10 أيام فقط هي المدة التي فصلت بين القسم الذي أدلى به رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد استجابة لطلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن يردد خلفه عبارة “والله لن نقوم بأي ضرر بالمياه في مصر”، وتلك التصريحات الصادرة أمس الأربعاء عن وزير الري المصري محمد عبد العاطي بشأن الوضع الحرج للأمن المائي في مصر.
آبي أحمد خلال زيارته للقاهرة في الـ10 من يونيو/حزيران الحاليّ تعهد خلال مؤتمر صحفي عقد بقصر الاتحادية (الرئاسي) بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، تقوم في الأساس على عدم الإضرار بحصة مصر من مياه النيل، وهي التصريحات التي تلقفها الإعلام الرسمي المصري معلنًا نهاية أزمة سد النهضة ونجاح القيادة المصرية في احتواء الموقف، بصورة أرجعها البعض إلى دبلوماسية جديدة تعتمد في ركن كبير منها على المغازلة الودية الشفهية.
عبد العاطي وخلال مشاركته نيابة عن رئيس الوزراء في المؤتمر الدولي رفيع المستوى بشأن المياه من أجل التنمية المستدامة بطاجيكستان الذي استمر لـ3 أيام، قال إن حالة المياه في مصر تعد حرجة وفريدة من نوعها، إذ إنها بلد جاف جدًا تقع في منطقة شبه قاحلة، وبلاده وصلت إلى حالة تفرض فيها كمية المياه المتاحة حدودًا على تنميتها الاقتصادية.
تصريحات جاءت بمثابة الصدمة للكثيرين ممن ذهبوا إلى أن التوجهات السياسية لرئيس الوزراء الإثيوبي الجديد تجاه القاهرة ستختلف جملة وتفصيلًا مع توجهات سابقه هيلي ديسالين في محاولة لتهدئة الملفات الساخنة مع دول المنطقة وعلى رأسها مصر والسعودية.
سيناريو متكرر
لم تكن هذه المرة الأولى التي يُصدم فيها المصريون بتصريحات سلبية بشأن مستقبلهم المائي والمسار التفاوضي لسد النهضة، بعد تصاعد منسوب التفاؤل جراء تصريحات سابقة حملت في ظاهرها بُعدًا إيجابيًا ورسائل طمأنة بشأن عدم الإضرار بحصة المياة التقليدية.
في مارس/آذار 2015 وقعت مصر والسودان وإثيوبيا “إعلان مبادئ” لحل النزاع على اقتسام مياه نهر النيل وسد النهضة، حيث يوفر الاتفاق إطارًا لالتزامات وتعهدات تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بين الدول الـ3 بشأن أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي.
الإعلام حينها تعامل مع هذا الاتفاق على أنه بداية النهاية للأزمة، وخرجت الصحف والمواقع الموالية للنظام الحاليّ بمانشيتات تفاؤلية توحي بأن ملف السد قد أغلق تمامًا، على غرار “السيسي حلها” وما عاد هناك أي قلق على حصة مصر من مياه النهر، لكن بعد عدة أشهر فوجئ الجميع باستكمال أديس أبابا بناء السد والتخطيط لعملية ملء خزانه بما يعني التأثير سلبًا على مياه المصريين.
وزير الري المصري: حالة المياه في مصر تعد حرجة وفريدة من نوعها، إذ إنها بلد جاف جدًا تقع في منطقة شبه قاحلة، وقد وصلت إلى حالة تفرض فيها كمية المياه المتاحة حدودًا على تنميتها الاقتصادية
في يناير/تشرين الثاني الماضي وفي موقف متشابه، أكد هيلي ديسالين رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق خلال مؤتمر صحفي له مع السيسي: “الشعب الإثيوبي لن يعرض حياة أشقائنا للخطر، فنهر النيل سيتدفق بيننا ولن نضر بلدكم بأي حال وسنعمل معًا على كفالة الحياة الكريمة لأبناء نهر النيل ونلتزم بالاتفاقات التي أجريناها”.
غير أنه بعد تلك التصريحات بنحو 3 أشهر، تحديدًا في أبريل الماضي، خرجت وزارتا الخارجية والري في مصر والسودان لتعلنا توقف عملية المفاوضات بشأن السد بصورة شبه رسمية عقب الوصول إلى طريق مسدود، لتبدأ رحلة البحث عن آليات جديدة لاستكمال الملف قبل الانتهاء من بناء السد بصورة كاملة.
مانشيتات الصحف المصرية عقب توقيع اتفاقية إعلان المبادئ 2015
وضع حرج
وزير الري المصري في تصريحاته أشار إلى حزمة من التحديات المائية التي تواجه بلاده خلال المرحلة المقبلة، كاشفًا أن حالة المياه في مصر تعد حرجة وفريدة من نوعها، إذ إنها بلد جاف جدًا تقع في منطقة شبه قاحلة، وقد وصلت إلى حالة تفرض فيها كمية المياه المتاحة حدودًا على تنميتها الاقتصادية.
عبد العاطي أبدى قلقه من تراجع نصيب المواطن من المياه خلال السنوات الـ7 القادمة، مرجعًا ذلك إلى الزيادة السكانية المتوقعة، مشيرًا أن التنبؤات السكانية لعام 2025 يتضح معها أن نصيب الفرد من المياه قد ينخفض إلى أقل من 500 متر مكعب سنويًا (الحد الأدنى بحسب تقديرات الأمم المتحدة 1000متر مكعب) مع مؤشرات التدهور السريع في جودة المياه السطحية والجوفية، بالإضافة إلى كونها دولة المصب في حوض النيل، حيث تعتمد اعتمادًا كليًا تقريبًا على نهر النيل النابع خارج حدودها، فهي الدولة الأكثر جفافًا في العالم وتبلغ نسبة الاعتماد على الموارد المائية المتجددة 97% وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة.
نصيب الفرد في مصر سنويًا من المياه النقية بلغ 700 متر مكعب العام الماضي في حين أن الحد الأدني الذي أقرته الأمم المتحدة هو 1000 مترمكعب
كما أشار إلى أن الفجوة بين الاحتياجات والمياه المتوافرة تبلغ نحو 21 مليار متر مكعب سنويًا يتم التغلب عليها عن طريق إعادة استخدام مياه الصرف والاعتماد على المياه الجوفية السطحية في الوادي والدلتا، لافتًا إلى أن بلاده تستورد فعليًا كمية من المياه تساوي 34 مليار متر مكعب سنويًا ممثلة في منتجات غذائية لتحقيق الأمن الغذائي.
تحد آخر كشف الوزير النقاب عنه يتمثل في المخاطر التي تواجهها مصر نتيجة التغيرات المناخية وتهديداتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، على رأسها ارتفاع مستوى سطح البحر وتسرب المياه المالحة إلى خزانات المياه الجوفية الأرضية، علاوة على المناطق المعرضة للغمر بسبب انخفاض مناسيبها الجغرافية مثل دلتا النيل، حيث إن الملايين من الناس في دلتا النيل معرضون للخطر وإعادة التوطين وضياع استثمارات تقدر بمليارات الدولارات.
وبات من المتوقع خلال الفترة القادمة هجرة ما لا يقل عن 5 ملايين شخص من دلتا النيل إذا لم تُتخذ إجراءات التكيف المناسبة، كما أشار عبد العاطي، هذا بخلاف ما تتنبأ به دراسات تغير المناخ بانخفاض إنتاجية محصولين رئيسيين في مصر (القمح والذرة) بنسبة 15% و19% على التوالي بحلول عام 2050، وتمليح نحو 15% من أكثر الأراضي الصالحة للزراعة في دلتا النيل، هذا دون إغفال تأثيرات تغير المناخ على أنماط سقوط الأمطار في حوض النيل وتأثيرها على تدفقه.
وزير الري المصري محمد عبد العاطي
الوزير اختتم كلمته بأن هذا الوضع المعقد لمصر مائيًا وما يتخلله من تهديدات مباشرة لمستقبل الملايين من المصريين، لا يمكن معه قبول انتقاص حقوق مصر التاريخية والاستخدامات الحاليّة في مياه النيل، مضيفًا “لا أحد على الأرض سيقبل بموت شعبه بسبب العطش والمجاعة، وأيضًا لا يمكن إهمال الوضع البيئي والاقتصادي الصعب في الدول الشقيقة في حوض النيل”.
تصريحات وزير الري بشأن الفقر المائي ليست الأولى من نوعها الصادرة عن مسؤولين مصريين، ففي مارس/آذار 2017 أشار وزير الإسكان والمرافق مصطفى مدبولي (رئيس الحكومة الحاليّ) خلال مشاركته في مؤتمر تحلية المياه بالمملكة العربية السعودية إلى تراجع نصيب الفرد من المياه بصورة ملحوظة مقارنة بالنسب العالمية، حيث ألمح أن نصيب الفرد في مصر سنويًا من المياه النقية بلغ 700 متر مكعب العام الماضي في حين أن الحد الأدنى الذي أقرته الأمم المتحدة هو 1000 متر مكعب، وإلا تعتبر الدولة في مرحلة فقر مائي.
الوزير أوضح أن إجمالي ما تنتجه مصر يوميًا من المياه تجاوز الـ25 مليون متر مكعب، 85% منها عن طريق مياه نهر النيل و15% عن طريق المياه الجوفية، في حين لا تتعدى المياه المحلاة 0.1% من إجمالي المياه المنتجة، وهو ما يتطلب إعادة النظر في المصادر الأساسية للمياه وضرورة تنويعها.
مدبولي ألمح أيضًا أنه وفي ظل المعدل التقليدي للزيادة السكانية السنوية فمن المتوقع تفاقم الأزمة خلال السنوات القادمة، ما يجعل من قضية تحلية المياه قضية أمن قومي رغم كلفتها العالية، ومن ثم تسعى الدولة إلى توطين تكنولوجيا صناعة تحلية المياه بمصر بالتعاون مع وزارة الإنتاج الحربى والهيئة العربية للتصنيع وتشجيع القطاع الخاص، وكذا التعاون مع الدول العربية المتقدمة فى هذا المجال، لا سيما السعودية التي تحتل المرتبة الأولى عالميًا فى هذا المجال.
بات من المتوقع خلال الفترة القادمة هجرة ما لا يقل عن 5 ملايين شخص من دلتا النيل، إذا لم تُتخذ إجراءات التكيف المناسبة
جدل يعكس القلق
أثارت تصريحات وزير الري المصري حالة من الجدل بين خبراء الموارد المائية والمهتمين بقضايا المناخ، فمنهم من يراها مبالغة وتهويل غير منطقي للوضع الراهن، وآخرون يعتبروها ناقوس خطر يسلط الضوء على الكوارث المتوقع حدوثها مستقبلًا إن لم يتحرك المسؤولون في أسرع وقت.
فريق منهم ذهب إلى أن تصريحات الوزير التشاؤمية نوع من الدعاية المستخدمة والفزاعة لبعض الأغراض، على رأسها تبرير فشل الحكومات والأنظمة في إدارة الملف منذ البداية، وأنه في حال نقص حصة الفرد من المياه فإن ذلك لا يعني نهاية المطاف، إذ إن هناك وسائل بديلة أخرى لتعويض هذا النقص، لكن – وبحسب أنصار هذا الفريق – ليس لدى المسؤولين أي قدرات إبداعية أو رؤى وخطط للخروج من هذا المأزق.
فيما أشار فريق آخر إلى أن ما تحدث عنه وزير الري هو نِتَاج بحوث سابقة عن انخفاض المحاصيل، وتطرقه لأزمة وجود مهاجرين في الفترة المقبلة أمر صحيح لأن منسوب مياه البحر سيرتفع لمسافة متر مكعب وستخرج أراضٍ كثيرة من رقعة الأراضي الزراعية بعد أن تغمرها المياه وستؤدي لهجرة أصحابها، وذلك وفقًا لما قالته أبحاث عديدة على رأسها أبحاث المنظمة الدولية لتغير المناخ.
وعلى كل حال.. فإن حالة الجدل التي أثارتها تلك التصريحات تعكس بصورة واضحة حالة القلق التي تسيطر على الشارع المصري جراء ما تحمله الأيام المقبلة من مخاطر ربما تهدد حياة الملايين وتدخلهم وبمنتهى السرعة مرحلة “الفقر المائي”، وبينما تصر الحكومة والنظام على الالتفاف على الفشل في الحفاظ على حصة مصر من المياه بدبلوماسية من نوع جديد تعزف على أوتار عاطفة الشعب وتفتقد لأبجديات الإستراتيجيات المعترف بها دوليًا، تقترب أديس أبابا من إكمال بناء مشروعها القومي الأكبر في تاريخها.