منذ ما يقرب من قرن من الزمان لم يكف البشر عن محاربة بعضهم البعض، ولم يستطيعوا وقف ذلك إلا لفترات قصيرة، لتعيش البشرية عدة حروب عالمية وحروب باردة أودت بحياة الملايين من البشر إلى يومنا هذا، دفع ذلك العديد من علماء الإنسانيات والتاريخ إلى معرفة السبب الأساسي الذي يكمن وراء محاربة البشر لبعضهم البعض، وهل هي طبيعة بشرية ورثناها عن أجدادنا القدماء، وذلك دفعهم للبحث عن إجابة لهذا السؤال، عما إن عاش الإنسان البدائي في حرب أم سلام؟
حينما شاركت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى عام 1914، لم يسع الإنجليز فرحتهم سوى الخروج والاحتفال لذلك محتشدين بأعداد كبيرة أمام قصر “بيكنغهام” مساندة لقرار مشاركة بريطانيا في الحرب، لم يكن الإنجليز وحدهم فخورين بمشاركة بلادهم في الحرب، بل تشارك الأوروبيون بشكل عام الشعور نفسه، فخرج الشعب الألماني مساندًا لقرار حكومة بلاده، في حركة شعبية في جميع أنحاء أوروبا وصفها المؤرخون بأنها شعور متبادل من الوحدة الوطنية، أو شعور مبالغ فيه من حب الوطن.
لقد جعل شعور الشعوب بالوحدة على إثر الحروب بعضًا من علماء النفس يعتقدون أن للحرب آثارًا إيجابية على الإنسان، تجعله يشعر بالوحدة الوطنية مع غيره في أثناء وجود تهديد كبير وهو ما يجعل الناس أكثر ارتباطًا ببعضهم البعض على غير الأيام التي يعيشون فيها بسلام، كما تحفز الحرب الناس على إظهار كثير من الصفات الإنسانية التي عادة لا يظهرونها أيام السلام، مثل الشجاعة أو التضحية بالنفس من أجل المجموعة.
هل يعيش البشر في حروب لأنهم يستمتعون بها؟
احتفال الشعب الإنجليزي أمام قصر “بيكنغهام” لمشاركة بلاده في الحرب العالمية الأولى
طبقًا للأفكار النفسية السابقة عن الآثار الإيجابية للحرب، إن كان لها آثار إيجابية بالفعل، يبدو أن الإنسان يميل للعيش في حرب لأنه يستمتع بها وتُحفزه أن يكون إنسانًا أفضل، أو في سياق آخر طبقًا لمفاهيمنا الحديثة مواطنًا جيدًا، ربما كان ذلك مقبولًا أيام الحرب العالمية الأولى، وربما أيام الحرب العالمية الثانية أيضًا، إلا أنه من الصعب الآن أن يجد الإنسان في الحرب أي آثار إيجابية، ولا يمكن أن يجدها سببًا يجعله مواطنًا جيدًا، من الممكن أن يشعر أنها تجعله مواطنًا مقهورًا، مظلومًا، أو ربما تشعره أنه لا ينتمي لوطن أصلًا.
قرر العلماء البحث في تاريخ الإنسان البدائي لمعرفة ما إن كانت الحرب شيئًا معتادًا على البشر منذ وجودهم على الأرض، فإن كانت بالفعل شيئًا معتادًا فذلك يفسر الحالة العدوانية التي يعيشها الإنسان منذ القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، ويفسر الانجذاب غير المبرر للحرب ومعاداة المجتمعات الأخرى.
ظن بعض العلماء أن الحرب لم تبدأ مع المجتمعات البدائية إلا بعد الثورة الزراعية مع بداية استقرار البشر وحصولهم على ممتلكات خاصة بهم، مثل المنزل أو الأرض أو المحصول أو الحيوانات مثل الكلاب أو البقر والماعز، وذلك حينما بدأ الإنسان في الدفاع عن ممتلكاته وحماية نفسه من غارات الآخرين عليها، حينها أيضًا كان لدى الإنسان البدائي أسلحة ما مثل الفأس والسكين وأدوات الفلاحة التي دعمت ظن المؤرخين بأن الحرب بدأت مع الثورة الزراعية إلا أن بعض الدراسات الحديثة نفت ذلك، زاعمة أن مفهوم الحرب كان مفهومًا غريبًا على البدائيين.
أيّدت الدراسة أن مفهوم الحرب مرتبط بشكل كبير بالحداثة والمجتمعات “المتحضرة” منذ بضعة آلاف سنين، حيث قامت الدراسة من قسم علوم الإنسان، الأنثروبولوجيا، في جامعة في مدينة “فاسا” في فنلندا بالبحث في خصائص عشرات المئات من المجتمعات البدائية لمعرفة كيف كان يعيش البدائيون قبل الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف سنة من الآن لمعرفة ما إن كانت الحرب خصلة متوارثة من الأجداد أم لا.
الحرب مفهوم غريب على البدائيين
وجدت الدراسة أن عددًا قليلًا من النتائج أشار إلى أن سبب الموت كان العنف أو القتل بالنسبة لكثير من هياكل مجتمعات الصيد أو المجتمعات البدائية التي تمت عليها الدراسة، ولم يكن هناك سبب مشترك بين عدد كبير من الهياكل يشير إلى موت جماعي بسبب شن حرب على أحد المجتمعات، كما وجد الباحثون في الدراسة ذاتها أن من ماتوا من تلك المجتمعات بسبب العنف أو القتل كانوا من نفس المجموعة مجتمعيًا، وكانت أسباب الموت تتراوح بين السرقة أو النزاع على ممتلكات معينة أو النزاع على امرأة.
عاش البدائيون حياة مسالمة لم ترد فيها كثير من حالات القتل الجماعي أو المذابح
وجدت الدراسة أن المجتمعات البدائية كانت مسالمة نسبيًا مقارنة بالمجتمعات الحديثة التي نعيش فيها الآن، وهذا يدل على أن الحرب لم تكن شيئًا شائعًا أو معتادًا في حياة البدائين قبل الثورة الزراعية، ضاربين بكلام كثير من علماء علم الإنسان عرض الحائط بأن الحرب شيء متوارث من الأجيال القديمة، والإنسان عنيف بطبعه وله نزعة للميل إلى العنف بين المجموعات خصوصًا لو كانت مجموعات متنافسة أو مختلفة.
أغلبيتنا يظن أن الحرب مفهوم شديد القدم، ظهر مع الإنسان منذ بداية وجوده على الأرض، ولهذا هي فطرة فيه يميل إليها حتى إلى يومنا هذا، إلا أن ما أثبتته الدراسة أنه كلما استقر الإنسان وصارت لديه ممتلكات أكثر، هيمنت الحرب على المكان الذي يعيش فيه، وهو ما خلق حديثًا الحرب بين مجموعات ضد بعضها البعض بعد أن كان العنف مقتصرًا في المجتمعات البدائية على عنف شخص ضد شخص آخر.
ماذا لو كانت الحرب متوارثة من البدائيين بالفعل؟
تحديد العلماء الإصابات الموجودة في الهياكل في مقبرة “جبل الصحابة” شمال السودان
يعتقد بعض العلماء أن الحرب بالفعل مفهوم قديم توارثته الأجيال منذ حياة الإنسان البدائي على الأرض، مقارنة بمن يدعمون نظريتهم بأنه من الصعب جدًا تحديد ما إن كانت الإصابات المكتشفة في هياكل المجتمعات البدائية أو مجتمعات الصيد لها علاقة بالحرب أو بالعنف أم أنها مجرد إصابة من حيوان مفترس، بالإضافة إلى اعتقاد كثير من علماء الأنثروبولوجيا، مؤيدي فكرة السلام في المجتمعات القديمة، مدى صعوبة تحديد سبب الموت من الهياكل العظمية التي يتجاوز عمرها عشرات الآلاف من السنين.
يحب الأغلبية الاعتقاد أن الحرب شيء قديم ومتوارث من الأجيال السابقة
ولكن هناك رد قوي لكل من لا يتفق مع نظرية السلام السابقة، وذلك لإيمانهم بأن لا يعني عدم وجود إصابة واضحة في الهيكل العظمي للإنسان أنه ومجتمعه كانوا يعيشون حياة سالمة وآمنة، وذلك لأن أغلب أسباب الموت الجماعي في المجتمعات القديمة كانت بسبب المجاعات، أو ظروف المناخ القاسية أو الأمراض الوبائية وليس بسبب الأسلحة في أغلب الوقت، ولهذا فوجود كميات ضخمة من الهياكل العظمية المكتشفة التي تعود لتلك الحقبة دون وجود إصابات فيها لا يعني أن زمانها كان مسالمًا للغاية.
بالإضافة إلى اكتشاف العلماء صاحبي نظرية أن الحرب مفهوم قديم مجموعة من المقابر الجماعية يعود تاريخها لأكثر من 12 ألف عامًا يوجد بداخلها هياكل عظمية يزيد عددها على الخمسين، مثل مقبرة “جبل الصحابة” شمال السودان التي اكتشف فيها العلماء 59 هيكلًا في كل جمجمة وهيكل منهم يوجد سهم أو عدة أسهم استخدمت كسلاح للقتل، كما وجد العلماء في واحد من الهياكل يعود لجسد امرأة من البدائيين نحو 12 سهمًا.
وجد علماء الأنثروبولوجيا مقابر جماعية في أنحاء مختلفة من أوروبا كذلك تشير إلى وجود القتل الجماعي في المجتمعات البدائية راح ضحيتها النساء والأطفال والرضع كذلك، بشكل يشير إلى أن الحرب لم تكن مفهومًا غريبًا بشكل كلي على المجتمعات البدائية، وأنها وجدت معهم حتى قبل الثورة الزراعية أي قبل عشرة آلاف سنة من الآن، وبالتالي تدعم تلك الأدلة فرضية بعض العلماء على أن البشر الحاليين ورثوا الحرب من أجدادهم وأنها ليست غريبة عليهم وليست صناعة المجتمعات المتحضرة أو المتطورة.
بين هذا وذاك يصعب الجزم بشكل قاطع ما إن عاش أجدادنا في سلام بالفعل أو إن كانت الحرب صناعة مستحدثة مع العالم المتطور، إلا أن ما يمكننا الجزم به الآن أن منذ قرن من الزمان، وسواء ورث البشر الحرب أم لا، فهم لم يكفوا عن محاربة بعضهم بعضًا، إلا إن قمنا بإجراء مقارنة سريعة بين العقود القليلة الماضية والحاضر، سنجد أننا نعيش في أكثر الألفيات سلامًا مقارنة بالعقود الماضية على الرغم من الحروب والصراعات التي تشهدها مناطق كثيرة حول العالم الآن، إن لم نشهد حربًا خلال السبعين سنة القادمة، ربما سيكون هذا العصر الأكثر سلامًا على الإطلاق.