ورد في تقرير المعلومات المسربة.
سجل التقرير رحلات طيران خاصة لرجال أعمال تصل لمدينة دبي في الليل وتغادر بعد ساعات قليلة من وصولها
قال المحلل السياسي والباحث في علوم الاقتصاد والاجتماع في جامعة قطر لورين لامبير لقناة الجزيرة في تعليق له على مسألة غسيل الأموال في دبي إن للإمارات سياسات متناقضة بشكل كامل بشأن مسألة مراقبة الخدمات وعمليات البيع والشراء، فللإمارات سياسات شديدة التقدم والتطور من خلال الخدمات الإلكترونية تحت إطار الحكومة الإلكترونية في دبي وفي الإمارات الأخرى التي تكون مراقبة بأدوات محكمة لكي لا تقع الخدمات تحت طائلة التزوير أو الاحتيال الإلكتروني، إلا أن السياسات نفسها لا تُطبق على أرض الواقع لتعقب عمليات شراء العقارات المشبوهة من أشخاص مجهولي الهوية أو تعقب لأي زيارات سريعة مشبوهة لطائرات خاصة قد تحمل على متنها سلاح أو مخدرات أو تُتاجر بالبشر أو تحمل نقودًا بعد بيع العقارات لغسيل الأموال من أفراد مختلفين من كل مكان في العالم.
سيتم تصوير كل شخص تطئ قدمه الإمارات من خلال آلاف من كاميرات المراقبة، إلا أن مشكلة النموذج الاقتصادي الذي اعتمدت عليه مدينة دبي منذ التسعينيات الذي سمح بغسيل الأموال تحت أعين السلطات لا تبدو أنها تزعجهم كثيرًا، على الرغم من قابلية السلطة الإماراتية السيطرة على كل العمليات التجارية التي تجري إلى الإمارات ومن الإمارات، والتخلص من كل عملية تجارية لها تهديد واضح على الأمن القومي للدولة من خلال تعريفها لذلك بأنها عمليات لها علاقة بالإرهاب، إلا أن للسلطة الإماراتية طريقتها الخاصة في تعريف “الإرهاب”، وهو ما يجعلهم لا يأبهون كثيرًا للمحظورات الدولية أو لتبعات غسيل تلك الأموال.