لا بدّ وأنّك حين تشاهد حفلةً موسيقية كلاسيكيّة أو أوركسترا كبيرة، ستلاحظ ذلك المايسترو واقفًا أما الجميع، ولربّما حاولت تقليده وتحريك يديك في حال كنتَ تعرف القطعة الموسيقية وسمعتها مرارًا وتكرارًا من قبل. لكن هل فكّرت يومًا ماذا يفعل قائد الفرقة الموسيقية حين يعتلي المسرح ويقف أمام فرقته وعازفيه ملوّحًا بيده؟ هل حركاته تلك ضرورية؟ وما هي أهميتها؟
قائد الفرقة الموسيقية أو الكوندكتر كما يُعرف بالإنجليزية والمايسترو كما يُعرف في الإيطالية، هو فنُّ توجيه العرض الموسيقى عن طريقة الإيماءات وحركات اليد، والواجب الأساسي منه هو توحيد الأداء وضبط الإيقاع بدقه واضحة. يتصل القائد مع أعضاء فرقته في المقام الأول من خلال إيماءات اليد، وقد يستعين بعصا اليد في بعض الأحيان، أو قد يلجأ لإشاراتٍ أخرى مثل الاتصال البصريّ مع الموسيقيّ ذي الصلة.
المايسترو هو فنُّ توجيه العرض الموسيقى عن طريقة الإيماءات وحركات اليد، والواجب الأساسي منه هو توحيد الأداء وضبط الإيقاع بدقه واضحة
ينظّم القائد المايسترو القطعة الموسيقية التي تقوم الفرقة بعزفها، من خلال حركات العصا التي يديرها بيده اليُمنى، فهو يحدد سرعة القطعة وموعد بدئها. وبسبب تنوّع الآلات، فيحتاج القائد أنْ ينظر إلى كلّ موسيقيّ أو مجموعة عازفين لإعطاء التوجيهات، ويحتاج إلى تحريك ذراعيه بشكل مختلف لكل أداة. كما أنّ هناك لكلّ إيقاعٍ نوع معيّن من الإيماءات والحركات يختلف به عن غيره، مثل الحركات التي تظهر في هذه الصورة على سبيل المثال.
والمايسترو في الموسيقى الكلاسيكية هو ضرورة تحتمها طبيعة هذا اللون الفني، فلا توجد آلة موسيقية تمسك بالإيقاع طوال فترة العزف مثلما يحدث في الموسيقى الشرقية، لذلك تأتي أهمية المايسترو أو قائد الفرقة لأنه الوحيد الذي يمسك بالإيقاع طول الوقت، بالإضافة إلى أن الموسيقى الكلاسيكية متعددة الأصوات وبين آلاتها نِسبٌ لا يحددها إلا المايسترو. كما أن المايسترو يساعد الجمهور بإشاراته لفهم الموسيقى وتحديد إيقاعاتها.
لا يوجد للمايسترو في الموسيقى الشرقية أهمية مطلقة نظرًا لتوحّد اللحن وطوله طوال فترة الحفلة
ولهذا السبب يمكننا القول أنه لا يوجد للمايسترو في الموسيقى الشرقية أهمية مطلقة، فمعروفٌ منذ عقود طويلة أنّ عازف الرقّ في الفرقة هو المايسترو وقائدها، إذ أنه هو المسؤول عن إعطاء إشارات البدء لتبدأ الفرقة بعزف ذلك اللحن الواحد الطويل طوال فترة الحفلة. ولذلك، لم تحتج الموسيقى العربيّة أي قائدٍ للفرقة ليكون مسؤولًا عن إدارتها وإدارة ألحانها، فاللحنُ واحدٌ يستطيع أعضاء الفرقة التحكّم به وإدراته بسهولة، تمامًا كما في حفلات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب على سبيل المثال، وغيرها الكثير. أما ما قد نراه حاليًّا في فرق الموسيقى العربية فهو نتاجٌ حديث أو محاولة لتقليد الموسيقى الكلاسيكية الغربية ليس إلا.
تاريخيًّا، لم تكن مهمّة المايسترو معروفةً قبل منتصف القرن التاسع عشر، فعلى الرغم من أنّه في الفترات السابقة من تاريخ الموسيقى الكلاسيكية كان هناك من يقود الفرق الموسيقيّة، إلا أنّ الأمر كان عائدًا بشكلٍ أساسيّ لعازف الهاربسكورد، الآلة الشبيهة بالبيانو، أو لعازف الكمان الأول في الفرقة، إذ كانا يتوليان مهمة تنظيم الإيقاعات وضبط الألحان ومحاولة تصحيح أيّ خطأ محتملٌ حدوثه.
وفي العصور الوسطى، كانت الكنيسة المسيحية تخصّص لفرقتها الموسيقية قائدًا يتولى الإشارة إلى الشكل اللحنيّ باستخدام حركات يديه. أما بعد منتصف القرن التاسع عشر ومع توسّع الأوركسترا وأشكالها وظهور السمفونية وتنوّعها، أصبح المايسترو ضروريًا. لكن ولفترة طويلة، بقيَ دوره محصورًا وكأنه حلقة الوصل بين الفرقة والجمهور، إذ تساعدهم حركات يديه على فهم الألحان بشكلٍ أوضح وأقرب. فقد يكون من الصعب على الجمهور اتّباع التقلبات والانعطافات في السمفونية التي يستمعون إليها، لذلك يحتاجون النظرَ إلى المايستور ليخبرهم بحركات يديْه عن ما يشعرون به مع الألحان.
كما لا يمكن إنكار أنّ ضبط التوقيت بدون المايسترو قد يعدّ صعبًا للغاية، فالنبض الموسيقي هو شيء غامض بالنهاية، خاصة مع التشابه، ولو كان طفيفًا، للآلات المتشابهة ميكانيكيًّا أو إيقاعيًّا. أو حتى مع الاختلاف الكبير للآلات، فمنها ما هو حادّ للغاية ومنها الناعم الخفيف، الأمر الذي يحتاج عناية فائقة في التنظيم والمحافظة الدقيقة على التواقيت والسرعات، وكلّ هذا يصبح أسهل بوجود المايسترو أمام الفرقة. ومع ذلك، فإنّ الفرق الموسيقية الضخمة لا تحتاج حتى إلى إشارات من المايسترو، كما أنّ مستوى مهارتها يسمح لها بالتكيف مع التغييرات التلقائية وتنظيم نفسها بنفسها.
وبالنهاية، فوظيفة المايسترو تتعدّى فقط التحريك بالأصابع أو التلويح بالعصا، جرّب مرةً أنْ تشاهد حفلةَ أوركيسترا وركّز على تفاعله مع العازفين والموسيقيّين، واتصاله بهم، وانفعالاته العاطفية، لتتعرف على الصورة الأكبر لهذه المهمّة الحسّاسة والجميلة.