خطوة مهمة خطاها العراق وتركيا لتعزيز تعاونهما الأمني والعسكري، إذ اتفقا على إنشاء مراكز تنسيق أمنية مشتركة في مدينتي بغداد وبعشيقة، وذلك في مذكرة تفاهم تُعد الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات بين البلدين.
وتهدف اتفاقية التعاون هذه، إلى مواجهة التحديات الأمنية المشتركة وعلى رأسها مكافحة الإرهاب، إذ يعوّل مسؤولو البلدين على أهمية هذه المراكز وتأثيرها المحتمل على الأمن الإقليمي والعلاقات الثنائية.
تعزيز التعاون الأمني والعسكري
يمثل إنشاء مراكز التنسيق الأمنية المشتركة خطوة استراتيجية، ذلك أنّ عملها لن يقتصر على تبادل المعلومات الاستخباراتية، بل ستساهم أيضًا في تنسيق العمليات المشتركة بين البلدين.
ووقع وزيرا الدفاع التركي والعراقي، على “مذكرة تفاهم بشأن التعاون العسكري والأمني ومكافحة الإرهاب” عقب الاجتماعات التي عقدت بالعاصمة أنقرة في 15 أغسطس/آب 2024.
وبحسب الاتفاق الذي وصفه الطرفان بـ”التاريخي”، سيتم إنشاء مركز التنسيق الأمني المشترك في العاصمة العراقية بغداد، كما سيتم نقل مسؤولية القاعدة التركية في بعشيقة إلى القوات العراقية، وسيعمل هناك مركز التدريب والتعاون المشترك التركي العراقي.
ويؤكد الخبير الاستراتيجي، صفاء الأعسم، أن هدف العراق من هذا الاتفاق المبدئي لإنشاء المراكز الأمنية المشتركة هو معالجة مشكلة التوغل التركي داخل الأراضي العراقية وما صاحبه من تجاوزات وإخلاء قرى وضرب وقصف وهذا ما لا تسمح به المؤسسة العسكرية العراقية.
وأوضح في حديثه لـ”نون بوست” أن إنشاء مراكز التنسيق المشتركة تمنع الجانب التركي من التصرّف بأي سلوك داخل العراق من دون موافقة عراقية، وهذه خطوة أولية باتجاه التوصل إلى إنهاء وجود القواعد التركية في العراق أو تحديد مهامها لتكون مقتصرة على التدريب دون شن عمليات قتالية.
محاربة الإرهاب وتأمين الحدود
تأتي هذه المراكز الأمنية كاستجابة مباشرة للتحديات التي تواجه العراق وتركيا في مواجهة النشاط الذي تمارسه بعض التنظيمات المصنّفة على قوائم الإرهاب، خاصةً مع تصاعد التهديدات على الحدود المشتركة.
ويأمل الجانبان في أن يسهم هذا التعاون في تعزيز فعالية العمليات الأمنية وتوفير منصة لتنسيق الجهود للحد من نشاط الجماعات المسلحة، التي كانت تشكل مصدرًا للاضطراب لسنوات طويلة.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها “بي بي سي الناطقة بالتركية” من مصادر دبلوماسية، فإنه بموجب الاتفاقية، ستقوم تركيا والعراق بإنشاء مركزين مهمين على أراضي العراق وتنفيذ التعاون المتضمن في الاتفاقية.
وأوضح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن عمل مركز التنسيق الأمني المشترك في بغداد، سيتركّز على ملاحقة الإرهاب وعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود مثل الإتجار بالبشر والمخدرات.
أما المركز الثاني فسيتم إنشاؤه في قاعدة بعشيقة الواقعة بالقرب من الموصل والخاضعة لسيطرة الجيش التركي منذ عام 2015، عندما أرسلت تركيا جنودًا إلى هذه القاعدة لتدريب ودعم القوات المسلحة العراقية بعد سيطرة تنظيم داعش على الموصل.
ورغم مرور سنوات على سيطرة الحكومة المركزية على المدن العراقية، لم تنسحب القوات التركية، ورغم مطالبة الحكومات العراقية من تركيا إخلاء القاعدة، فإنها لم تتلق ردًا إيجابيًا.
وبموجب هذه الاتفاقية، ستتحول قاعدة بعشيقة إلى معسكر تدريب، وستكون مسؤولية إدارتها على عاتق القوات المسلحة العراقية، بحسب وزير الخارجية العراقي.
وفي معرض حديثه عن المراكز المزمع إنشاؤها، قال وزير الخارجية هاكان فيدان: “كل هذه المراكز ستسمح للبلدين بالعمل معًا في الحرب ضد الإرهاب، وخاصة حزب العمال الكردستاني”، معربًا عن ارتياح أنقرة لقرار بغداد حظر أنشطة ثلاثة أحزاب تابعة لحزب العمال الكردستاني، فيما أكدّ وزير الخارجية العراقي بأن هذه “الخطوة يجب أن تؤخذ كمؤشر على تصميم بغداد على مكافحة إرهاب حزب العمال الكردستاني وجبهاته”.
وحول ذلك يقول الخبير المختص بالشأن العراقي الدكتور بشار العكيدي، إن المتتبع للشأن السياسي العراقي منذ عام 2003 يجد أن العراق أصبح ساحة مفتوحة للصراعات السياسية الإقليمية والدولية، ولتجاوز هذه المرحلة وضمان عدم تكرارها يستوجب التنسيق السياسي والأمني مع دول الجوار، لذلك فإن مراكز التنسيق المشتركة والمزمع إنشاؤها بين العراق وتركيا هي بداية العمل الصحيح في هذا الشأن.
ويضيف العكيدي في حديثه لموقع “نون بوست” يجب على هذه المراكز ألا تجعل عملها محدودًا بين الجانبين، فلا بد من التنسيق مع دول الجوار من خلال تبادل المعلومات الأمنية والاستخبارية التي تصب في مصلحة العراق وتركيا ودول المنطقة، لا سيما أن الإرهاب لا يفرق بين أحد.
أبعد من التعاون الأمني
ويحمل إنشاء هذه المراكز الأمنية المشتركة في طياته دلالات تتجاوز التعاون الأمني إلى تعزيز العلاقات الثنائية بين العراق وتركيا، ويمكن لهذا التعاون أن يشكل قاعدة صلبة لتوسيع العلاقات في مجالات عديدة، خاصة فيما يتعلق بمسار مشروع طريق التنمية الذي من المؤمّل أن يزيد متانة الشراكة بين البلدين.
ورجح العكيدي أن تسهم هكذا مراكز مشتركة في تعزيز التعامل بشكل أكبر خاصة في مجالات الاقتصاد والسياسة والطاقة والمياه وطريق التنمية، لا سيما أن هنالك مشتركات كبيرة بين الجانبين.
بدوره أشار الأعسم إلى أن كل الاجتماعات بين البلدين هي جزء من الاستعدادات لغرض تأمين مسار مشروع طريق التنمية المزمع إنجازه، وستتعاون جميع الدول المشتركة في إنشاء هذا الطريق، الذي يحظى باهتمام القائد العام للقوات المسلحة العراقية الذي أمر بإنشاء مراكز أمنية كثيرة على مساره لضمان نجاحه.
وتأتي الاتفاقية الأخيرة نتيجة سلسلة اجتماعات مماثلة عقدها الجانبان في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي ومارس/آذار 2024، والتي تعهّدت خلالها كل من أنقرة وبغداد على التعاون، خاصة في المجال الأمني.
وخلال زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى العراق في أبريل/نيسان الماضي، جرى التوقيع على 27 اتفاقية ومذكرة تفاهم، واتخذ الطرفان خطوات لتعميق الشراكة في مجالات أخرى مثل الاقتصاد والتجارة والمياه والطاقة والكهرباء والنقل، فضلًا عن الأمن.
واتفق الطرفان على المضي قدمًا وإنهاء التطورات والتحضيرات في هذه المجالات من خلال اللجان الدائمة المشتركة التي أنشأوها.
تحديات
رغم أهمية مراكز التنسيق الأمني في تعزيز التعاون بين العراق وتركيا، فإنها قد تواجه تحديات معقدة تشمل اختلافات سياسية محتملة داخل العراق، وصعوبات لوجستية في إدارة العمليات المشتركة.
ويعتقد العكيدي أن أهم التحديات التي سيواجهها عمل هذه المراكز تتمثل في مصداقية المعلومات التي سيوفرها الجانبان سواء العراقي أم التركي، فلا بد أن يعتمد الجانبان على معيار الثقة وتغليب مصلحة البلدين من أجل أن تكون هذه المراكز فعالة.
وشدد العكيدي على أهمية توفير الدعم المالي واللوجستي وتوفير الكوادر المناسبة التي تمتاز بخبرتها في إدارة مثل هكذا مراكز، إضافة إلى توفير بيئة مناسبة للعمل فيها من خلال تأمين مناطقها وضمان عدم تعرضها لأي اعتداء أو خلل أمني قد يتسبب في تلكؤ عملها.
من جانبه رجح الأعسم أن تتعرض هذه المراكز إلى هجمات من مسلحي حزب العمال الكردستاني، مشيرًا إلى أنه قد يجري اللجوء إلى نقل بعض القرى الحدودية إلى مسافات آمنة ما بينها وبين الحدود التركية، وهذه لن تمرّ بسهولة، وقد تحدث بعض المشكلات مع سكان تلك المناطق.