تزامن إعلان قائد الدعم السريع في السودان، الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تكوين قوة لحماية المدنيين في مناطق سيطرة المليشيا، مع أنباء مجزرة جديدة ارتكبتها قواته في منطقة جلقني التابعة لولاية سنار، وسط البلاد، وراح ضحيتها 80 مواطنًا.
وفي آخر تسجيلاته المصورة، خرج حميدتي مرتديًا أثواب المسيح، ليبشر السودانيين بانحيازه لخيار السلام، وداعيًا الجيش للتراجع عن قراره بمقاطعة مفاوضات سويسرا التي ترعاها الولايات المتحدة لإنهاء الاقتتال الدامي في السودان.
بيد أن حميدتي في ظهوره عشية مفاوضات جنيف، لم يضبط ساعته بشكل جيد، إذ أسهب في الحديث عن حماية المدنيين بمناطق سيطرة ميليشياته، في الوقت الذي كان تضج وسائل التواصل بالتنديد بمجزرة جديدة ارتكبتها قواته في ولاية سنار.
وأعلنت الحكومة السودانية، مقاطعة مفاوضات جنيف، واشترطت للانخراط فيها، التزام الدعم السريع بمخرجات مفاوضات جدة (مايو/أيار 2023)، وعلى رأسها خروج عناصر المليشيا من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين، بالإضافة إلى شرط ثانٍ بنزع صفة المراقب عن دولة الإمارات التي تتهمها بورتسودان بدعم قوات حميدتي عسكريًا.
تشكيل القوة
كشف حميدتي في التسجيل عن تشكيل قوة لحماية المدنيين في مناطق الدعم السريع، لتضمن عودة المواطنين إلى منازلهم، وتتلقى بلاغات المحاسبة عن أي تفلتات، منوهًا إلى أنها ستبدأ مهامها تدريجيًا ووتوسع في أعمالها لتغطي كل الولايات.
وتأتي تصريحات حميدتي عن حماية المدنيين، بعد تعدد المذابح التي ارتكبتها قواته، ما دفع الأمم المتحدة والولايات المتحدة وكثير من الدول لإدانة تصرفات الدعم السريع التي ترقى إلى الإبادة الجماعية.
وكانت أشهر الانتهاكات التي ارتكبتها المليشيا، في مدينة الجنينة بإقليم دارفور غربي البلاد، ثم قتلت وجرحت العشرات في مجزرة بقرية ود النورة بولاية الجزيرة، وسط السودان، وانتهت بقتل 80 آخرين في قرية جلقني بولاية سنار.
وإن كانت هذه المجازر ذاعت لكثرة قتلاها، فإن صفحات وسائل التواصل لا تخلو يوميًا من جرائم قتل المدنيين على يد عناصر المليشيا، وبالطبع مع جرائم أخرى لا تقل فداحةً، وعلى رأسها تهجير ملايين المواطنين العزل عن منازلهم بصورة قسرية، ويحدث ذلك عادة في المناطق التي تجتاحها قوات حميدتي.
وأودى القتال بحياة ما يقارب 17 ألف سوداني، وأجبر 11 مليون على مغادرة منازلهم، فيما جرى تدمير غير مسبوق لمشروعات البنى التحتية.
جدل معتاد
أثار خطاب حميدتي عن تشكيل قوة لحماية المدنيين الكثير من الجدل في أوساط السودانيين الذين فرقتهم الحرب أيدي سبأ.
وأظهرت ردود الفعل تحيزات واضحة لأنصار طرفي الصراع (الجيش والمليشيا) بينما حاولت بعض الأصوات الرافضة لسلوك العسكر، إخضاع الحديث للتحليل الموضوعي، وإن كان ذلك يجري في سياقات حرب يصفها أطرافها أنفسهم بأنها “عبثية”.
خطاب موضوعي
امتدح مستشار قائد الدعم السريع، الباشا طبيق، قرار تشكيل قوة حماية المدنيين، وقال عبر منصة أكس: “قرار إنشاء قوات خاصة لحماية المدنيين يؤكد التزام الدعم السريع بحماية المدنيين، ما يكذب ادعاءات وأكاذيب غرف إعلام الكيزان”.
والكيزان هو مصطلح يطلق على أنصار نظام الرئيس المعزول عمر البشير (1989 – 2019) الذين يجري اتهامهم بشكل واسع من قبل الدعم السريع، وبعض القوى المدنية، والعواصم الخارجية، بأنهم من أشعلوا فتيل الحرب، ويدفعون قائد الجيش، الجنرال عبد الفتاح البرهان لتبني خيار الحرب، على أمل عودتهم مجددًا إلى سدة الحكم.
ويؤيد هذا الرأي، المحلل السياسي، سالم الرضي، الذي ذهب إلى وجود حاجة ماسة لحماية السودانيين من “تصرفات الجيش المختطف بواسطة الإسلاميين”، على حد قوله.
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” بأن قوات الدعم السريع، تتلقى كثيرًا من اللوم على جرائم لم ترتكبها، وتنفذها عناصر إرهابية، لإشانة سمعة القوة التي تسيطر على نحو 70% من مساحة السودان، وأشار إلى أن الدعم السريع ملتزمة بحماية المدنيين، ولا تتحرك عسكريًا إلا لحسم المتفلتين أو الرد على الهجمات التي يتعرض لها عناصرها بصورة غادرة من محسوبين على الجيش.
وختم بالقول “درج قائد الدعم السريع على ترجيح خيار السلام رغم غلبة قواته في الميدان، ما يؤكد التزامه جانب الأهالي، وإيمانه بقيم الديمقراطية والحرية”.
كذب بواح
في المقابل، يرى الصحفي أنس بشرى، أن حديث حميدتي عن تشكيل قوة لحماية المدنيين، دليل دامغ على تورط المليشيا في ارتكاب الفظائع والانتهاكات.
وقال لـ”نون بوست” إن حميدتي غير مؤهل أخلاقيًا للحديث عن حماية المدنيين، لأن قواته هي التي تقتل وتشرد المواطن في مناطق سيطرتها، وتدمر المستشفيات، وتقصف المدنيين في الولايات التي لم تطالها الحرب، وشدد على أن حديث حميدتي عن السلام عمومًا، وعن حماية المدنيين على وجه الخصوص، ما هو إلا ذر للرماد في العيون لحجب حقيقة الانتهاكات التي ترتكبها قواته ليلًا ونهارًا.
تأييد مع التحفظ
وصفت القيادية في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، سمر آدم، حديث حميدتي عن تشكيل قوة لحماية المدنيين، بأنه إيجابي ويصب في صالح دعم السلام، لكنها عادت ونوهت إلى أن أقوال الرجل تحتاج إلى برهان على أرض الواقع.
وأكدت سمر في حديثها لـ”نون بوست” ألمها الشديد جراء تعرض المدنيين لانتهاكات غير مسبوقة على يد طرفي الصراع، ممثلة في الهجمات التي يشنها الجيش بسلاح الطيران، وحالة الرعب التي يبثها جنود الدعم السريع في هجماتهم التي لا تتوقف على سكان القرى والمدن وتعطشهم الشديد لاجتياح ولايات جديدة.
ما بعد القرار
تزامنت أحاديث حميدتي عن قوة حماية المدنيين، كما أشرنا آنفًا مع مجزرة جلقني، ومن بعدها قصفت قواته مستشفى النو الذي يقدم خدماته لأهالي مدينة أم درمان، فيما كشفت صحفية دارفور 24 عن فرض المليشيا رسومًا على أهالي بعض قرى محلية الحصاحيصا التابعة لولاية الجزيرة بدعوى حمايتهم من الانتهاكات.
وعليه، فإن حديث حميدتي عن حماية المدنيين في حاجة إلى أن يصدقه العمل، هذا وإلا ذهبت القوة الجديدة مع الريح، شأنها في ذلك شأن لجنة حسم التفلتات والظواهر السالبة التي كونها الجنرال في يونيو/حزيران 2023.