نقلت هيئة البث الرسمية الإسرائيلية، عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين، وصفتهم بـ”الكبار” مساء الجمعة 16 أغسطس/آب الجاري، قولهم إن نشاط الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة قد انتهى، والجيش بإمكانه “العودة إلى القطاع عندما تكون هناك معلومات استخباراتية جديدة، لكن كقاعدة عامة انتهى نشاط الجيش الإسرائيلي في غزة”.
وأضاف المسؤولون – مجهولو الهوية – بحسب الهيئة أن “قيادة الجيش الإسرائيلي أخبرت صناع القرار في تل أبيب، أن لواء رفح التابع لحركة حماس قد تم حلّه، وأنه غير موجود تقريبًا، وقالوا هذه الأشياء على المستوى السياسي خلال مناقشات تقييم الوضع الأمني في الآونة الأخيرة”، لافتين إلى أن المؤسسة الأمنية أخبرت المستوى السياسي أن “هذا الوقت المناسب لتنفيذ صفقة تبادل الأسرى، بعد أن تم حل معظم الوحدات القتالية التابعة لحماس” على حد زعمها.
ورغم هذا التطور اللافت الذي حملته تلك التصريحات التي تفتح بدورها الباب على مصراعيه أمام كثير من الاحتمالات والسيناريوهات التي تتعلق بمستقبل الحرب في غزة، لم يصدر بيان رسمي بشأنها من الجانب الإسرائيلي أو أي تعقيب من جانب المقاومة، الأمر الذي يطرح تساؤلات عدة حول دلالات تلك الأنباء ومدى جديتها وانعكاسها على ميدان المعركة.
سياق مهم
قبل الولوج في دائرة القراءات والتفسيرات المتعددة لما تحمله تلك التصريحات المفاجئة من دلالات ورسائل، لا بد من الإشارة أولا إلى السياق العام الذي خيم على أجواء إصدارها، سواء من حيث التوقيت أم النسق الظرفي.
أولا: التوقيت.. جاءت تلك التصريحات بعد انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات التي جرت في الدوحة خلال اليومين الماضيين والتي اعتبرها البعض الفرصة الأخيرة للتوصل إلى اتفاق وإنهاء تلك الحرب التي تجاوزت شهرها العاشر، وهي الجولة التي تمت برعاية ووساطة مصر وقطر والولايات المتحدة.
وكانت الدول الثلاث قد أصدرت بيانًا مشتركًا أكدت فيه على أنه لا مجال لتقويض الجهود الدبلوماسية هذه المرة لوقف إطلاق النار في القطاع، بعدما تدحرجت كرة النار لمستويات يخشى معها إشعال المنطقة والدخول في حرب إقليمية مفتوحة.
واتهمت عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة وبعض النخب السياسية، رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بعرقلة المفاوضات من خلال فرض شروط معروف سلفًا رفض المقاومة لها، وسعيه المستمر لإطالة أمد الحرب وتوسعة رقعتها لخدمة أهدافه السياسية الخاصة، حتى لو كان الثمن التضحية بالمحتجزين الإسرائيليين.
ثانيًا: توتر العلاقة بين المؤسستين، السياسية والعسكرية.. تتزامن تلك التصريحات، غير المؤكدة وغير المعلق عليها من جانب الحكومة الإسرائيلية، مع توتير الأجواء بين المؤسستين الأمنية والسياسية وبلوغها مستويات غير مسبوقة، في ظل التباين الواضح في وجهات النظر بشأن إدارة الحرب واليوم التالي لها.
وبلغ هذا التوتر حد الحديث عن نية نتنياهو إقالة وزير دفاعه، يواف غالانت، والذي يمثل غصة في حلق رؤيته المدعومة باليمين المتطرف والرامية إلى إطالة أمد الحرب قدر الإمكان بصرف النظر عن التطورات الميدانية، وهي الرؤية التي تتعارض مع جنرالات الجيش الذين يرون فيها استنزافًا لقدرات المؤسسة العسكرية لصالح أطماع نتنياهو السياسية.
ثالثًا: استمرار عمليات الجيش.. بالتزامن مع تلك التصريحات التي تشي في ظاهرها بإنهاء العمليات العسكرية في قطاع غزة، طالب جيش الاحتلال سكان مخيم المغازي للاجئين ومناطق أخرى وسط قطاع غزة بإخلاء منازلهم استعدادًا لشن عملية عسكرية بـ”شكل فوري”، كما جاء على لسان متحدث الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي عبر حسابه على منصة “إكس”.
وتشير تلك الأوامر إلى استمرارية العمليات والاستهدافات والتواجد العسكري لقوات الاحتلال وتمركزاتها بشكل طبيعي داخل القطاع، هذا بخلاف الحديث عن أوامر إخلاء جديدة محتملة في مدينتي خان يونس ودير البلح وبمناطق شمالي القطاع، لتنفيذ بعض العمليات فيها بحجة تواجد عناصر للمقاومة هناك.
3 قراءات
التصريحات بصيغتها تلك، والمنقولة عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين لم يتم ذكر أسمائهم وإن وصفوا بـ”الكبار”، وغير المعلق عليها رسميًا، سواء من حكومة نتنياهو أم المقاومة، تفتح الباب أمام قراءات متباينة، أبرزها:
أولًا: الضغط على نتنياهو.. القراءة الأبرز والأهم لتلك التصريحات أنها تندرج تحت إطار الضغط الممارس من الجيش على نتنياهو لقبول صفقة تبادل مع المقاومة ووقف إطلاق النار في أقرب وقت، تماشيًا مع المزاج الشعبي الضاغط بهذا الاتجاه.
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت قد اتهم نتنياهو نهاية يوليو/تموز الماضي بعرقلة المفاوضات ووضع شروط صعبة على طاولة النقاش لإجهاض أي جهود من شأنها التوصل لاتفاق مع المقاومة، متهمًا إياه بالعمل على إضاعة تلك الفرصة لأسباب شخصية، وهي الاتهامات التي قوبلت بانتقاد حاد من نتنياهو، فوصفها بأنها تتطابق وسردية حماس التي تتهم رئيس حكومة الكيان بعرقلة التوصل إلى أي اتفاق محتمل.
وينطلق غالانت وقادة جيشه في هذا الضغط – بجانب العمل لأجل إطلاق سراح المحتجزين لدى المقاومة – من قاعدة القلق خشية توسعة دائرة الحرب وتدحرج كرة النار لتتجاوز حدود فلسطين الضيقة إلى ما هو خارجها، خاصة بعد تهديدات إيران وحزب الله المستمرة ردًا على اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر، بما يعني إقحام جيش الاحتلال في أتون حرب واسعة من جوانب عدة، الأمر الذي يهدد مستقبله خاصة بعد الخسائر التي مني بها في غزة على أيدي جبهة واحدة من جبهات المقاومة.
ثانيًا: تقليل الخسائر العسكرية.. لم يتعرض جيش الاحتلال لخسائر في صفوفه وعتاده منذ عام 1948 كالتي تعرض لها في تلك الحرب الراهنة داخل غزة، فوفق معطيات الجيش الإسرائيلي أسفرت تلك الحرب عن إصابة 10 آلاف و56 عسكريًا، بين ضابط ومجند، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي (من بينهم 3700 إصابة في الأطراف، 192 في الرأس، 168 في العين، 690 في الحبل الشوكي، 50 حالة بتر للأطراف).
وبحسب البيان الصادر عن هيئة البث الإسرائيلية، فإن “35% من الجرحى (الجنود) يعانون القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، و37% يعانون من إصابات بالأطراف” وأن “68% من الجنود الجرحى هم من جنود الاحتياط ومعظمهم من الشباب، حيث إن 51% منهم تتراوح أعمارهم ما بين 18 و30 عامًا، و31% تتراوح أعمارهم ما بين 30-40 عامًا”، هذا بخلاف أن نحو 28% من جميع الجرحى (حوالي 2800) أفادوا بأن التأقلم العقلي هو إصابتهم الرئيسية.
ثالثًا: الهروب من فخ غزة.. وصلت الحرب في غزة إلى طريق شبه مسدود، حرب بلا رؤية ولا هدف ولا استراتيجية، قتل من أجل القتل، وتدمير بغية التدمير، دون تحقيق أي من الأهداف المعلنة سابقًا، وبات الحديث عن تدمير حماس رفاهية لا يتمتع بها الكثيرون من هواة التصريحات الشعبوية الرنانة، خاصة بعد تأكيد جنرالات وساسة إسرائيليين كبار أن هذا الأمر مستحيل.
واستقر في يقين غالانت وبقية قادة الجيش أنهم وصلوا إلى ذروة تلك الحرب، فلا جديد لديهم لتقديمه، ولا إضافة يمكن الدفع بها لتغيير المشهد ميدانيًا، وعلى العكس من ذلك فإن استمرارهم يعني مزيدًا من الاستنزاف بعدما غيرت المقاومة تكتيكاتها القتالية لتعتمد على استراتيجيات العمليات النوعية والاستهدافات الدقيقة التي يتساقط فيها جنود الاحتلال واحدًا تلو الآخر.
في ضوء تلك الأجواء فإن البقاء في القطاع بتلك الكيفية مقامرة غير محمودة العواقب، مع تصاعد الخسائر يومًا بعد يوم، الأمر الذي يتطلب وضع حد لهذا الأمر، والبحث عن آليات واستراتيجيات أخرى للقتال لا تتطلب بقاء الجيش بهذه الأعداد داخل غزة، وعليه فإن مثل تلك التصريحات – بصرف النظر عن أهدافها ورسائلها وهوية مصدرها – هي اعتراف رسمي بالفشل في تحقيق الأهداف ومحاولة الخروج من هذا المستنقع بطريقة تحفظ لجيش الاحتلال ماء وجهه.
انعكاسات تلك التصريحات ميدانيًا
تجدر الإشارةـ إلى أن تلك التصريحات طالما أنها لم تصدر عن وزير الدفاع أو رئيس الأركان، فلا يمكن التعويل على دقتها بشكل كامل، حتى إن كان مصدرها مسؤولون كبار في المؤسسة العسكرية كما وصفتهم هيئة البث الإسرائيلية، ومن ثم يمكن التعامل معها في ضوء التسريبات أو التخمينات أو التوقعات، أو كما يحلو للبعض تسميتها “جس نبض”.
ومن زاوية أخرى ورغم الخلاف البيّن بين المؤسستين، العسكرية والسياسية، داخل الكيان الإسرائيلي، فإن قرار إنهاء العمليات العسكرية داخل قطاع غزة بالشكل الذي فسره كثير من المتابعين لتلك التصريحات، لا يمكن أن يكون فرديًا، بمعزل عن التنسيق مع القيادة السياسية ممثلة في الحكومة ومجلس الحرب المصغر.
ومن ثم فالميل نحو تفسير تلك التصريحات على أنها إنهاء للعمليات العسكرية داخل القطاع، يجانبه الصواب، أو ربما يكون مستبعدًا في الوقت الراهن على الأقل إن لم يكن في إطار توافق وقرار منسق مع الجانب السياسي، وهو ما تؤكده العديد من الشواهد على رأسها أوامر الإخلاء التي أصدرها جيش الاحتلال بعد ساعات قليلة من خروج تلك التصريحات، هذا بخلاف سوابق القوات الإسرائيلية إزاء هذا الأمر منذ بداية الحرب، حيث الإعلان أكثر من مرة عن إنهاء العمليات في منطقة ما ثم تعاودها مرة أخرى، مفسرة ذلك بالانتقال من مرحلة إلى أخرى ضمن خطة الحرب الموضوعة، وهو ما يشكك في جدية التعامل مع مثل تلك التصريحات.
وعليه فالقراءة الأكثر واقعية لتلك الأخبار، وما تنطوي عليه من مناورات سياسية في ثوب عسكري، تدور في إطار مسارين رئيسيين:
الأول: احتمالية إنهاء العمليات العسكرية لكن ليس بالشكل الكامل، وذلك باللجوء إلى تغيير مستوياتها وشكلها، من العمليات الشاملة إلى النوعية المبنية على معلومات استخباراتية، وهي سياسة الاغتيالات والاستهدافات المباشرة التي لجأت إليها قوات الاحتلال خلال الآونة الأخيرة.
الثاني: احتمالية الانسحاب من القطاع لكن ليس بصورة كلية، حيث التمركز في بعض النقاط الاستراتيجية، كمحور فيلادلفيا لحرمان المقاومة من شريانها الأبرز عبر الحدود المصرية، ومحور نتساريم حيث الفصل بين الشمال والجنوب وضمان عدم عودة المسلحين لشمال القطاع، وهو ما يتناغم بشكل أو بآخر مع مقاربات نتنياهو وحلفائه.
هناك قراءة أخرى يطرحها البعض تفسيرًا لتلك التصريحات، مستندة إلى جديتها، مفادها أن جيش الاحتلال أوشك فعليًا على إنهاء عملياته في غزة، لكن ليس بهدف إنهاء القتال في القطاع، بل لتجييش العدة والعتاد لنقل المعركة صوب الجبهة اللبنانية التي شهدت خلال الساعات الماضية حراكًا كبيرًا واستعراضًا للقوى بين الطرفين.
وفي الأخير.. أيًا كانت دلالات تلك التصريحات ومدى جديتها من عدمه، وسواء كانت رسالة ضغط أم مناورة من المؤسسة العسكرية، يبقى أداء المقاومة وصمودها وثبات الغزيين – رغم الكلفة الباهظة – ورقة الضغط الأهم والأبرز لإجبار الاحتلال على إنهاء الحرب ووقف القتال والقبول بصفقة تبادل لإنقاذ ما تبقى من أسراه، بعدما فشل في تحقيق كل أهدافه التي أعلنها عند بداية الحرب.